كانت المجلة الحائطية فرصة ثمينة للتقرب من الشاعر عبد الله راجع ،الذي لم أكن تلميذا في فصله ،كما يعتقد الكثيرون. وقد ورد سابقا أنني درست السنتين الخامسة والسادسة أدبي عند الأستاذ العمري ، والسنة السابعة أدبي [ الباكالوريا ] عند الأستاذ العدسي . كانت شخصية عبد الله راجع شخصية قوية . نراه منتصبة القامة يمشي مستقيم العمود الفقري ، ونظره كما لو أنه شاخص في الأفق البعيد . هكذا كان يبدو لي ، وهو يعبر فضاء الساحة باتجاه قاعة الدرس حاملا محفظة سوداء مكدسة في الغالب. نراه بعين الإعجاب بعد أن عرفنا أنه شاعر ، وازداد هذا الإعجاب بعد الإنصات إليه في أمسية شعرية باذخة أقيمت بفضاء مطعم الداخلية الفسيح . تلك الأمسية برغم الزمن البعيد ظلت راسخة ، بل وحية في الذاكرة ، لأنها كانت أول تجربة للإنصات إلى شاعر عميق يقرأ بانفعال وثقة كبيرة في النفس قصائده القوية معنى ومبن. ظل التقدير موصولا ، ونحن نقرأ له بين الفينة والأخرى قصيدة في الملحق الثقافي لجريدة العلم ، ولما صدر له ديوان الهجرة إلى المدن السفلى تحول الإعجاب إلى فخر، وتقدير إلى أبعد الحدود . كان الاقتراب من راجع وفق المعطيات السابقة صعبا علي ، بسبب الهالة التي كونتها عنه ، وأيضا بسبب خجلي. ربما حدس عبد الله هذا الأمر ، فقرر أن يكون هو صاحب المبادرة ، خاصة بعد أن نشر لي في المجلة الحائطية التي كان يشرف عليها قصيدتي « نِعْمةٌ لن تعود «. سأل عن كاتب القصيدة ، ولما التقينا أذكر نظر إلي مليا . صمت قليلا ، ثم بادرني بأسئلة سريعة تتعلق بوضعيتي وبأحوالي كتلميذ داخلي ، كما سأل عن بلدتي حلوان [ التي كان يتمنى أن يزورها ، كما كتب لي مرة في إحدى رسائله ] . بعد ذلك شرع يتحدث عن الشعر ، وأشياء أدركها بحسه النقدي العالي في القصيدة التي نشر لي في المجلة لحائطية قضايا لا علم لي بها ، بحكم إدراكي المتواضع آنذاك للشعر، وما يتصل به من قضايا فنية وجمالية تفوق مستواي الدراسي . تحدث عن الشاعر بدر شاكرالسياب الذي لم أقرأ له بعد وعن علاقته القوية بقريته جيكور. لاحظ ذلك بعد أن تأكد له من خلال ما أكتبه شدة تعلقي ببلدتي حلوان المعلقة بين الجبال . هذه الملاحظات أكدها لي فيما بعد في رسائل كنت أتلقاها منه على وجه السرعة كلما بعثت له بقصائدي ليفيدني بم يراه مناسبا ، وذلك بعد الانتقال إلى الجامعة في الرباط. يقول في رسالة مؤرخة بتاريخ 18 / 5 / 1975 : « أنصحك بقراءة بدر شاكر السياب ، أنصحك أولا بأن تقرأه جيدا، لأن ولعه بقريته جيكورأشبه ما يكون بولعك بقريتك حلوان، ولأن السياب شاعر كبير جدير بأن يقرأ ويتأثر به .» مرة دعاني إلى مقهى لاحتساء فنجان قهوة معه ، فعل ذلك لتكسير الجدار بين التلميذ والأستاذ ، ومن أجل التحدث إلي عن الشعر وقضاياه . كنت منصتا فقط ، لأن ثقافتي كانت جد متواضعة ، ولا تسمح لي بخوض النقاش معه . كنت أسأل بين الحين والآخر ، وكان هو يجيب بسخاء . تحدث عن الشعر العربي المعاصر ، وعن أهم أعلامه ، مع التركيز على تجربة بدر شاكرالسياب . أشياء كثيرة قيلت ، إلا أن ما أبهرني هو جملة ظلت في الأذن كما لو أنها قيلت في الأمس القريب . هذه الجملة رفعت من معنوياتي ، وجعلتني أثق في نفسي أكثر . قال لي بالحرف : عندما سيصدر لك ديوان يا بوجبيري سأكتب له المقدمة . كنت خلال تلك السنوات البهية في حضرة الفقيه بن صالح أحاول دائما أن أربط بين ذاك الشعاع البعيد ، الذي كنت أراه من أعلى الجبل ، وأنا طفل ، وبين ما أعيشه من مفاجآت بدت لي كما لو أنها معجزات صغيرة . كنت أنجح دائما، وإن بمعدل متوسط ، لكن الأهم هو الدخول إلى مجرة الشعر ودفء كلماته . الأهم أيضا هو أن خطى الصدف جعلتني ألتقي بمنارات أضاءت لي عتمة البدايات . منارات من قبيل عبد الله راجع ، ومحمد العمري ، وأحمد العابدي ، وإدريس إعفارة ، ومروان الحرمة ، وغيرهم من الأساتذة الذين ساندوا هذه التجربة لتخرج من تعثر البدايات . استطعت بفضل كل هؤلاء أن أقرأ ، بل وأن أنسخ عدة دواوين لرواد الحداثة الشعرية في المشرق لعربي ، ولكي أكون أكثر في السياق أمدني أحد الأساتذة بكتاب زمن الشعر لأدونيس الصادر سنة 1972 . عندما شرعت في قراءته شعرت برجة كبيرة تجتاحني . وجدته شيئا مختلفا عن كل ما قرأت . سما بي إلى الأعالي من دون حاجة إلى فهم كل ما يكتب ، خاصة عندما يحلق الكاتب إلى أبعد السماوات . كأني بالأستاذ الذي أمدني بهذا الكتاب التحفة أراد أن يرشدني إلى منظر الحداثة الشعرية علني أتعلم منه أفقا ممكنا لما أحاوله من كتابة شعرية . وجدت في هذا الكتاب تعريف الشعر ، الذي يلائمني ، ومن الجمل ، التي ظلت عالقة بالذهن قوله : « ليست القصيدة الحديثة مجرد شكل من أشكال التعبير، وإنما هي أيضا شكل من أشكال الوجود .» جملة اشتغلت في دواخلي كثيرا ، ولامست الشغاف ، لأنها بقدر ما هي بسيطة التركيب ، بقدر ما هي عويصة الدلالة ، خاصة أن المتلقي لهذا الكتاب تلميذ في أول الخطو باتجاه صرح المعرفة. من المساندات التي لن أنساها مساعدة صديق عزيز فوزال ابن واويزغت ، الذي ساعدني على نسخ أكثر من ديوان . كان الأساتذة المشار إليهم يمدونني بها ، وعلي أن أعيدها إليهم في وقت معلوم ، لكن تعلقي بتلك الدواوين بعد قراءتها جعلني أحرم نفسي من الخروج من الداخلية نهاية الأسبوع ، وأجلس في فصل من فصول الثانوية ، وأكتب حتى الإنهاك ، ثم أضع رأسي على يدي فوق الطاولة ، وأنام لبعض الوقت .هكذا كان إلى أن تطوع هذا الصديق ، والدفاتر المملوءة بكل تلك الدواوين المنسوخة بخط اليد ما تزال في زاوية من البيت ، وعلى مرأى من العين ، كي تذكرني كلما نسيت بما ينبغي ألا ينسى أبدا .