الانتشار الواسع لتنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا ب«داعش» وسيطرته على أراض شاسعة في كلّ من العراقوسوريا، طرحا العديد من الأسئلة حول مصادر تمويل هذا التنظيم الذي يتمتع بعتاد حربي وفير وأموال طائلة. أسئلة حاول الباحث والحقوقي السوري هيثم منّاع الإجابة عنها في سلسلة تقارير صادرة عن المعهد السكندنافي لحقوق الإنسان منذ الأسابيع الأولى لولادة دولة العراق الإسلامية طرحت أسئلة كثيرة حول مصادر تمويل التنظيم ومصادر التسليح وشبكة العلاقات الإقليمية والدولية التي تقف وراء هذا المشروع ومدى استقلاليته السياسية والمالية. وحتى لا ندخل في نظريات المؤامرة والتخمين والشك، بودي التذكير في عجالة ببعض أوضاع احتلال العراق ونتائجه. لقد خلقت فوضى الاحتلال كل ظروف التسليح الواسع للناس بأقل تكلفة حتى، لا نقول من دون تكلفة في معظم الأحيان. ولم يكن مصير الإدارات الحكومية المدنية أفضل، بل كنا نشاهد في سوق للمسروقات كل الأدوات المكتبية، وأحيانا لم يكن البائع يعرف ماهية القطعة التي يبيعها. أما بالنسبة لعدد كبير من ضباط الجيش العراقي، الذي قرر بول برمير حلّه فكان من العادي أن يساعد في توزيع سلاح ثكناته قبل أن يسيطر عليها المحتلّ بشكل كامل. لذا لا يمكن الحديث في مسألة التسليح خلال الأشهر الأولى باعتبارها كانت بالفعل معضلة كبيرة. وكما روى لي لاحقا أحد الفرنسيين الذين التحقوا بالجماعات المسلحة بعد الإفراج عنه: طلبوا مني فقط الاحتفاظ بجواز سفري ومصروف الجيب لأنه لا حاجة لهم بأيّ شيء آخر. لا يمكن القول إنّ مشكلة التمويل كانت صعبة أيضا. فالمجموعات ذات الصلة بالنظام القديم لم تكن بحاجة لمساعدات مالية خارجية. بل وساعدت عدة مجموعات إسلامية ناشئة. أما تنظيم القاعدة فكانت له شبكات مالية تغطي احتياجاته. وقد اعتمدت هذه الشبكة على منظومة موازية لحركة المال غير الرسمية (ما كنا نسميه تندرا سياسة: kash and flys التعبير المقتبس من kiss and fly) في المثلث السعودي- القطري- الكويتي بمشاركة رجال أعمال متوسطين وصغار يتحركون بغطاء منهم. منذ وقت مبكر طرحت مسألة خطف الرهائن الأجانب لدفع ديات مالية عالية تساهم في تمويل الجماعات المسلحة، خاصة تلك التابعة لتنظيم القاعدة الذي اتبع هذا النهج في شمال أفريقيا ومنطقة الصحراء الأفريقية والصومال وحقق منه موارد مالية كبيرة. وقد تابعت شخصيا قضية تحرير ثلاثة صحفيين فرنسيين، كذلك تابعت اللجنة العربية لحقوق الإنسان عبر دفاعها عن رجل أعمال سوري-روماني أُدخِل السجن ضمن الصراعات السياسة الداخلية، تفاصيل تحرير الرهائن الرومانيات. وكما أن أجهزة المخابرات البريطانية والأميركية والفرنسية والإيطالية تعلم أنّ هذا المصدر للتمويل أكبر بكثير مما يجري الحديث عنه في وسائل الإعلام. هذا بالإضافة إلى تمويلات مالية أخرى كانت تأتي من قبل أشخاص تابعين للنظام السابق، من أولئك الذين شاركوا في العمليات التجارية للالتفاف على الحصار الجائر الّذي فرضته الأممالمتحدة على العراق. والذي أدى إلى نتائج كارثية على المجتمع العراقي دون عظيم أثر على الطبقة السياسية والأمنية الحاكمة. وفي هذا الإطار، تناولت عدة دراسات وتقارير أممية وصحفية قضية التمويل ولسنا بصدد تقرير مفصل عنها بقدر ما يهمنا إلقاء الضوء على آليات عمل «بيت مال» داعش وأخواتها. حركة المال غير الرسمية تعتبر حركة المال غير الرسمية، أحد أهم مصادر التمويل للحركات الجهادية التكفيرية. وقد بدأت هذه الحركة مع الحرب الأفغانية وحصلت على أشكال دعم وتسهيلات حكومية لاحصر لها. ويمكن القول إنّ أحداث 11 سبتمبر 2001، قد وضعت حدا لهذه البحبوحة التي فاقت بقدراتها المالية موازنات دول. الضغوط الأميركية أدت إلى إجراءات رقابية شملت الجيد والمشبوه والمتورط، وأثرت سلبا على العمل الإغاثي الإسلامي. وقد سعينا عبر تشكيل المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية إلى التأسيس لضوابط تحمي هذه المنظمات من إجراءات تعسفية من جهة ومن مغبة دفع ثمن تورط جزء منها في عمليات تمويل لمنظمات مسلحة متطرفة من جهة أخرى. إلا أن هذه الجهود انهارت بالتغلغل القوي لعناصر سلفية جهادية في صفوف الهيئات الإغاثية واستفادة هذه العناصر من الضبابية التي رافقت الحراك الشعبي منذ مطلع 2011. وقد لاحظنا عبر آخر تقرير أعده المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية قبل تجميد نشاطاته، لجوء العديد من الجمعيات إلى أسلوب جديد في العمل يعتمد أولا على إخفاء أسماء الهيكل التنظيمي للمؤسسات قدر المستطاع. وقد لجأت بعض الدول (قطر بشكل واضح) إلى الاعتماد على هذه المؤسسات كشكل غير مباشر لدعم الحركات المسلحة في ليبيا وسورياوالعراق ولبنان. وقد استفاد تنظيم القاعدة بشبكة علاقاته مع ثلاثة تنظيمات في وقت واحد وهي؛ جبهة النصرة، داعش، أحرار الشام، من هذه المساعدات التي كانت تمر تحت غطاء المجموعات المعتدلة قبل انفجار الصراع بين داعش ومختلف التنظيمات المسلحة بما فيها تلك الدائرة في فلك القاعدة. بل وكنا نشاهد نائبا سلفيا كويتيا أو أستاذا جامعيا قطريا يحمل السلاح مع الجيش الحر شمال سوريا في وقت يهاجم فيه نفق الديمقراطية المظلم والدولة المدنية الكافرة على حسابه في الشبكة الاجتماعية. ويمرر مساعدات كبيرة للجماعات الجهادية تحت هذه الغطاء. كذلك ثبت لدينا تورط منظمات إغاثة قطرية وتركية مباشرة في دعم جبهة النصرة وداعش في العامين الأخيرين. ويمكن أن نرى أنموذجا آخر لهذه الشبكات المبكرة في قضية كل من القطري عبدالعزيز العطلية واللبناني شادي المولوي والأردني عبدالملك عبدالسلام قبل عامين. والتي تدخلت الخارجية القطرية فيها مباشرة لإطلاق سراح «قريب» وزير الخارجية القطري الحالي. لقد توفرت لنا قوائم عديدة بهذا النوع من الشبكات الفردية والجماعية. ومن الملاحظ أن الشبكة العراقية أقدمها وأقواها، وهي تشمل رجال أعمال عراقيين يعيشون في نينوى وصلاح الدين والأنبار وإقليم كردستان العراق والأردن وبعض دول الخليج. ومنذ عام 2012 تظهر أسماء رجال أعمال من جمعية رجال الأعمال التركية الإسلامية (إسياد). من جهة أخرى،ورغم علاقتها المتوترة بل والعدائية، إلاّ أنّنا نجد كذلك أشكالا عديدة للتنسيق في مرور السلاح والمواد والمال بين العديد من التنظيمات المسلحة بما يشمل تبادل رهائن وتقاسم إتاوات وتسهيلات متبادلة. أساليب الضغط والابتزاز القسرية وفق معلومات مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة قامت حركة داعش بعد سيطرتها على الموصل بفرض حوالي 8 مليون دولار شهريا كطريقة للابتزاز النقدي ودفع ضريبة لصالحها من جانب الشركات المحلية، ومع استيلاء الحركة على مساحات واسعة من العراق تقوم بفرض مزيد من الضرائب على كافة المدن مما زاد من نسبة الأموال المتدفقة عليها بدخولها مزيدا من المدن. وكانت قد طبقت الأسلوب نفسه في مدنية الرقة السورية وشمال حلب. وقبل دخول الموصل كانت داعش تحصل على إتاوات شهرية من عدد من أصحاب المشاريع، مقابل عدم التعرض لهم بأعمال إرهابية. كذلك يدفع عدد من السياسيين والأغنياء العراقيين في مناطق تواجد داعش إتاوة مقابل ضمان أمنهم الشخصي أو أمن محيطهم وأعمالهم. السوق السوداء وتجارة الممنوعات تلجأ داعش إلى كل أشكال التعامل غير الرسمي لتبييض الأموال وبيع الممنوعات بما في ذلك تجارة المخدرات على المبدأ الطالباني (Not for Muslims). وثمة حوادث مازالت محدودة لبيع الأعضاء البشرية لجأ إليها عناصر من داعش والنصرة على الأراضي التركية. ولم يتورع التنظيم عن بيع النساء والأطفال كسبايا. وثمة خبرات تذكر بشبكات المافيا في كل ما يتعلق ببيع أشياء ثمينة كالمجوهرات المسروقة، وقد تأكدنا بأمثلة عينية من شهادة مراسل شبكة «ديلي بيست جوش روجين» لشبكة «سي إن إن بأن»، من أنّ داعش متفوقة بالفعل في أنشطتها الإرهابية التي امتدت حدّ الخطف والسرقة والقتل والتهديدات فضلا عن تجارة المخدرات ومخططات غسيل الأموال، ولعل دفع فدية إطلاق سراح المخطوفين من أكثر هذه الوسائل شيوعا لدي التنظيم، وقد اتسعت لتشمل مواطنين من بلدان العالم الثالث وأغنياء محليين. تجارة الطاقة شكل النفط والغاز والكهرباء هدفا إستراتيجيا لتنظيم داعش منذ نشأته. ويحرص التنظيم على الاستيلاء على مواقع الطاقة مهما كانت الخسائر البشرية وهو يعتمد تكتيكا معروفا يقوم على عدة عمليات انتحارية تمهد الطريق للسيطرة على بئر أو سد أو منشأة أو مخازن للحبوب والمواد المعيشية، يستعمل فيها الشباب الأجنبي وبشكل خاص السعودي والتونسي والأوروبي (حسب ترتيب النسبة الأعلى للعمليات)، ونادرا ما يتم استخدام عناصر عراقية. وتتم عمليات التسويق ضمن شبكة غير مباشرة تشمل السلطات السورية كمشتر ورجال أعمال عراقيين عرب وتركمان أكراد وسماسرة سوريين. كذلك ثمة شبكة موازية تركية تقوم بتسهيل النقل والبيع في السوق. الغنائم قبل القيم لم يتشوه وينحدر مفهوم الغنائم في التاريخ العربي الإسلامي يوما، كما يحدث اليوم على يد داعش والمجموعات الجهادية التكفيرية. فقد ألغت داعش المكان والزمان والمفهوم القرآني لصالح نظرة وضيعة تجعل الغنائم في مركز يتجاوز كل القيم والمفاهيم الإسلامية. فليس هناك شرف المواجهة في القتال ولا شرف الأمانة في التعامل أو أخلاق الحد الأدنى في الديانات الثلاث التي زرعت ثقافة تكريم الإنسان. الغدر والسرقة وانتهاك الحرمات والممتلكات والاعتداء على سلامة النفس والجسد في كل الأعمار وللجنسين بدعوى تحويل الضحايا إلى موضوع غنائم حرب، هي العقلية السائدة عند مقاتلين آثروا الثأر والحقد والسيطرة، على احترام قوانين الحرب التي عرفتها البشرية في مختلف مجتمعاتها ومنذ أكثر من ألفي عام، ومن هنا وصفنا تصرفات تنظيم داعش بصناعة التوحش. وتبلغ الاستباحة عند هذا التنظيم قمتها في استهداف الجماعات الإيمانية التي يصنفها كافرة أو مرتدة. وإن كان الوجه الظاهر هو محاربة الشيعة والإيزيدية والمسيحية، فضحايا داعش من السنة كانوا أكثر عددا منذ ولادة التنظيم وحتى اليوم، سواء بشكل مباشر عبر التعرض لكل من يرفض سلطته وبيعته، أو بشكل غير مباشر حيث يحوّل سكان المناطق ذات الأغلبية السنية التي يسيطر عليها إلى دروع بشرية ورهائن بالجملة ورعية تذل وتهان. وبقدر ما زادت ثروة التنظيم بقدر ما حوّل البنيات التحتية لمناطق الضحايا إلى خراب. أصدر التنظيم العديد من القرارات بمصادرة بيوت وأملاك من قاتلهم على مبدأ الغنيمة وقام بتوزيعها على عناصره. كذلك لم يسلم عناصر تنظيمات تحالفت معه منذ احتلال الموصل من قرارات المصادرة. وقد وجه المتحدث باسم التنظيم، نداء إلى كل من يرغب بالهجرة إلى أراضي الدولة (على طريقة الهجرة الصهيونية إلى فلسطين). وعمد تنظيم دولة البغدادي إلى استقدام عائلات المهاجرين من جميع أنحاء العالم من؛ أفريقيا وجنوب شرق آسيا والشيشان ومصر بشكل خاص، وإسكانهم في البيوت التي صادرها من عائلات تم ترحيلها من مختلف الطوائف، بل وجرى استهداف بيوت عناصر في الجيش والشرطة في الموصل والرقة، ووصل الأمر إلى باقي التشكيلات العسكرية المعارضة للسلطة السورية التي طردها من المناطق التي سيطر عليها. وقد شرع التنظيم مؤخرا في مصادرة أملاك كل من يملك بيتا ثانيا خاليا، تحت حجة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، علما بأن التفاوت في الموارد بين قادة التنظيم وعناصره كبيرة جدا والإمكانيات الموضوعة تحت تصرف القياديين خيالية أحيانا بالنسبة إلى مرتب صغير يدفع مقابله شاب مضلل به قادم من بلد آخر حياته ثمنا له. ويوزع التنظيم بسخاء السيارات المصادرة والبيوت والمحالات التجارية. ومن المؤكد أن المبالغ المالية التي يتلقاها المقاتل في «داعش»، تفوق ما يتلقاه أيّ مقاتل في المجموعات المقاتلة الأخرى، أو حتى في الجيوش النظامية. وبهذا المعنى يتعرى مفهوم الجهاد ليحل محله مفهوم المرتزقة وفق البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع، والذي يعرف المرتزق بالقول: «أي شخص ليس مواطنا من مواطني طرف من أطراف نزاع وُعد بتعويض مادي أكثر مما يُدفع للقوات المسحلة».