كأس الكونفدرالية.. نهضة بركان يمطر شباك نادي قسنطينة الجزائري برباعية ويقترب من بلوغ النهائي    مغاربة داعمون للقضية الفلسطينية يحتجون أمام ميناء "طنجة المتوسط"    ابن تمسمان الأستاذ سعيد بنتاجر، يقارب الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في معرض الكتاب بالرباط    ترامب يعيد هيكلة الخارجية الأمريكية    "نداء القنيطرة" يدعو لإصلاح الإعلام    خمس لاعبين مغاربة ضمن التشكيلة المثالية لكأس إفريقيا للفتيان    تفاصيل حريق المسبح البلدي بالناظور    الدرك يطيح بأحد كبار مروجي الخمور باقليم الدريوش    أفاية: قراءات اختزالية تستهدف "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي    فتح بحث قضائي لتحديد ظروف وفاة طفلين في حضانة غير مرخصة بالدار البيضاء    الربيع الأمازيغي يُوحّد الشعارات ويُقسّم الساحات.. احتجاجات بالرباط ومراكش تندد بتهميش اللغة والهوية    لقاء إقليمي بالحسيمة يسلط الضوء على آفاق الاستثمار في إطار قانون المالية 2025    الامارات تحتضن مهرجانا يحتفي بالقفطان المغربي "عبر الزمن" بحضور مصممين دوليين    أسلحة بيضاء في شجار جماعي بالقصر الكبير.. الأمن يحقق ويلاحق المشتبه فيهم    برلماني يسائل وزير الفلاحة حول توتر العلاقة بين أعضاء من الغرفة الفلاحية والمديرية الإقليمية بطنجة    مستشار ترامب: الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء لا لبس فيه    السعدي: الحكومة ملتزمة بتعزيز البنية التحتية التكوينية المخصصة للصناعة التقليدية    القوات المسلحة تُكوّن ضباطًا قطريين    مقاولون يقاضون "التيكتوكر" جيراندو بالمغرب وكندا بتهم التشهير والابتزاز    المغرب يتصدر صادرات الفواكه والخضروات عالميًا: ريادة زراعية تنبع من الابتكار والاستدامة    "موازين" يواصل جذب نجوم العالم    رشق بالحجارة داخل مدرسة .. مدير ثانوية في العناية المركزة بعد هجوم مباغت بطنجة    "من سومر إلى لوزان: ريشة فائق العبودي تُكمل الحكاية"    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في فعاليات معرض "جيتكس إفريقيا"    القفطان يجمع السعدي وأزولاي بالصويرة    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني لأقل من 17 سنة إثر تتويجه باللقب القاري    الفنان الريفي عبد السلام أمجوظ يتألق في مسرحية سكرات    عبد العزيز حنون يدعم البحث في اللسانيات الأمازيغية بأطروحة حول التمني بأمازيغية الريف    تفاصيل اجتماع نقابات الصحة مع مدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته    بعد القرار الأمريكي المفاجئ .. هل يخسر المغرب بوابته إلى السوق العالمية؟    "الكاف" يختار المغربي عبد الله وزان أفضل لاعب في البطولة القارية للناشئين    الأرصاد الجوية تتوقع نزول زخات مطرية متفرقة اليوم الأحد    بنكيران: الأمة بكل حكامها تمر من مرحلة العار الكبير ولا يمكن السكوت على استقبال سفن السلاح    غزة تُباد.. استشهاد 29 فلسطينيا منذ فجر الأحد    الاتحاد الوطني للشغل يدعو إلى تعبئة شاملة في فاتح ماي    الآلاف يتظاهرون ضد ترامب في الولايات المتحدة: لا يوجد مَلك في أمريكا.. لنُقاوِم الطغيان    " هناك بريق أمل".. رواية جديدة للدكتورة نزهة بنسليمان    ندوة علمية تناقش الحكامة القضائية    الكوكب يسعى لتحصين صدارته أمام الدشيرة والمنافسة تشتعل على بطاقة الصعود الثانية    الأساتذة المبرزون يحتجون الخميس المقبل    لقاء يناقش دور المجلس الأعلى للحسابات في تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة    دراسة تدعو إلى اعتماد استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن السيبراني في المغرب    مقتل 56 شخصا في وسط نيجيريا    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    "الجزيرة" حين يتحويل الإعلام إلى سلاح جيوسياسي لإختراق سيادة الدول    دورة برشلونة لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل للمباراة النهائية    برشلونة يضع المدافع المغربي إدريس أيت الشيخ تحت المجهر … !    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتح الله بوعزة: الصوت الوفي لنبض القصيدة القزحية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 01 - 2018

كثير من الشعراء المحدثين، خصوصا شعراء القصيدة الحرة وقصيدة النثر تراهم في أودية القول سائرين على غير هدى …لا منبع لكتاباتهم المتناسلة ولا مصب ..إسهال وتيه ولغو وزيغ ونزق لا شيء فيه من عناصر الكون الأربع : كلام خال من ماء الحياة، خال من رقة الهواء، خال من عبير التراب، وخال من دفء النار ومهابتها .. فهل نحن على أعتاب زمن شعري مائع يبيح لكل من نام واستيقظ متأخرا من فرط إدمان الشاشة الفضية ان يكتب شعرا؟ هل نحن أمام حرب إبادة شعرية يستباح فيها دم القصيدة لكل محارب آثم يحلم بتشييد أمجاده الرعناء على جماجم قراء سذج لا يهمهم من قراءة الشعر سوى أسطر هشة وعجفاء آيلة إلى الانهيار بعد كل قراءة؟.
أكاد أجيب على السؤالين بالإثبات القاطع أننا في زمن اللاشعر لولا أن أصواتا جادة، دافئة تصلنا من بعيد، من تحت أنقاض نصوص متورمة، لتحرك في أعماقنا لوعة كادت تتلاشى بفعل الضحالة والجلبة… لوعة محاضنة الكلمة الشاعرية والموسيقى العذبة والخيال الفياض الفاتك بكل الكليشيهات البلاغية المتحجرة، أو بالتقليعات الأسلوبية الطائشة المنفلتة من دائرة الجمال المشمس، الراسخ، والمخترق لحواجز الزمان والمكان …
ومن بين الأصوات الشعرية الشادية في بستان القصيد الخلاب، صوت الشاعر المجرب والمقتدر فتح الله بوعزة .. صوت شعري ناضج، صاف، قوي، عذب، لا خشونة فيه، ولا نشاز في طبقاته وتموجاته .. فتح الله بوعزة صوت مركب تلتقي فيه أطياف شعرية عديدة، ما يجمعها هو الرفعة المطرزة بالبهاء ..ولذلك يبدو لنا فتح الله بوعزة شاعرا حربائيا بالمعنى الجمالي الذي يفيد التريث والتجدد والتجريب والغنى والحركية والترحال الدائم في غابات الفرح.
فتح الله بوعزة لو شئت أن أرسم له بورتريها تقريبيا لقلت: إنه شاعر أوسي الهوى، رومي المذهب، درويشي النفس، راجعي الإحساس ،أدونيسي اللسان …هو أحد المنتسبين – مع سبق الاختيار والتشبث – إلى سلالة الشعراء المتبصرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويقرأون الشعر فينسجون أروعه …هو شاعر يحب وضعه الاعتباري كمالك لقول يدرك جيدا أن له سلطة سحرية على العقل والروح والوجدان …لهذا لا يفتأ يجتهد في تطوير أدوات اشتغاله الشعري وتدبير طقوسه لغة وصورة وإيقاعا ومعمارا ..صبره وتأنيه وبعد نظره مزايا حميدة تشي بها نصوصه التي لا يطلق سراحها إلا بعد طول مراجعة وتنقيح وغربلة …
هذا هو الحب الحق، بل العذري للقول الشعري السامي..وهذا هو الوفاء الخالص لروحه الشفيفة …ومن يحب روح الشعر بهذا القدر، لامحالة، سيحترم قدسيته الجليلة …وقبل أن يقدم على المساس بهذه القدسية في بعض الحالات المحسوبة، فإنه لابد أن يتدبر جيدا اختياره الثوري هذا، بالقراءة العاشقة والحكيمة والمتواصلة لعيون الشعر العربي قديمه وحديثه، مع التفاتات رصينة إلى جغرافيات شعرية مترامية شرقا وغربا بعين ثالثة تتقن عملية اقتناص التجارب الفنية الرفيعة وترصدها والتقاط مكامن التميز والجمال فيها …كل هذه الفضائل الإبداعية وغيرها – مما لا يتسع المجال لذكره- نجده مبثوثا في ديوانيه المتميزين: ديوان «قاب كأسين من ريحه»، الصادر سنة 2010 عن مطبعة سيكما أطلس بخنيفرة، وديوان «أصابع آدم» الصادر سنة 2014 عن منشورات ديهيا ببركان .
ومن يقرأ نصوصه الشعرية، البالغة واحدة وخمسين قصيدة، توزعت بين سبع وعشرين قصيدة بالديوان الأول، وبين أربع وعشرين في الديوان الثاني …من يقرأ هذه النصوص ويتأملها ويتملى بطلعاتها المنيرة، لاشك، سيستقطب اهتمامه سمة الاعتناء الشديد للشاعر فتح الله بوعزة بالصياغة اللغوية التي تكتسي طوابع الأناقة والإشراق والصفاء والفصاحة ودقة الأداء ..صياغة صقيلة وجميلة تذكرنا بالكتابة الشعرية عند رواد الشعر الحر كالسياب والبياتي وأدونيس وأمل دنقل والمجاطي وغيرهم ..ومن هنا، تحفل الجملة الشعرية في كل قصائد الديوانين بمظاهر أسلوبية على قدر كبير من حسن السبك ومتانة النسج وقوة الإيحاء لكون فتح الله بوعزة يؤمن بأن اللغة هي أس التعبير الشعري المنشود ..يقول في مستهل قصيدته «أدراج الكلام»- (قاب كأسين من ريحه- ص 62):
لم يعد ممكنا أن أموت الآن
وبعد متم الحكاية أيضا
لابد أن أبقى
بعض الوقت أو كله في حدائقه !
ويقول في مختتم قصيدته «سرير الهدنة» ص79:
الآن فقط
أركب صهوتي
أصل الحرب بالحبر
والليل بالراوي
والنبيذ بشاربه
أكمل دورتي ، وأعود إلى حجبي !
فمن دون عناء ، يجد القارئ في لغة فتح الله بوعزة نزوعا جليا نحو استثمار جماليات الجملة الشعرية الحداثية من غير إفراط في التلاعب ببنيتها المعجمية والتركيبية والبلاغية ..فنحن – على امتداد كل قصيدة – نصادف ثراء واضحا في الانزياحات الأسلوبية والتصويرية والإيقاعية وفي التوظيف اليقظ لبلاغة التكثيف والإيجاز . لكن من غير تجاوز سقف جمالي شيده الشاعر فتح الله بوعزة لنفسه بوعي أدبي شعري سديد يصونه من السقوط في شرك التسيب الأسلوبي الذي يطبع كثيرا من الأعمال الشعرية الجديدة ..وما هذا الاختيار الموفق بالأمر المستغرب ونحن في حضرة صوت شعري اقترن بالكتابة الشعرية لما يزيد عن ثلاثة عقود ..
وبموازاة هذه المعمارية اللغوية الواعية بإستراتيجيتها الحصيفة، تحضر الجمالية الموسيقية في أبهى ذبذباتها النغمية، وأجمل توزيعاتها الموسومة بامتلاك فتح الله بوعزة لأذن موسيقية على درجة عالية من الحساسية والرهافة.
يقول في المقطعين الأخيرين من قصيدة «نسوة مرحات يضفن السعال إلى قهوة العاشق «(أصابع آدم – ص 22):
قهوة العاشق سهوه
ودم العاشق قهوة المعشوق
خذوا أثرا
خذوا بللا
من نوايا الحمام على باب المشتى
تجدوا دمه
وبقايا السعال على بابي !
من دم العاشق نصعد السلم الخلفي إليك
ومن دمه نغزل حيرة المعشوق
نشد البراري إلى بعضها
بخيوط حريرية تتفتت بين يديك سريعا
وتكمل رتق مساربها بأصابع ملفوفة في دم العاشق
حجرا بعد آخر يأتي خلانك المشاؤون/المغرقون
من العثرات البعيدة ، من حكي طارئ وبيات قديم
من رغوة نسوة مرحات
يضفن السعال إلى دهشة العاشق
من أين نمر إلى بابك
أيها المفتون بغزوته الأولى وبواكير السبايا؟
لنلاحظ أن الومضات الفكرية والدفقات الوجدانية في هذا المقطع الذي أسوقه على سبيل التمثيل فقط، لا تتنامى ولا تينع إلا داخل (بنية إيقاعية متموجة مرنة) .فمن شاعرية الأسلوب إلى شاعرية الإيقاع باعتباره سيد الدوال، تسافر بنا القصيدة عند فتح الله بوعزة نحو عالم الكتابة الشعرية المتاخم لفردوس الموسيقى بما هي لغة الروح في أنبل مقاماتها ..وهكذا تنبجس روح الشاعر الظمأى من شقوق الموسيقى الريانة لتملأ غربتها بللا وأثرا «من نوايا الحمام على باب المشتى».. تتقدم الموسيقى على مقام دم العاشق الذي يغدو قهوة للمعشوق ..دم العاشق الذي به يغزل رفاق الشاعر «حيرة المعشوق بخيوط رفيعة «..»بأصابع ملفوفة في دم العاشق» ..لاحظوا معي أن لعبة تكرار الكلمات (كلمة دم 5 مرات) والتجنيس الاشتقاقي (العاشق /المعشوق) تساهمان بدورفعال في التبئير على الشحنة الغنائية والدرامية النابعتين من حرقة العاشق ومحنته.
وقد غذى الشاعر هاتين السمتين الإيقاعيتين بمظاهر موسيقية أخرى لاتخلو من رشاقة ومتعة ،وأقصد هنا التكرار المنفصل (من دم العاشق …ومن دمه) ولعبة التوازي المعجمي والصرفي والتركيبي (خذوا أثرا / خذوا بللا) وجمالية التوظيف المحكم للامتدادات الصوتية المتواترة داخل السطر الواحد (وبقايا السعال على بابي) سطر يضم خمس امتدادات صوتية بالألف الممدودة والياء بغية الإيحاء بالجو المأساوي المهيمن على التجربة الوجدانية والوجودية المعبر عنها في النص ككل …هذا ، بالإضافة إلى الرمزية الصوتية التي تتصادى فيها الدلالات العنيفة مع الأصوات الشديدة والارتجاجية (نشد البراري إلى بعضها) من أجل تقريب صورة الفعل القائم على القوة والجهد ،مقابل أصوات رخوة ورهيفة تعكس حالة الفتور والحيرة والخيبة لدى الشاعر(من أين نمر إليك؟)..هكذا هي البنية الإيقاعية عند فتح الله بوعزة: رهان حاسم في تشكيل المعنى، وتجربة جسد بكل جوارحه يرسم إمضاءه الشخصي، و يحرر الذات من جروحها الغاشمة..
عموما، من الصعب جدا الإحاطة بتجربة فتح الله الشعرية الخلاقة والفياضة في صفحات ودقائق معدودات ..مع ذلك، نستطيع أن نقول بكثير من الإيجاز إنها سيرة شعرية نادرة وفريدة نضجت طويلا تحت الظل الوارف للعبة الكتمان الحكيم… ومن ثم ، فهي سيرة جديرة بالاحتفاء والاحتضان والمرافقة قرائيا ونقديا اليوم، وغدا ..وعسانا، بهذا الاحتفاء الدافئ بمنجزه الشعري اللافت نكون قد وقعنا على عقد هدنة مع الشعر الحقيقي والراقي في زمن الطنين المزعج والتمارين الشعرية المصرة على تمجيد النجومية المتنطعة المحوطة بنصوص شبحية لاتفتأ تجتر أوهامها العليلة ذات اليمين وذات الشمال …
(*) قاص وناقد من خنيفرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.