يخضع تدريس الأدب في المدرسة لكثير من الإبدالات الديداكتيكية، والطرائق البيداغوجية التي ترسم له أفقا محددا ينشد أهدافا تكوينية محضة، «فالمدرسة لا تعلم معارف خالصة، بل شيئا لا يملك وجوده إلا داخل المدرسة «1. من هذا المنطلق، يتأثر درس الأدب -كغيره من الدروس- بعوامل ومؤثرات ناتجة عن خصوصيات المادة الدراسية، فانتقال الأدب من حقل المعرفة العالمة إلى حقل المعرفة المدرسية تنتج عنه إكراهات وتأثيرات مثل عمليتي التبسيط والدوغمائية إذ»يخضع مجال معرفي ما، أو مفهوم ما، لتحويل عميق بمجرد دخولهما ضمن مقرر دراسي، فهما يصبحان مجردين من طبيعتهما ليتخذا وضعا آخر، إنهما يلجان منطقا آخر، وعقلانية أخرى،لأن ضوابط البيداغوجيا ستمنحهما شكلا جديدا2. في ظل هذا الوضع الملتبس للأدب في المدرسة، والمحكوم بإكراهات ديداكتيكية، يمكننا أن نتساءل هل يخْلصُ التعليم المدرسي لجوهر الأدب ورسالته النبيلة، أم أنه يزج بالأدب ضمن متاهات الطرائق والمفاهيم والمناهج(القراءة المنهجية، المعرف النقدية...)؟. قد نعثر على جواب عن هذا التساؤل بين دفتي الإصدار الجديد لتزفيطان طودوروف «الأدب في خطر» la littérature en peril» (2007) ترجمة عبد الكبير الشرقاوي،وهو كتاب قيم يفصح عنوانه عن الوضعية الحرجة التي آل إليها الأدب في المدرسة الفرنسية. فما طبيعة هذا الخطرالذي يتهدد الأدب في التعليم الفرنسي؟ ومن/ ما المسؤول عن تردي وضعيته:المدرسون- المناهج والبرامج - براغماتية الكفايات- نمذجة الامتحانات..؟ ذلك ما سنحاول إبرازه من خلال قراءتنا لهذا الكتاب الذي يدق صاحبه ناقوس الخطر حول مآل درس الأدب في المدرسة الفرنسية،غايتنا في ذلك محاولة تبيئة هذا النقاش الأكاديمي/ التربوي، ونقله إلى الساحة التربوية المغربية، وهو نقاش سيفتح- لا محالة- مسالك جديدة ورؤى مستحدثة حول مستقبل الأدب في المدرسة العمومية. يعلن طودوروف بكثير من الدهشة والاستغراب عن ضمور الأدب في المدرسة الفرنسية، وتباين زوايا النظر إليه إذ يقول»:بمرور الزمن اكتشفتُ بشيء من الدهشة أن الدور الرفيع الذي كنت أسنده إلى الأدب لم يكن الجميع يعترف به، أول ما أثارني في هذا التباين كان في التعليم المدرسي «3. بعد ذلك ، ستتضح الرؤية أكثر لدى طودوروف من خلال مشاركته مابين 1994 و2004 ضمن المجلس الوطني للبرامج» بفرنسا في لجنة استشارية متعددة التخصصات تابعة لوزارة التربية الوطنية، إذ سيقف الباحث على حقيقة مفادها» أن فكرة عن الأدب مغايرة تماما توجد في الأصل، ليس فحسب من ممارسة بعض الأساتذة المنعزلين، بل أيضا من نظرية هذا التعليم والتعليمات الرسمية المؤطرة له»4. ومن ثم يلاحظ طودورف بصفته عضوا في المجلس الوطني للبرامج أن التوجيهات الرسمية المؤطرة لدرس الأدب في المدرسة الفرنسية تُعنى أكثر بالمادة التعليمية نفسها أكثر من عنايتها بالأعمال الأدبية والقيم التي تحملها، بمعنى أخر، إن المدرسة الفرنسية تدرس نظريات النقد، لا ما يقوله الأدب. «في المدرسة لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية، وإنما عن ماذا يتحدث النقاد»5. وبخبرة الباحث الرصينة، يطرح طودوروف بعض التساؤلات التي تستفز ذكاء القارئ وتحثه على المشاركة في لعبة التأمل، واقتسام حدة القلق الذي بدأ ينتاب جميع المعنيين بدرس الأدب نذكر من بينها:» أنحن نُدرسُ معرفة تتناول المادة التعليمية نفسها أو تتناول موضوعها؟ وإذن في حالنا:أندرس قبل كل شيء مناهج التحليل نوضحها بواسطة أعمال أدبية شتى، أم ندرس أعمالا تعتبر أساسية باستعمال المناهج الأكثر تنوعا؟ أين الغاية وأين الوسيلة ؟ ما الإجباري وما الاختياري؟»6 . يتبين لنا من خلال تمحيص هذه الأسئلة أن التعليم المدرسي للأدب يفتقد للقصدية، إذ يغرق في تناول النظريات والمفاهيم المرتبطة بحقل الأدب، وفي المقابل يتغافل القيمة الجوهرية للإعمال الأدبية باعتبارها أعمالا تقود إلى التفكير في الوضع الإنساني (الفرد والمجتمع والحب والكراهية والفرح واليأس...). إن التعليم المدرسي الفرنسي يرى في التلاميذ مشاريع نقاد، لأنه يقدم لهم في طور الثانوي معرفة متخصصة تتجاوز غالبا أفاقهم المعرفية، في حين أن المعرفة الأدبية في هذا الطور تتسم بالعموم والشمولية، ليظل التخصص رهينا بالتعلم الجامعي الذي يعبر من خلاله التلاميذ عن رغباتهم في اختيار تخصصات معينة. وفي سياق أخر، يسجل طودوروف انعطافا ثانيا للدرس الأدبي في المدرسة الفرنسية، يتجلى في نمذجة الامتحانات ذات المواصفات النمطية والتي تختبر قدرات المتعلمين على تحصل مفاهيم محددة (بنيوية في أغلبها) وتطبيقها على نصوص معينة،»إنها مسائل من نمط واحد، إنها تتناول عنصرا واحدا في الكتاب في علاقته مع بنيته الكلية،لا معنى ذلك العنصر، ولا معنى الكتاب بأكمله في علاقة مع زمانه أوزماننا؟»7. ولهذا السبب، يرى طودوروف أن نظام التقويم يتجاهل»القصدية النهائية للأعمال الأدبية التي يراها جديرة بالدراسة»8. ومن ثم ينتقد الخلفية المنهجية والديداكتيكية المتحكمتين في تدريس الأدب وتقويمه. لذلك يختزل وظيفة الأدب في المدرسة في كون « القارئ غير المتخصص اليوم، كما في الأمس، يقرأ هذه الأعمال لا ليتقن بشكل أفضل منهجا للقراءة، ولا ليستمد منها معلومات عن المجتمع الذي أبدعت فيه، بل ليجد فيها معنى يتيح له فهما أفضل للإنسان والعالم، وليجد فيها جمالا يثري وجوده،وهو إذ يفعل ذلك، يفهم نفسه فهما أفضل»9. ويجازف طودوروف بالقول إن المسار الذي يسلكه التعليم المدرسي للأدب في فرنسا سينتهي إلى طريق مسدود، دون أن يفلح ذلك في تعبيد الطريق أمام عشق المتعلمين للأدب، هذا الأخير الذي يعتبره الباحث مجرد وسيلة لا غاية، تساعد على اكتمال جوهر الإنسان وترسيخ آدميته ككائن حي تتجاذبه قيم الحب والجمال والخير والعدالة والحرية والتسامح ... لهذا يميل طودوروف بناء على أدلة عديدة»إلى تطور للدراسة الأدبية وفق نموذج التاريخ، لا وفق نموذج الفيزياء باعتبار أن الدراسة الأدبية تقود إلى معرفة موضوع خارجي هو الأدب بدل خفايا المادة التعليمية نفسها»10. ولاشك أن تبئير التعليم المدرسي حول الأعمال الأدبية سيضمن لها الخلود ولأصحابها المجد الأبدي، لذلك « فإن أسماء الكتاب ستظل حاضرة في الأذهان (روسو-ستندال- بروست) بعد أن يكون النسيان قد طوى أسماء المنظرين الراهنين وتشييداتهم المفاهيمية» 11. كما أن « تمركز الاهتمام حول الأعمال الأدبية يصادف رغبة دفينة لدى المدرسين، وهذا مما لاشك عندي فيه مع الأمنية الدفينة لغالبية المدرسين أنفسهم الذين اختاروا مهنتهم لأنهم يحبون الأدب، ولأن معنى الأعمال الأدبية وجمالها يهزهم»12. إن القراءة المنهجية للأدب باعتبارها قراءة مشروطة بضوابط البيداغوجيا وخصوصيات المادة الدراسية قد أساءت في نظر طودوروف إلى جوهر العمل الأدبي وأغرقته في خضم التقنيات والخطوات الإجرائية والتقنيات الصارمة، دون أن يتمكن المتعلمون من بناء مواقف أو إصدار أحكام معللة، فالأمر بالنسبة للباحث يتعلق بعمل للمعرفة، وليس مجرد إصدار أحكام ذاتية، حيث افتقد المتعلمون القدرة على إنتاج المعرفة وأصبحت غايتهم القصوى هي الكشف عن النظام أو النسق الذي يتحكم في نسيج النص، فضلا عن ذلك، يجد المدرس نفسه محاصرا بسيل عارم من التوجيهات الرسمية المؤطرة لتدريس الأدب، ونمذجة التقويم. ويستدرك طودوروف الأمر بقوله إن المناهج النقدية يمكن أن تعين على فهم أفضل للأدب،لكن شريطة عدم تحويلها إلى غايات مرسومة، إذ « يمكن لمكتسبات التحليل البنيوي إلى جانب مكتسبات أخرى أن تعين على فهم أفضل لمعنى عمل أدبي، فهي في ذاتها ليست مزعجة أكثر من مكتسبات الفيلولوجيا ، العلم العتيق الذي هيمن على الدراسات الأدبية طوال قرن ونصف، فهي أدوات لا أحد يعترض عليها اليوم، لكنها لا تستحق أن يستهلك فيها الإنسان جميع وقته»13. ومن البدهي أن كتاب طودوروف يضعنا في محور التقاطع بين الأدبي والتربوي بين المعرفة العالمية والمعرفة المدرسية، ومن ثم نجد أنفسنا أمام إشكالية النقل الديداكتيكي الذي ينشد تحويل المعرفة العالمة إلى معرفة مدرسية، غير أن هذا المفهوم يثير بعض الإشكالات والتأثيرات الجانبية التي قد تسيء إلى جوهر الأدب. ولنقد هذا المفهوم المحكوم بإكراهات قوية تجثم على المحتويات المدرسة، وعلى المناهج والغايات، صاغ جان لوي مارتنان JL martinand (1986) مفهوم الممارسات الاجتماعية ذات الإحالة المرجعية، ومعناه أنه «لا يمكن أن يقوم تحديد محتوى التعليم على مجرد إخضاع معرفة جامعية (عالمية) لوضعية تعليمية ولمحدداتها (تلاميذ، أهداف)، إذ يجب على العكس من ذلك بلورة المحتويات المدروسة انطلاقا من الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والثقافية التي تعتبر وحدها الكفيلة بإعطاء معنى لهذه المحتويات»14. وتجدر الإشارة إلى أن الارتهان إلى مأزق النقل الديداكتيكي قد يفرز بعض الشوائب التي تؤثر على تلقي الأعمال الأدبية وإدراك أبعادها الجمالية والدنيوية، ذلك أن الغاية من تدريس الأدب لا تنحصر فقط في ضبط آليات المقاربات الداخلية الصرفة(النموذج البنيوي)،بل في انفتاح هذا الدرس على مناهج أخرى بهدف إقدار المتعلم على فهم معنى الأدب من جهة ومعرفة ذاته والعالم من حوله من جهة ثانية، إن معرفة الذات والعالم لا يمكن بلوغها دون الاهتمام بالأعمال الأدبية في ذاتها، وبالقيم التي تجسدها باعتبارها قيما إنسانية كونية. «الأدب في خطر» العوامل والأسباب يتساءل طودوروف في كتابه:» كيف حدث أن صار التعلم المدرسي للأدب على ما هو عليه؟ « للإجابة عن هذا التساؤل يحدد الباحث جملة أسباب يمكن أن نختزلها فيما يلي : 1. التحول في التعليم العالي: ويعني في نظر طودوروف الانعطاف نحو البنيوية في الستينيات من القرن العشرين، حيث تبنى أساتذة التعليم الثانوي هذا المنظور بعد أن كانوا طُلابا, وبعد هيمنة التأريخ الأدبي على التعليم الجامعي الفرنسي، ونتيجة لهذا الوضع، يقوم طودوروف - بتواضع العارف- بنقد ذاتي باعتباره أحد منظري البنيوية إلى جانب جي ارجينيت ورولان بارت وغيرهما، وقد عبر عن ذلك في صيغة تساؤل:» أينبغي أن أحس نفسي مسؤولا عن حال المادة التعليمة اليوم؟»15 ، فهل يتنكر الباحث للإرث البنيوي، أم أن المسألة بالنسبة إليه مسألة أولويات سيما وأنه يستحضر وضعية الأدب في السياق المدرسي؟ ويحسم طودوروف هذا الجدل بتأكيده أن « المقاربة الداخلية للنص يجب أن تكون مكملة للمقاربة الخارجية، لكن الهدف النهائي يظل فهم الأعمال الأدبية»16 2. هيمنة روح ماي 1968 التي قلبت البنيات الجامعية، وغيرت عميقا التراتبية القائمة، حيث ذهبت بعيدا في الاتجاه المضاد:» المقاربات الداخلية ومقولات النظرية الأدبية هي وحدها المعتبرة اليوم17 . 3. اعتبار المفاهيم النظرية ذات النزعة العلمية معرفة مقدسة، لذلك تبنى تلاميذ الثانوي العقيدة القائلة بأن الأدب لا صلة له بسائر العالم، فانبروا لدراسة عناصر العمل الأدبي والعلاقات القائمة بينها، وهذا دونما شك ساهم في «انعدام الاهتمام المتزايد لهؤلاء التلاميذ بالشعبة الأدبية، حيث انتقل عددهم في بضعة عقود من33% إلى 10% من جميع المسجلين في الباكالوريا العامة...»18. ونتيجة لهذا التراجع» يجد طلبة الآداب هؤلاء أنفسهم في لائحة العاطلين 19. 4. هيمنة جهة داخل الجامعات الفرنسية ترفض أن ترى في الأدب خطابا عن العالم، ومن ثم تصنفه ككائن لغوي / جمالي معزول عن العالم، وقد امتد تأثير هذا التوجه إلى المدرسة الفرنسية التي أضحت تهتم بالنظريات الأدبية أكثر من اهتمامها بالأدب وعلاقته بالعالم، علما أن تدريس المقاربات النظرية يجد مسوغه في التعليم الجامعي، أما في التعليم المدرسي، فمن الأولى تدريس الأدب لا الدراسات الأدبية. 5. استسهال المدرسين لهذا التوجه (التركيز على الدراسات الأدبية بدل الأعمال الأدبية) الذي لم يكلفهم عناء البحث عن المعلومات المتعلقة بكل عمل أدبي 6.غياب الاجماع بين المدرسين والباحثين حول ما ينبغي أن يشكل نواة عملهم « فالغلبة اليوم في المدرسة للبنيوية، كما كانت للمؤرخين قبل اليوم، وكما يمكن أن تكون للمختصين في علم السياسية غدا».20 وفي نهاية الفصل الذي يحمل عنوان»ما وراء المدرسة» يتساءل طودوروف :» هل أنا بصدد اقتراح أن تدريس المادة التعليمية ينبغي أن يتوارى تماما لصالح تدريس الأعمال الأدبية؟ يجيب الباحث بالنفي» لا، ولكن ينبغي لكل واحد منهما أن يجد، الموضع اللائق به «21 سيما وأن التعليم المدرسي غير موجه للمختصين، بل للجميع. مُمكنات الأدب، أو» ماذا يستطيع الأدب» ؟ يثق طودوروف في نجاعة الأدب وشدة تأثيره باعتباره نافدة يطل من خلالها المتعلم الإنسان على العالم، فالأدب يستطيع الفعل في ذواتنا وما يحيط بنا، كما يتيح لنا فهما أفضل لذاتنا وللعالم، وهو المجسد الفعلي للتربية على القيم، فضلا عن أنه يساعدنا على هجر البديهيات الزائفة وتحرير الأذهان « وهو «بخلاف الخطابات الدينية والأخلاقية والسياسية، لا يسوق نسقا من التعالم،و لهذا السبب يفلت من أشكال الرقابة التي تُمارسُ على الأطروحات المصوغة تصريحا» 22. إن الأدب يحررنا من ربقة الأنا ومن سلطتها، أو ما يسميه طودوروف «بوهم الاكتفاء الذاتي « ومعنى ذلك أن الأدب» يجعلك تفكر جاعلا نفسك في موضع إنسان أخر»23 ولعل هذا ما يعتبره كانط في فصل شهير من « نقد ملكة الحكم « «خطوة ضرورية للسير نحو معنى مشترك أي نحو إنسانيتنا الكاملة» 24 ويبدو جليا أن المدرسة الفرنسية بصنيعها هذا، جعلت طودوروف يستعير العبارة الشهيرة،» إنهم يغتالون الأدب» وذلك بجعل الأعمال الأدبية مجرد أمثال إيضاحية لرؤية شكلانية أو عدمية أو أنانية للأدب»25. وفي سياق أخر، يربط طودوروف بين غائية الأدب ومواصفات المتخرجين من الشعبة الأدبية فتدريس الأدب لا يروم تحويل المدرسين إلى نقاد متخصصين، والتلاميذ إلى مشاريع نقاد ذلك أن مسارات هؤلاء التلاميذ وتوجهاتهم قد تختلف في المستقبل المنظور، وتقودهم إلى تخصصات غير أدبية بالضرورة، لذلك يحصر الباحث وظيفة الأدب في المدرسة في معرفة الكائن البشري واكتساب كفاية التموضع في العالم « فالذي يقرأ الأدب ويفهمه سيصير لا متخصصا في التحليل الأدبي، بل عارفا بالكائن البشري»26 . باعتبار أن الأدب يشكل أحد مصادر المعرفة إلى جانب النظريات، ومن الخطأ النظر إليه كحقل للتجريب دون الالتفات إلى كم المعارف التي يختزنها، وإلى ممكنات التواصل التي يتيحها. يقول بول بنيشو» في هذا التواصل الذي لا ينفد، القاهر للأمكنة والأزمنة، يتأكد المدى الكوني للأدب»27، هذا المدى الذي تتوارثه الأجيال» وعلينا نحن الكبار يقع واجب تبليغ الأجيال الجديدة هذا الميراث الهش، هذه الكلمات التي تسعف على حياة أفضل «.28 خلاصات واستنتاجات. يفتح كتاب « الأدب في خطر» لتزفيطان طودوروف أفقا جديدا لمقاربة الدرس الأدبي في المدرسة الفرنسية، فهو يشكل منتدى للتفكير في وضعية الأدب والسبل الكفيلة ببعثه من جديد حتى يسترد إشعاعه بين المتعلمين. ومن خلال تشريح الباحث للدرس الأدبي في التعليم الفرنسي، يُلاحظ أن الأدب ظل جسرا لتحقيق الكفايات المنهجية والثقافية، لكنه اليوم أضحى عاجزا عن بلوغ مراقي الكفايات التواصلية والإستراتيجية والتي تعتبر كفايات أساسية ومُستعرضة في التعليم الثانوي عموما. إن أهمية الأفكار الصادمة التي أثارها طودوروف في هذا الكتاب يمكن أن تشكل حافزا لنا في المدرسة المغربية لإثارة هذا الموضوع، وبسطه على محك النقد والتقويم بكل جرأة وشجاعة حتى يتسنى لنا الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما الغاية من تدريس الأدب في التعليم المدرسي المغربي؟ وما حدود الاتصال والانفصال بين الأدبي والبيداغوجي ؟ وما هي القراءة المنهجية الملائمة لخصوصيات العمل الأدبي ؟ وما هي مواصفات المتخرجين من الشعب الأدبية بالتعليم الثانوي التأهيلي؟. ومن مكر الصدف أو حسنها، ينطبق التشخيص الذي قام به طودوروف حول وضعية الأدب في المدرسة الفرنسية في جزء كبير منه على واقع تدريس الأدب بالمدرسة المغربية والسر في ذلك تأثر هذه الأخيرة بنظيرتها الفرنسية على مستوى تكييف البرامج والمناهج والتطورات البيداغوجية لكن مع اختلاف صارخ في الوسائل والأهداف والإمكانات. وبما أن الأدب إرث إنساني كوني يتجاوز كرونولوجية التاريخ وحدود الجغرافيا، فإن التشخيص قد يتشابه، لكن طرق العلاج لا محالة ستكون مختلفة. لذا يتعين فتح نقاش. علمي و موضوعي حول وضعية الأدب في المدرسة العمومية حتى نرتقي بالمعرفة الأدبية، ونضعها في المسار الصحيح خدمة للأجيال الصاعدة. نستنتج من خلال قراءتنا لهذا الكتاب، أن طودوروف قد صاغ بخبرة الناقد، وذكاء العالم ونباهة الأستاذ وتخوف الأب موقفا نقديا رصينا من وضعية الأدب في المدرسة الفرنسية، وإن كلفه ذلك القيام بنقد ذاتي ينم عن تواضع الباحث وشعوره بالمسؤولية المعنوية تجاه ما آل إليه الأدب في المدرسة الفرنسية. لهذا يستشعر طودوروف حجم الكارثة، فيدق ناقوس الخطر، ويرفع مؤشر اليقظة إلى درجته القصوى، تحركه في ذلك غيرة شديدة على الأدب لكن دون أن يتنكر لعباءة الناقد، وفطنة المربي. فما أحوجنا إلى إنتاجات رصينة من هذا الحجم، إنتاجات، تنتج معرفة، ولا تجتر مواقف دوغمائية لأنها تستند إلى العلم والمعرفة والحدس والتجربة، ولا تقدم حلولا جاهزة وأحكاما مسبقة، بل تجعل من السؤال وسيلة للمعرفة بهدف إشراك القارئ في تأمل الظاهرة والبحث عن الحلول الناجعة لفك تعقيداتها. مفتش تربوي