كانت الداخلية بغض النظرعن المأكل،والمشرب،والمبيت مدرسة رسخت في سلوكنا أخلاق النظام ، والانضباط. كانت أيضا مدرسة على مستوى التَّعلُّمي ، وهي بمعنى من المعاني امتداد لتعلمات الفصل الدراسي ، ودروسه . في المطعم ، أو "الرِّفيكْتْوارْ" كما كنا نسميه كانت تقام بين الحين، والآخر أنشطة ثقافية تناولت قضايا أغنت إلى حد كبير فقرنا المعرفي ، وجعلتنا ننفتح على آفاق معرفية أخرى ، وذلك من خلال محاضرات يتطوع أساتذة أكفاء في إلقائها على الحاضرين ، الذين كان أغلبهم من القاطنين في الداخلية ، وثلة من الأساتذة النابهين ، الذين كانوا حريصين على إغناء تلك المحاضرات بتدخلاتهم المفيدة والقيمة . من تلك المحاضرات محاضرة ألقاها أستاذ حديث العهد بالتخرج للأسف لا أتذكر اسمه ، لكن الغريب هو أن الذاكرة حافظت على قسمات وجهه ، وبشاشة محياه . كان عنوان المحاضرة هو المقاومة في الشعر الفلسطيني . لأول مرة تعرفت كما تعرف معظم زملائي على القضية الفلسطينية ، و ما يعاني منه أبناء هذا البلد من تشريد ، واضطهاد ، وقتل ، وتعذيب في السجون ، وفي أحسن الأحوال التيه في المنافي القصية . كانت أول مرة أسمع فيها أسماء لشعراء اختاروا خندق المقاومة ، من قبيل إبراهيم طوقان ، وأخته فدوى ، وتوفيق زياد ، وعبد الرحيم محمود ، وسالم جبران ، وكمال ناصر، بالإضافة إلى جيل من الشعراء الشباب اليافعين آنذاك في مطلع السبعينيات وفي طليعتهم محمود درويش ، وسميح القاسم ، وأحمد دحبور ، ومريد البرغوثي . في هذه الأمسية البهية لفت انتباهي الأستاذ الشاعر عبد الله راجع ، لأنه كلما شرع المحاضر في الاستشهاد بأبيات شعرية لشاعر من الشعراء فلسطين أراه يردد تلك الأشعار. كان يحفظها عن ظهر قلب . استنتجت في الحين أنا الذي يسعى إلى أن يكون شاعرعليه أن يقرأ ، ويحفظ كثيرا من الشعر . هذا ما شرعت فيه كلما أمدني أحد من الأساتذة الأجلاء بديوان من الدواوين ، أو كتاب أدبي شيق . أذكرأنني حفظت صفحات كثيرة من " دمعة وابتسامة " ، و" الأجنحة المتكسرة " لجبران خليل جبران ، والصفحة الأولى بالفرنسية من رواية الغريب لألبير كامو ، والعديد من قصائد ديوان " الرسم بالكلمات " لنزار قباني ، وأخرى لعبد الوهاب البياتي ،وصلاح عبد الصبور. كنت في تلك المرحلة أكثر انجذابا لهؤلاء الثلاثة ، مع العلم أن عبد الله راجع كان يحثني على قراءة بدر شاكر السياب لأنه كان يرى أن شدة تعلقي ببلدتي حلوان من خلال ما كان يقرؤه لي من محاولات يشبه إلى حد ما تعلق السياب بقريته جيكور، ثم لأنه شاعر كبير جدير بأن يقتدى به ، كما أكد لي في إحدى رسائله عندما كنت طالبا في الرباط . أقول إن تلك المحاضرات على قلتها فتحت وعينا على عالم جعلنا ننمي على مهل مهاراتنا لاكتساب معارف أخرى من خلال التثقيف الذاتي ، وتبادل الكتب ، التي كنا نشتريها بثمن زهيد من عند بائعي الكتب المستعملة يوم السوق ، الذي هو الأربعاء. كان حب الحصول على الكتاب يدفعنا إلى المغامرة ؛ إذ نقفز من على السور الخلفي للداخلية ، ونركض باتجاه السوق من خلال الأزقة الخلفية ، وكل ما نتمناه هو ألا يبصرنا أحد من الحراس،وإلا فإن العقاب سيكون في انتظرنا عندما نصطف في المساء قبل الولوج إلى المطعم . كثيرون هم أولئك الذين ضُبِطوا ، ونالوا ما يكفي من التقريع . لا نفعل ذلك إلا اضطرارا . فيما يخصني كنت دائما أتسلل يوم الجمعة من باب الثانوية المكتظ بالتلاميذ في الخروج ، أو الدخول ، وأركض باتجاه مكتبة قريبة تبيع الجرائد لأقتني بستة فرنكات جريدة العلم ، وأظفر بملحقها الثقافي الباذخ بأسمائه الكبيرة ، وعندما يتعذر الأمر أطلب من زميل لي في الفصل غير داخلي ليقتنيها لي مشكورا.كنت أشعر بسعادة غامرة كلما وجدت قصيدة لعبد الله راجع ، أو لشعراء آخرين يستهويني أفق كتاباتهم المختلفة كل الاختلاف عما كنا ندرسه في المقررات الدراسية . كنت أجد فيها سحرا خاصا، لأنها كانت تمثل لي أفقا آخر بالكاد أحاول أن أضع الخطوة الأولى في دربه الشائك الطويل . في ذات " الرِّيفِكْتْوارْ " حضرت ضمن حضور كثيف أول أمسية شعرية لعبد الله راجع ، وهو يقرأ بصوت دافئ لا يخلو من رنة حزينة . قرأ جهرا ، وبنبرة عالية نصوص الهجرة إلى المدن السفلى عنوان ديوانه الأول . أرعشتنا قصائده ، وإن كان معظمنا نحن التلاميذ لا يفهم كل الفهم ، لأن مستوانا الثقافي المتواضع لا يمسح بفهم هذه اللغة الجديدة المميزة من حيث المعجم ، والتركيب ، والصور البلاغية ، وما إلى ذلك من أدوات كتابة بدأت تتأسس آنذاك في بداية السبعينيات من القرن الماضي . لغة مختلفة كل الاختلاف عما ألفناه من نصوص شعرية في كتاب حنا الفاخوري الواسع الانتشار آنذاك ، وكتاب في الأدب الجاهلي لطه حسين ، الذي كان مقررا في مادة دراسة المؤلفات ، بالإضافة إلى بعض كتب شوقي ضيف المتوفرة ، وهي بدورها التي لا تؤرخ إلا للأدب العربي الكلاسيكي . في ذات القاعة أيضا استمتعنا بنصوص شعرية جميلة باللغة الفرنسية لأستاذ كان يدرسنا العلوم فيما أذكر، للأسف لم أستطع تذكر اسمه . دائما أقول لماذا لم يستمر هذا الشاعر، لأنه أبان في تلك الأمسية عن شاعرية محترمة . في ذات المجال كانت تقام المسابقات الثقافية بين مؤسسات التعليم في المدينة ، وكانت مصحوبة بحماس كبير بين جمهور المتسابقين . مسابقات كانت تجمع بين التثقيف ، والترفيه ، أما الهدف الأسمى فهو نشر ثقافة عامة تتعلق بعدة معارف ، ويؤطرها أساتذة أكفاء عدا مهام التدريس جندوا أنفسهم للفعل الثقافي النبيل . في قاعة المطالعة كانت لنا جولات مع التكوين ، والتحصيل ، وكنا مراقبين من طرف حراس يحرصون على إنجازنا ما هو مطلوب منا من مراجعة للدروس ، واستعداد قبلي ، لكن أهم ما ترسخ في الذاكرة هو أن أستاذنا الاستثنائي في مادة الفلسفة : الأستاذ الطيب الذكر فكَّاك ، بعد أن درَّسنا المادية التاريخية ، والمادية الجدلية ، أخبرنا بأن موضوع فرض الامتحان سيكون البيان الشيوعي لكارل ماركس ، والمطلوب منا هو قراءة هذا الكتاب في ظرف أسبوع . بعض النسخ المتوفرة كانت باللغة الفرنسية ، وكثير منا لا يتوفر على نسخة . كان الحل الوحيد هو قراءته بشكل جماعي في قاعة المطالعة . كان أحدنا يقرأ فقرة ، ثم يتوقف لنناقش من أجل الفهم ، وتثبيت المعلومة .هكذا إلى أن استوعبنا قدرالإمكان مضامين الكتاب ، وفكرته الثورية . بعد الاختبار حصل البعض منا على نقطة مشجعة ، جعلتهم يميلون في كل نقاش إلى فلسفة رؤيتهم للعالم ، وكلما سعوا إلى تعريف شيء بحثوا في العلل والأسباب اعتمادا على العقل .