يتساءل الكثيرون عما إذا كانت التكنولوجيا الحديثة تسمح لنا بالذهاب إلى صميم الأشياء بمنحنا إمكانية التواصل بشكل أسرع وإيجاد المعلومات على الفور أم أنها على النقيض من ذلك ، قد تكون شكلاً جديدا من الاستلاب، والحال أن البعدين الإثنين متواجدان معاً: زيادة قدراتنا واستلاب هويتنا. لكن تجري اليوم المبالغة في تسويق فوائد التكنولوجيات الحديثة مع إهمال أو حجب سلبياتها.غير أن هذه الأخيرة كثيرة. وهناك دراسات تدعم هذا المأخذ، فنحن نعلم أنه كلما أكثر طفلٌ من مشاهدة التلفاز، أصبحت رسومهُ ورصيده اللغوي أفقر، وزادت مخاطر إصابته بالبدانة ومواجهته لصعوبات في الحصول على شواهد دراسية. وتُظهر أبحاثٌ أن اليافعين الأمريكيين يُمضون في المتوسط وقتاً أطول أمام الشاشات (التلفاز، وحدات التحكم بألعاب الفيديو، الحواسيب، الهاتف الذكي…) منه على مقاعد الدراسة. أما ما يتشربونه فهو الاستهلاك والجنس والعنف،أي باختصار: قيم وجودية مشبوهة. ورغم أن وسائل التواصل هذه هي أداة رائعة للتحرير والمعرفة والتفكير والتبادل، فإن ذلك رهين بحسن استعمالنا لها، إلا أن الواقع ليس على هذا الحال في الوقت الراهن، لأن هذه التكنولوجيات أولاً تجعلنا تابعين لها. ولا يجب نسيان أنها فُرضت علينا ولم تُقترح، وذلك عبر استراتيجيات التسويق مفرطة الفعالية، والتي وضعتنا منذ الوهلة في علاقة رغبة "أنا أيضا يلزمني ذلك" وخضوع «لم يعد بإمكاني التخلي عنه " لقد غزت الشاشات مجمل حيواتنا وغدونا معها في علاقة إدمان: نطالع بريدنا الإلكتروني في كل لحظة ولا نخرج بلا هاتفنا المحمول ، كما أننا نتيه بدون نظام تحديد المواقع (GPS). فالشاشات توجهنا وتسيطر علينا. وكاختبار بسيط لكشف التراتبيات الجديدة: إذا ارتج نقَّالك وأنت مع شخص ما ، فلِمَنْ تًعطِي الأولوية؟ أللإنسان الماثل أمامك أم لذلك الموجود خلف الآلة؟ يمكن تفسير كل ذلك بغزارةٍ في خيارات لا نعرف كيفية التحكم فيها وتضاهي الوفرة الغذائية: فعبر التكنولوجيات الحديثة يتم تغذيتنا بإفراط بالإغراءات والمعلومات ومشتتات الانتباه بحيث تصعب علينا المقاومة والقيام بالفرز، ونريد ابتلاع كل شيء مخافة إغفال شيء ما. ونصاب بالسمنة جراء تلقي المعلومات غير النافعة والروابط الافتراضية. فقدرتنا على التقنين الذاتي مختلَّة، ذلك أن شاشاتنا مغرية للغاية، فمن السهل جداً الجلوس أمام حاسوب أو تلفاز، حتى إننا نخصص لذلك جزءً عظيماً ومفرطاً من وقتنا، وإذن من حياتنا. وقد يجادل البعضُ: بأننا نكتشف تقنيات جديدة، وأنه من الطبيعي أن نكون شغوفين ومسحورين، والأمر صحيح وعلينا أن نتكيف معه. إن تاريخ الإنسانية موسوم بعمليات ظهور تكنولوجيات جديدة. فالكتابة كانت ثورة أساسية بنفس الحجم، لكنها استغرقت قرونا للانتشار إلى سائر الإنسانية. وما نجده جديداً واستثنائياً هو السرعة التي اكتسح بها الإنترنت والهاتف والحواسيب العالم. وقد دعَّم هذه السرعةَ مصالحُ تجارية قوية، فقد كنا ضحايا تجار بارعين وأذكياء جعلونا نقول بأننا أصبحنا إنسانية جديدة أكثر تقدماً بفضل الشاشات. وتلك تفاهات: فالإنسانية المتصلة (connectée) هي في المقام الأول مصدر هائل للأرباح، ومن هنا تأتي أهمية صيانة وهم «الإنسان2.0»!. + إشارات: 1 كريستوف أندريه طبيب نفسي بمستشفى سانت آن، بباريس ويدرس بجامعة باريس المقاطعة العاشرة. وهو على دراية كبيرة بحالاتنا الروحية حسب كاتبة هذا المقال، ويمارس التأمل. + المصدر: المجلة الفرنسية " بسيكولوجي "Psychologies)) عدد325: كانون الثاني (يناير) 2013 (ص.ص 61 62)، والمقال من محاورة وإعداد: كريستيلا بيلي دُووِيل.