صدر الديوان الشعري « الأسود الذي لا ترينه»1 للشاعر المغربي محمد يويو عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر بدمشق، سوريا سنة 2016. وقد فاز هذا الديوان بجائزة التكوين للديوان الأول في دورتها الثانية 2016.يضم الديوان وهو الباكورة الأولى للشاعر محمد يويو 37 نصا شعريا قصيرا .وتتوزعهذه النصوص من خلال 60 صفحة وتحمل عناوين مركزة ومباشرة وبعيدة عن كل تعقيد منفر. كما أن قراءة الديوان تفيد بأن لغته تجنح نحو البساطة وفي ذات الوقت تحمل معها أجنحة متوهجة شعرا وإبداعا. وهذا ما يؤكده تقرير لجنة الجائزة، حيث جاء فيه ما يلي: « ما يميز هذا الشاعر اعتناؤه بالقصيدة، فهي تتحرك بترسل، وتنمو على مهل، بين تلك البدايات الغامضة، حتى النهايات القابلة للتأويل المتعدد ، وبذلك تتفادى قصيدته اللهاث والتداعي، في اختزال داخلي وأناقة مبسطة في البناء، وتتناغم فيها الفكرة مع الصورة بانسياب أليف، وإذا تبدو عبارته مسترخية، وصوره ملتقطة بتأن، فإنها متوترة من الداخل بذلك «الأسى الشفيف» بفعل صورة مبهجة عن العالم.»2 تقرير اللجنةكان محقا في ورقته التقديرية إلى حد بعيد بيد أن غنى الديوان الشعري يجعلنا أمام نوافذ أخرى نستطيع بواسطتها تفكيك مناحي قيمته الفنية والإبداعية. لهذا، فهدف هذه القراءة هو محاولة سبر أغوار الديوان الشعري « الأسود الذي لا ترينه» من خلالرصد بعض مفاتيحه الجمالية ودلالاته على مستويات المعنى والمبنى والصورة الشعرية وأيضا من خلال السواد وإشراقاته ورمزياته المتعددة. الموت باعتباره استعارة للحياة: يمثل الموت قيمة دلالية وشعرية مركزية في الديوان الشعري « الأسود الذي لا ترينه» وتتوزع هذه القيمة ضمن عدة أنساق جمالية و مستويات فنية وسياقات متنوعة. الموت ليس هو ذلك الغول المخيف والمثير للرهبة والحزن والأسى بل استحال أشياء أخرى لأن الشاعر أراده أن يكون كذلك. الموت أسقطه الشاعر في حبال السخرية وأبعده عن عوالم النحيب والبكاء والنواح والحزن الشديد. بل ولربما يلبس الشاعر الموت لباس العبث l›absurde كنوع من التهكم والنقد. وتصبح السخرية بالتالي ملاذا يختاره الشاعر نكاية في الموت أو الفناء. يقول الشاعر: مثال رقم 1: موتى من زجاج رأينا من عادوا منهم إلى النبع عراة من غير دوائر الرمل تقول دائرة: «أشكالها تدعو للريبة.. كل القبور مستطيلة» ستستحدث أشكالا جديدة المربع أخو المستطيل والمثلث.. بهذا سينعم الفانون بتسلية أكبر..3 الموت هذا الوحش الكاسر وهذا القرار المحتوم لا يخيف ولا يثير الرهبة بل استحال مدعاة لسخرية واعية نسجها الشاعر في قالب فني بديع يوظف القبور ويدقق في أشكالها الهندسية مفرغا بالتالي حمولتها الروحية والنفسية الثقيلة. الموت أصبح مختزلا في القبر الذي يعتبر المسكن الأخير للإنسان وهو يمثل بالتالي المحطة الأخيرة لمسار الموت وطقوسه بدأ من توقف القلب عن النبض وعن الحياة. مثال رقم 2: لا.. هي غير مبالية بعدائنا.. للنعوش الصغيرة الهازئة من عودة الجنود بالملح المجفف حماقة، إذا جزمنا بأنها تنتظر.. أحدا لا نراه بينهم كغودو مثلا. كانت تنتظر.. عودة الله معهم4 الشاعر يتابع رحلة السخرية التي رسم عوالمها من خلال تناوله لتيمة الموت وخيوطه الملتبسة ليقوم في هذا النص الشعري بأنسنة النعوش وينفخ فيها الروح فتصبح هي أيضا تسخر من الآخر المتمثل هنا في «الجنود». السخرية هي سلاح في وجه الموت وفي وجه الحياة أيضا. اللامبالاة سمة من سمات الاستهزاء المجازي بعالم الموت عبر تجسيد حي ودقيق لانكساراته ومطباته وتصويره فارغا من القسوة التي تغلفه. ويبقى مفهوم الانتظار الوارد في هذا النص غير مقترن بالعدمية كما هو معتاد ولكنه يستحيل غاية من أجل السخرية من المآل والمكان بكل تشكلاتهما. مثال رقم 3: أستيقظ.. على فرقعات يدين.. الموت ينشر غسيله تحت أشعة برتقالية عفنة لم يتبق من «أنخدوانا» سوى أقراص فخارية.. حتى لو استظهرت تراتيلها الإلهية وتسبيحات جلد الأرض فلن تشفع.. أستيقظ.. على ضحكة شيطانية لعالم آثار لاهث بلا يدين يرتب حفرياته بقدم الليل العرجاء إيقاع داخلي للموت يعانق نشوة الخفة الغرائبية.. ركض بلا خفين.. أخف وطأة من موت موزون.5 هنا عمد الشاعر إلى أنسنة الموت مواصلا بالتالي رحلةالسخرية والتهكم من عالمه أو بالأحرى من العوالم المشكلة لكينونة الموت وقوته وسحره. هذا النص الشعري يحمل بين ثناياه معجما ثريا من المتقابلات والمفردات والدلالات تتوزع ما بين الموسيقى ( إيقاع) والحركية أو الدينامية (ركض) والفرح (نشوة)والنظام والتنظيم (يرتب). هذه الاختيارات كلها تترجم حالات نفسية ودلالية وفق نظام منسجم رغم التناقضات التي تحتويه. مثال رقم 4: نقطة الدم تدندن فوق طفل من ورق حبله السري يحمل الرقم عشرة أو.. الأوراق تتناسل بلا حبال سرية طفل جاف يحمل صفات أبيه من ورق.. تحمله الأظافر بعيدا عن الدم أيموت الطفل بعيدا عن الدم؟ أم يحيى الطفل بالدم؟6 يوظف الشاعر الدم ضمن مستويات متباينة قد تكون مستمدة من الأسطورة والميثولوجيا والإيديولوجيا والثقافة الشعبية بشكل أو بآخر. وللدم رمزيات متعددة تجاور المجال الديني والفلسفي. وللدمكذلك ارتباط وثيق بالموتكما هو وارد في النصوص المقدسة كالقرآن مثلا. ويقترن الدم في هذا النص الشعري بمفهوم الولادة الذي هو خطاب أمل نحو المستقبل بكل خلفياته وتجلياته وفق خيط ناظم هو البراءة التي يمثلها الطفل. الدم يستعمله الشاعر محبة في الحياة ونكاية في الموت وتأكيدا على التشبث بكل الخيوط الموصلة والمحققة للعيش والتواجد والاستمرارية. مثال رقم 5: لماذا لا نأخذ حقائبنا ونحن ذاهبون إلى القبور؟ ألا يعد الموت سفرا؟ بتحريف طفيف في نص خاتمة الموضوع لنثق في النجار ونلق له بعض الدنانير الخشبية ونلق خطابا يليق بمسافر كي يحسن غلق الباب وراءنا […] فنحن لن نخاف الموت حتما فلسنا في القرن السابع قبل الميلاد.7 يربط الشاعر في هذا النص الشعري الموت برحلة وكأنه يتهكم على هوله وسطوته وجبروته. فالذهاب إلى القبور هو بمثابة سفر في نظر الشاعر وكأنه يريد إزاحة صفة الترهيب والتخويف الملتصقة به. هذا السفر الذي أشار إليه الشاعر في مستهل النص الشعري سينتهي عبر الإعلان صراحة عن تحدي الموت و مواجهة هوله حيث يقول: فنحن لن نخاف الموت حتما فلسنا في القرن السابع قبل الميلاد. الموت هنا أيضا مقترن بالولادة والمستقبل ورافض للنهاية والعدم. الموت عنوان للحياة والاستمرارية وتجاوز لكل العقبات. الموت ليس محطة أخيرة بل هو محطة ضمن محطات عديدة تشكل الحياة عنوانها والسفر سبيلها. مثال رقم 6: كل شيء محدد لا حاجة للموت أن.. ينبش في صدر وسادتك.. أو يترصدك بالمكائد لا حاجة لأن نسجن الموت حتى الموت فكل شيء محدد8 للحديث عن الموت، يستدعي الشاعرالمرجعية الدينية المتمثلة في القدر. فما دام الموت في نظر الشاعر أمرا محتوما، فينبغي على الإنسان عدم الالتفات إليه وعدم منحه تلك الهالة التي لا يستحقها. من أجل تشكيل هذه الصورة بدقة ومن أجل توصيف هذا الخطاب شعريا، استعمل الشاعر لغة سهلة جوهرها ومنطلقه السخرية. يقول المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي في باب الحديث عن السخرية: «ليست السخرية أداة منهجية تفرض على الموضوع، بل إنها من صميم إنتاج النص ذاته، فهي تعني الأخلاق والأيديولوجية اللتين تطبعان النص. إنهما تمسهما في جديتهما وثقلهما. إن السخرية المستمرة هي خلخلة للوجود، وهي تلك الخفة البلورية لذلك الذي يضيع فيقوم كل مرة ضد وهم حقيقته.»9 تيمة الضوء باعتباره سلطة متعددة للبهاء يشكل الضوء علامة من العلامات المميزة في هذا الديوان الشعري. حسب رؤية الشاعر ،الضوء متعدد ومرتبط ارتباطا متينا بالطبيعة أو ليست الطبيعة هروبا من العتمة وانطلاقة مشعة نحو الخيال السابح في الجمال والبهاء؟ في النص الشعري التالي، يقترح الشاعر صورة جميلة يكون فيها الضوء مكونا أساسيا من الطبيعة وذلك عبر توصيفه غصنا من شجرة يقوم من خلاله بتصدير البهاء. يقول الشاعر: مثال رقم 7: ماذا تريد الفراشة من غصن الضوء ألا تنبش عن أصل الشجرة أول التكوين البارد؟ أم أنها تحب أن ترى العالم متوردة نذكر محاسنها للشمع.. الشمعة التي هي جنس ساخر عن النور -كما في الأدب ما هو ساخر- ستكون هنا.10 الضوء في نظر الشاعر ليس رافدا من روافد الطبيعة فقط ولكنه قد يتجسد في صورة إنسان يمتلك أسرة وأبناء ويعيش حياته العادية مثله مثل سائر البشر. الضوء صبح ونجوم وقمر كما في النص الشعري التالي حيث يرسم الضوء لوحات فاتنة وبمفردات انتقاها الشاعر بعناية شديدة و عمد إلى استعمال وصف دقيق ومركز. يقول الشاعر: مثال رقم 8: الصبح يخرج من صدفته.. دون أن يوقظ أبناءه يبحث لنا عن رغائف الملح وحين عودته.. يتجشأ في أفواهنا واحدا واحدا كي نفيق يترك أنفاسه تحمل عنا حقائب بلا سحابات.. إذا كان محظوظا.. ستكون لبعض منها عجلات أو أرجل الصبح لا يأكل أبناءه حين عودته إلينا مثل القطط يهبهم لليل نجوما والقمر ابنه البار الناموس «لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة»11 خاتمة: من خلال هذه الإشراقات وتنوعها ومن خلال السواد وانزياحاته المختصرة للزمن في البياض والضوء والفرح والمستقبل بغايته المتفردة والمتمثلة في الأمل، استطاع الشاعر أن يقترح مشروعا شعريا مميزا بلغة بسيطة وتراكيب سلسة وصورجميلة و معجملغوي اختاره بعناية. كما أن الشاعر وفق كثيرا في الاعتماد على السخرية كاستراتيجية أساسية في مقاربة السواد شعريا وفلسفيا وأبستمولوجيا. هذه السخرية التي اقترحها الشاعر محمد يويو تجعلنا نردد ما قاله المفكر والباحث عبد السلام بنعبد العالي: « هناك سخرية على طريقة كافكا تعمل « كيأس مطلق لا هوادة فيه، وانفصال لا متناه.» لكن هناك سخرية أخرى على طريقة جويس، حيث تتضافر المتعة التي تطبع النص، مع ارتعاشة الممكن التي تهز القارئ، ورقصة الكلمات والأساطير، «لتفتح صدر القارئ على حرية مفرطة». هذه الحرية هي التي نستشعرها في هذه النصوص المقترحة، التي ،قبل أن تكون كتابة سجالية، فهي «تمرين» على النقد الذي يعمل كل ما في وسعه كي لا يتورط في سجالات أيديولوجية مستهلكة، وهي أساسا كتابة تورط قارئ»ها وتجره لأن ينخرط فيها قرائة ومتعة…وتفكيرا.»12 هوامش ومراجع 1 محمد يويو، «الأسود الذي لا ترينه»، دمشق (سوريا): دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2016. 2 نفسه، ص.6. 3نفسه، ص.14. 4 نفسه، ص.15. 5 نفسه، ص.21. 6 نفسه، ص.23. 7نفسه، ص.ص. 34-35. 8نفسه، ص.52. 9 الخطيبي عبد الكبير: نحو فكر مغاير، ترجمة وتقديم عبد السلام بنعبد العالي، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، 2013،ص.22. 10 محمد يويو، «الأسود الذي لا ترينه»، دمشق (سوريا): دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2016 ، ص.16. 11نفسه، ص.28. 12 الخطيبي عبد الكبير: نحو فكر مغاير، ترجمة وتقديم عبد السلام بنعبد العالي، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، 2013،ص.22.