1 يعتبر الدكتور أحمد فرشوخ واحدا من الباحثين المغاربة القلائل المزاوجين بين المعرفتين الأدبية و التربوية، أعني الانشغال المزدوج بالسؤالين الأكاديمي و البيداغوجي على مستوى التنظير و الممارسة والتأليف. فهو ناقد أكاديمي مُراقب لجهازه النظري ومشرف تربوي ناقد لقضايا الخطاب التربوي. معطى يتبثه الباحث، حين يقول : مجموع الأفكار والنظرات التي تكونت لدي بصدد تدريس الأدب، إنما انبثقت عن اهتمامي وولعي بالنقد الأدبي الحديث. غير أن وضع المسافة والتفكير في شروط التواصل البيداغوجي، إنما حصل مع اشتغالي بالإشراف التربوي"1. و تعد تجربته في كتابه »تجديد درس الأدب«، الصادر في طبعته الأولى، عن دار الثقافة، الدارالبيضاء 2005 ، تتويجا لهذا المسار وتكريسا لهذا الاختيار. حيث نجد الباحث، ومنذ كتابه البكر الموسوم ب"الطفولة والخطاب"(1995)، مرورا ب"جمالية النص الروائي" (1996)، ف"حياة النص" 2004 ثم " تجديد درس الأدب" 2005، و انتهاء بأطروحته "تأويل النص الروائي: السرد بين الثقافة والنسق" 2006 ، يقيم على الحدود بين صفتي الناقد الحصيف المنفتح على مختلف المناهج والنقدية و الديداكتيكي الخبير بقضايا تدريس الأدب. 2 تنبع أهمية الكتاب ،قيد الدرس، من كونه يختار غزو موضوعه منذ العنوان: " تجديد درس الأدب" ومن الجملة الأولى البانية للخطاب التي نجدها في التقديم، حيث يصرح الباحث بهدفه الاستراتيجي منذ اللحظة الأولى، بالقول : " يسعى (هذا الكتاب) لتجديد النظر تجاه إشكال تدريس الأدب الذي مازال في حاجة لمزيد البحث النظري و التطبيقي، قصد تقليص الفجوة الموجودة راهنا بينه وبين النقد"2. هكذا و عبر مجموعة من الدراسات التي أنجزت،سواء بدعوة من جمعيات تربوية أو في إطار حلقات التكوين المستمر، يوظف الباحث متاعه المعرفي من أجل تشييد موضوعه وفق معطيات مستجدة في الوصف والتحليل تستبعد المعرفة العفوية غير المحصنة من أهواء المذهب والإيديولوجية والقبيلة والأحكام المسبقة، لتنخرط في تفكير عميق حول ما يمكن أن يمنح حياة جديدة للنص الأدبي . 3 في كتابه "تجديد درس الأدب" يتأمل الدكتور أحمد فرشوخ شروط وغايات تدريس الأدب، من زاوية نظر مغايرة، تتفرد بالقدرة على الجمع بين التأمل النظري الابستمولوجي و الممارسة الميدانية المتبصرة. وقد ارتأت هذه الورقة تتبع المسارات المتشعبة والمتداخلة، التي يقترحها المؤَلف انطلاقا من ثلاثة ميزات دالة، وهي : أولا :ميزة الوفاء لأكثر من واحد: في كتابه "تجديد درس الأدب" يبدو الباحث وفيا لأكثر من واحد في آن، فهو وَفيٌ للأدب و وَفيٌ للدراسة الأدبية و وَفيٌ لديداكتيك الأدب. و وفاءه المتعدد هذا أملى عليه أمانتين اثنتين: احترام لا اختزالية الأدب أولا، وتحيين القضايا المشتركة بين المعرفة العالمة والمعرفة المتعلمة ثانيا. ثقل الأمانة وصعوبتها تُتَرجم عن نفسها في شكل نداء مشطور يستدعي "درس الحرية"، حيث يقول الباحث: " إن تدريس الأدب خارج المقاربات الحصرية والاختزالية، من شأنه أن يقدر المتعلم على توليد الإشعاع الرمزي للنص بعيدا عن الأصول الجوهرانية والمقاصد المغلقة. وهنا يحضر "درس الحرية" الذي يحفز على قراءة النص وإقرائه، من جهة اعتباره طاقة لتوليد الدلالة المشتبكة مع التاريخ والمجتمع، لا باعتباره مخزنا للأفكار الجاهزة والميتة. وداخل هذا السياق تنبثق معضلة التركيب بين المفاهيم والتصورات النظرية: إذ ما سبيل تشييد مقترب تدريسي يسعى للانفتاح على مختلف المناهج النقدية؟"3. و من باب التنويه فقط، وجب أن نشير هنا إلى أن أحمد فرشوخ كان سباقا لمعالجة هذه النقطة ، المتعلقة "بالاختزال العبثي للأدب " قبل أن يتطرق إليها، في وقت لاحق، تزفيتان تودروف في كتابه: " الأدب في خطر"2007. حيث يقول هذا الأخير: " إن فكرة عن الأدب مغايرة تماما توجد في الأصل ليس فحسب من ممارسة بعض الأساتذة المنعزلين، بل أيضا من نظرية هذا التعليم والتعليمات الرسمية المؤطرة له...في المدرسة، لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية و إنما عن ماذا يتحدث النقاد"4. ثانيا: ميزة النقد المزدوج: سمة الوفاء لأكثر من واحد تقتضي الحرص والحذر،وبالتالي النقد والمساءلة،والإقامة الدائمة على الحدود لفحص القناعات التي لا تجرؤ على التفكير بألم. لذلك ومنذ التقديم لا يتوانى الباحث في إخضاع عمله لاستراتيجية واحدة لكنها تعمل في عدة واجهات،إنها استراتيجية النقد المزدوج، نقد موجه لمناهج النقد الأدبي كما هو موجه لمنهجيات تدريس الأدب، حيث يكتب: " هاهنا تبدو أهمية "نقد النقد"، وتتضح ضرورة المعرفة الابستمولوجية التي لا مندوحة عنها لمدرس الأدب، إن هو أراد تشخيص صدقية الخطاب الأدبي والدفاع عن نديته تجاه باقي الخطابات. وقد لامسنا برفق هذا الإشكال من خلال انتقادنا لما يسمى بالمنظورات الستة في تدريس السرد، إلخ."5 هذا النقد المزدوج للمبحث النقدي المتخصص و للمبحث التدريسي للأدب يصب في صالح الاستراتيجية الكبرى الموجهة للكتاب: أعني تجديد درس الأدب. والتجديد، في هذا الإطار،يفيد مطابقة التحولات الجديدة وتحديث الرؤية السالفة وشكلَ الممارسة السابق الذي لم يبق ما يسوغ بقاءه. ثالثا: الحق في الأدب وتأزيم خطاب الدرس الأدبي بشقيه العالم والمتعلم :فضيلة الوفاء لأكثر من واحد مقرونة باستراتيجية النقد المزدوج دفعت الباحث إلى تجاوز الالتباس التي تسعد به خطابات وهي تتناول المسألة الأدبية في زمننا، والتي ترى أن تدريس الأدب يعرف اليوم أزمة تهدد وجوده، مُستظهرَة لأسئلة من قبيل ما وضع الأدب؟ و ما طبيعته؟ ما أسسه العلمية؟ ما غاياته؟ وما جدوى تدريسه؟ و مُستضمرة ،بشكل مُغرض، أسئلة مرتبطة بالعماء الذي يمس نظرية الأدب، والعقم الذي يميز الكثير من التعليمات والطرائق البيداغوجية، و التي تقدم الأدب كمعرفة وهمية هلامية معزولة عن المعيش. إن قراءة القصائد والروايات والقصص والمسرحيات ، في المدرسة المغربية، "لا يقودنا إلى التفكير في الوضع الإنساني، والفرد والمجتمع ، والحب والكراهية، والفرح واليأس، بل للتفكير في مفاهيم نقدية، تقليدية أو حديثة".6 يغطي الأدب بطبيعته عدة ممارسات اجتماعية، إذ يعتبر بمثابة تسلية عند البعض، و مهنة ومجال اشتغال وبحث عند البعض ، و التزام عند البعض الآخر، لكنه في نهاية المطاف متعة تستمر متعة، بالنسبة للجميع، الكاتب والناشر والقارئ والكُتُبي والناقد..لكن بتمثلات متعددة ولربما متعارضة. هذا التعدد والتعارض في النظر إلى الأدب له أثره المباشر على إنتاج الخطابات المرافقة لكل توجه، فبين المدرس الذي يسعى إلى الكشف عن الظواهر البلاغية والزخرفية ، والمدرس الذي يسعى إلى كشف الجوانب الفنية والقيم الإنسانية وتنمية مهارة التذوق الجمالي عند المتعلم توجد تعارضات مركبة تستعصي على كل اختزال. وما دامت تصوراتنا حول الأدب والممارسة الادبية ما زالت رهينة بنية تقليدية تتذرع ب"التعالي النصي" أو" التكامل المنهجي" فإنها تبقى غير قادرة على إنتاج رؤية جديدة إلى الخطاب والنص والمجتمع. يكتب المؤلف في هذا السياق: "إن التركيب المنهجي الملائم مشروط بالصفة الإبدالية لا التكاملية، لأن الطرح التكاملي لا يصدر عن إشكال منظم،ويفتقر لاتساق الرؤية والقراءة"7 . 4 بين أزمة الأدب أو أزمة الدراسة الأدبية، يبدو منذ العنوان انتصار الكاتب للممارسة الأدبية على حساب الدراسة الأدبية، ذلك أن الأزمة تخص الدرس الذي أصبح في حاجة ماسة إلى التجديد لكي ينعتق من الرؤية التقليدية التي لا يمكن أن تنتج سوى أنماط من التفكير تتلكأ في المسير. لهذا السبب يبدو تساؤل الباحث في هذا السياق دالا حيث يقول:" ما سبيل تطوير تدريسية الأدب في غياب إدراك التحولات الجديدة والعميقة لمفهوم الأدب ذاته؟ وكيف لنا بمطلب التجديد في غياب التعرف على المراجعات الدقيقة للنظريات المعاصرة بشأن كثير من أنماط التفكير التي غذت متجاوزة أو ناقصة أو خاطئة؟"8. هكذا، يعرج الباحث بشكل ذكي عن النقاش حول انكماش السوق الأدبية وجدوى تدريس الأدب، ليبلور تصورا جديدا يخلخل السائد من الممارسات التدريسية التي تطبع علاقة المتعلم بالأدب، و يخلق وعيا جديدا بالأدب كي يصبح له دوره الوازن في خلق رؤيات جديدة للذات والمجتمع والعالم. فيغدو للأدب إشعاعه وحضوره المتميز في قاعة الدرس وخارجها. وقد قدم الباحث، للخروج من المأزق، مجموعة من البدائل تبدو قادرة على العبور بالمتعلم- القارئ "صوب لحظة تمفصل الوعي الجمالي ? الثقافي بالوعي الاجتماعي" ومن بين هذه البدائل التي يقترحها الباحث: _ استثمار المناهج النقدية الحديثة في سياق فهم دقيق، يميز بين المعرفة العالمة، والمعرفة التعليمية؛ _إعادة صياغة تمثل المتعلمين لمفهوم الأدب، بحيث يتحول النص الأدبي جزءا من الحياة الوجدانية للمتعلم، وبالتالي محمولا جماليا لمعرفة أصيلة ومتفردة؛ _ ترهين النصوص الأدبية والعمل على تذويب المسافة اللسانية الفاصلة بينها، وبين الواقع المعيش للمتعلم وتأويلها بمنظور يمنحها صفة التجدد المستمر، وحفز المتعلمين على ممارسة التعدد القرائي الذي يجعل أسئلة النص تتضاعف؛ بدائل بإمكانها أن ترسي تقاليد جديدة في التعامل مع الأدب من منظور مغاير ولغايات " تجد تحققها في تكوين متعلمين محصنين ثقافيا ومستقلين تجاه الخطابات المزيفة والمتواطئة."9 ف" معرفة الأدب ليست غاية لذاتها، وإنما هي إحدى السبل الأكيدة التي تقود إلى اكتمال كل إنسان. والطريق الذي يسلكه اليوم التعليم الأدبي الذي يدير ظهره لهذا الأفق، يجازف بأن يسوقنا نحو طريق مسدود- دون الحديث عن أن من العسير عليه أن يفضي إلى عشق الأدب".10 5 تتمثل الفكرة المحورية التي توجه هذا العمل في إيمان الباحث بضرورة إرساء رؤية جديدة للأدب ينبثق بواسطتها وعي مغاير وممارسة حديثة يتبوأ بواسطتهما الأدب مكانته الحقيقية في المجتمع، ويقوم الفكر الأدبي بوظيفته في ترهين مختلف الأسئلة والقضايا التي ما زالت تدخل في باب غير المفكر فيه. ذلك أن تدريس الأدب، وفق هذه الرؤية المثمرة، يمكن أن يُحدث إبدالات في تمثلات المتعلمين عن ذواتهم كما عن العالم، وهو ما من شأنه إرساء مناخات ملائمة لتصبح التعليم المدرسي بالمغرب قادرا على تعليم الشرط الإنساني، والهوية الأرضية، وأخلاق الجنس البشري ومواجهة اللايقينيات و العماءات المعرفية والضلالات المنظوماتية. والباحث إذا كان من خلال كتابه " تجديد درس الأدب" يطرق مجالا غير مفكر فيه في تاريخ الدرس الأدبي المغربي من جهة، فإنه بالمقابل يبني جسرا للحوار مع أعمال غربية رائدة، اهتمت بمقاربة أزمة الأدب على مستوى الممارسة والتأليف و الانتاج والاستهلاك والتدريس من نظير: كتاب: littérature en péril (2007), T . TODOROV , La و كتاب: d?A. Compagnon La littérature pour quoi faire ? (2007) وكتاب:Yves Citton, l?Avenir des Humanités (2010) William Marxوكتاب:: L'adieu à la littérature. Histoire d'une dévalorisation, XVIII-XXe siècle وأخيرا كتاب: Jean-Marie Schaeffer, Petite écologie des études littéraires. Pourquoi et comment étudier la littérature (2011) وبذلك تكون شجرة نسب الباحث المعرفية ممتدة عميقا في الجغرافيا الثقافية و مستجيبة ومتفاعلة مع شرطها الكوني. الهوامش: 1. أحمد فرشوخ، تجديد درس الأدب،دارالثقافة، الطبعة الأولى،البيضاء،2005،ص.13 2. المرجع السابق،ص7 3. المرجع السابق،ص.ص. 8،9. 4. تزفيتان تودروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، البيضاء2007، ص.ص12,11, 5. أحمد فرشوخ، تجديد درس الأدب، م.س. ص9, 6. تزفيتان تودروف، الأدب في خطر، م.س.ص.12. 7. أحمد فرشوخ، تجديد درس الأدب، م.س. ص10 8.المرجع السابق، ص.11،10, 9. المرجع السابق،ص. 10. تزفيتان تودروف، الأدب في خطر، م.س.ص 16.