في لقاء مفتوح احتضنه المركز الثقافي أبو القاسم الزياني بخنيفرة، وتميز بحضور جماهيري لافت، تنوع بين فاعلين جمعويين ومهتمين بالشأن التربوي الثقافي، وبحب الحكمة والكلمة، التأمت أربع جمعيات، مساء السبت 25 نونبر 2017، في استضافة الباحث الدكتور عبدالمجيد باعكريم، في عرض حول «درس الفلسفة أو العقل في مواجهة اللاعقل»، والذي جاء تخليدا ليوم الفلسفة من أجل «تعزيز النقاش الفلسفي واحترام التنوع وكرامة الإنسان، مع تسليط الضوء على مساهمة المعرفة الفلسفية في معالجة القضايا العالمية»، على حد نداء منظمة اليونسكو التي اختارت يوما في السنة لتكريم التفكير الفلسفي في جميع أنحاء العالم. اللقاء الفلسفي الذي تم تنظيمه من طرف أربع جمعيات، جمعية مدرسي الفلسفة، جمعية الأنصار للثقافة، منتدى الأطلس للثقافة ونادي إسمون نعاري، تم افتتاحه بكلمة ترحيبية ألقاها الناقد ذ. مصطفى داد باسم هذه الجمعيات، مبرزا أن تكريس الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة هو «احتفاء نتوق من خلاله إلى معانقة الأفق الإنساني الرحب، مادامت الفلسفة إعمالا للفكر في قضايا الإنسان والوجود، حيث التفكير العقلاني، الذي شيدت عبره الفلسفة تراثها الفكري الضخم عبر العصور، هو مطمح إنساني في جوهره، من شأنه أن يرفع من قيمة الإنسان ودوره في الحياة ويوسع المشترك الإنساني بما يولده من قيم التعايش والسلم والمحبة والحوار والتضامن»، مؤكدا حاجة الراهن إلى عشق الفلسفة لكونها الترياق الذي يحمي المجتمعات البشرية من تصاعد الجهالات المؤججة لكل أشكال التطرف والكراهية والعنف. ومن جهته أبرز مسير اللقاء، ذ. مصطفى تودي، دلالة اللقاء الذي يأتي في إطار الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، والذي تم إرساؤه باقتراح مغربي يذكرنا بمفكرين أفذاذ رسخوا قيم النقد والحوار، أمثال الراحل محمد عابد الجابري صاحب الاقتراح، ولم يفته وضع الحضور في دلالة اختيار موضوع اللقاء الذي قد يأخذ بالجميع إلى صميم الإشكالات التي يطرحها درس الفلسفة، من حيث أن أولى تمظهرات الجدل هي علاقة درس الفلسفة بما ليس درس الفلسفة، وهنا يمكن طرح وظائف درس الفلسفة، إن على المستوى الفردي أو الاجتماعي، ومن تجليات هذا الجدل كذلك، ما يعتمل من صراع العقل واللاعقل في درس الفلسفة ذاته، ويدفع إلى مساءلة الآليات النفسية التي يمكن أن تجعل من ممارسة درس الفلسفة ممارسة عقلانية. أما ضيف اللقاء، الدكتور عبدالمجيد باعكريم، فانطلق في عرضه القيم من دلالة العنوان: «درس الفلسفة أو العقل في مواجهة اللاعقل»، باعتبار تاريخ الإنسان يلخص ما يفيد أن اللاعقل كان على الدوام في مواجهة العقل، وقد بسط ذلك بالعودة إلى تاريخ الفلسفة والمعرفة والرياضيات حيث الثبات والكونية والأنوار والعقلنة النظرية التي بدأت مع ميلاد العلم لعقلنة ما لم تتم عقلنته، وضم الهوامش إلى العقلانية رغم أن دخول الإنسان للعصر العقلاني شابه الكثير من التردد، قبل تركيز المتدخل على الغرب الذي وصفه بمكتشف الجنوب والدافع للبحث، من حيث أن ثقافتنا، حسب رأيه، ما تزال بدائية لكوننا أمة لم تتخلص من التفكير في عمقها بشكل إحيائي، ومن مجتمعاتها الانتروبولوجية، رغم أننا لسنا معفيين من البحث، وأن أي منظومة تتجدد بإفراز عناصر جديدة تتناقض مع عناصر قديمة وتدخل في صراع مع الجديد، إما يتمكن العقل من طرد اللاعقل أو العكس. وفي ذات السياق، توقف الدكتور باعكريم عند المدرسة، وكيف يأتي التلميذ إليها بعقل كوعاء مملوء باللاعقل، وهنا يكمن دور الفلسفة في برمجة هذا الوعاء وتنظيفه مادامت الأفكار معطلة في غياب أفكار أخرى تطرد اللاعقل بالعقل المتسلح بالعلوم الإنسانية، من حيث أن العقل والفكر لهما قوانين ينبغي ضبطها بالعودة إلى الغرب لنرى كيف وصل الآخر إلى الحداثة وحرق التاريخ للثبات على الدرس الفلسفي، مادام من الصعب النجاح في التسوق ما لم نتمكن من معرفة ما يحتوي عليه السوق، على حد صاحب العرض الذي قال بأننا نعيش أمراضا نظرية فكرية ولا دواء لها إلا بدرس الفلسفة بهدف ملامسة أعطابنا الموجودة في التاريخ، ولو أننا نفتقد لوعي تاريخي بالمفهوم الصحيح من حيث أن التاريخ في الغرب لا يعيد نفسه عكس التاريخ عندنا الذي ما يزال لصيقا فينا. ومن جهة أخرى، تحدث عن المغرب، وكيف أن بلادنا في طريق التحديث الصناعي إلا انها ليست لديها أي جهد للتحديث التربوي أو الثقافي والمجتمعي، وإلا سنقع في نكسة عميقة، كما استعرض بعض الإشارات من قبيل «العين» مثلا وكيف «أن العين حق»، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وبما أنها صحيحة بالمنظور الديني إلا أننا نعجز عن شرح ذلك، ولا كيف «العين تضرب» ولا متى نصبح ضحيتها، وسبب نزول هذه الإشارة هو رغبة الدكتور باعكريم في الدعوة إلى تحليل «العين» للتلميذ ك «نظرة»، من باب معرفة الغايات لتحرير عقل الآخر بالقوة وجعله يشتغل بالمنظور الكانطي قصد الوقوف على رمزية العين وتمييز الشريرة منها عن اللاشريرة، ما دام اللاعقل لا يعني الدين بل هو كل ما يمكن أن يعوق العقل والعقلانية والتقدم. وبعد فتح باب المناقشات، كان للحضور كلمته بخصوص عرض الدكتور باعكريم، ومنها أسئلة ثقيلة وحارقة من قبيل سؤال حول معنى انبهار العرض بالغرب؟، أو ليس الغرب هو مدمر الإنسان والعمران بإفريقيا وآسيا؟، في حين توزعت أسئلة أخرى حول مدى قوة اللاعقل في إنتاج تلاميذ عدوانيين؟، وظروف الحاجة للعقل في زمن لاعقلاني؟، ومدى استطاعة العقل تقديم حلول منطقية؟، وكيف يمكن رصد وملامسة تجليات اللاعقل في العقل؟ وهل يمكن أن تكون للعقل إفرازات لاعقلانية؟ وهل في الثقافة المتخلفة ما أدى إلى تخلف المنظومة التعليمية؟ وهل مفهوم اللاعقل هو الوهم والهراء؟ وهل الدرس الفلسفي المقرر بسلك التعليم هو مادة الفلسفة فعلا؟ وغيرها من التساؤلات العريضة. ومن ردود الدكتور عبدالمجيد باعكريم أمام هذا السيل من التدخلات، تأكيده على أن عرضه لم يكن انبهارا بالغرب بل نحن من ساهم في تطور وتقدم الغرب، وأن هذا الغرب لم ينهض إلا بترجماتنا وعلومنا، في حين قال بأن الديانات السماوية ساهمت في تكريس الحداثة والمفاهيم العلمية، وأنه لم يقصد إلا تحليل معتقدات الذين يربطون جفاف السماء بما يجري من انحرافات على الأرض، كما لا أحد يجادل في أنه في البدء كان اللاعقل، وأن تطور العقل جاء عندما بدأ الإنسان يزرع ويرتبط بالسماء والمطر، وقال أيضا انه لا قوة يمكنها كبح مسيرة العلم ولكن ينبغي تجنب سلبياته، ليسدل الستار على اللقاء الذي كان فلسفيا بامتياز.