كنت أتابع-عن كثب- القصص التي ينشرها محمد غرناط بالملاحق والمجلات الثقافية قبل أن تتاح لي فرصة التعرف عليه في منتصف الثمانينات. وقد لعب صديقنا محمد البكري دورا أساسيا في تعارفنا أول مرة بأحد المقاهي المحيطة بساحة باندونغ.. وقُبيل هذا الحدث أخبرني محمد البكري إثر مرورنا بمقهى في درب عمر أن محمد غرناط يؤثر احتساء كأس القهوة هنا لاصطياد شخصياته الخيالية وسرد القصة « الجميلة الندية» حسب تعبيره .. ألقينا نظرة سريعة على أرجاء المكان الذي كان غاصا بعينة من البشر، يأتون تباعا من الأحياء الهامشية بحثا عن أجواء التسرية والمكاشفة والمُسارَّة. ومن ثمة تبين لي مدى حرص محمد غرناط في ما يكتب على الواقعية رغم إلمامه بالمدارس الأخرى واستفادته منها. ولم يتخذ الواقعية مرآة لعكس ما يجري في الواقع، وإنما اعتبرها وُصلة لمعاودة تمثيل ما تلتقطه الحواس بطريقة فنية، وهو مهووس بأسطورة أصمودي (Mythe d'Asmodée) أسوة بأمثاله. وعندما توطدت علاقتي به كنا نلتقي بين الفينة والأخرى في الدارالبيضاء.. كان يوثر ركوب سيارة أجرة تقله من حي مولاي عبد الله إلى قلب البيضاء ( ما يحيط بفندق حياة رجنسي )، وهو يتأبط جريدة ورواية جديدة وحزمة من المُسوَّدات. كان يتكلم – على جري عادته- بتقتير شديد، وهي السمة التي برُع وحذق في صناعتها، وجعلت منه قاصا متميزا. لم يكن من طينة من يسهب ويخوض في الكلام طولا وعرضا. يحرص في جلساته أن يقول ما قل ودل دون أن يمس أحدا بسوء. وعندما استهوته الرواية- على غرار غيره – ظل وفيا لمعذبته القصة القصيرة، مؤثرا التكثيف والاقتصاد والإيحاء على غيرها من الخصائص التي يستوعبها الفضاء الروائي الفسيح. عندما استقر به المقام بالرباط (حي الفتح) ثم بتمارة (رياض أولاد مطاع)- بعد حصوله على معاش المغادرة الطوعية- أضحى أكثر إيثارا للعزلة والتقوقع على الذات كمن زهد في الحياة الدنيا. وبقدر ما أهله هذا « السبات» إلى الرفع من وتيرة إصدار الأعمال الروائية والقصصية، ومداومة النشر في الملاحق الثقافية بقدر ما أسعفه، أيضا، على إعادة النظر في جدوى الحياة والصداقة، وتبني فلسفة جديدة في الكتابة تقوم أساسا على المكاشفة، للتعبير- بطريقته الخاصة- عن مظاهر التردي والتقهقر التي استفحلت في المجتمع ، تزامنا مع انهيار كثير من المشاريع المحلوم بها، والتي كان يعتبرها جيل غرناط دانية القطوف، فإذا بها تنساب من بين الأصابع كمن يبسط كفيه للماء. وجد في هذه العزلة عزاء ومَسْلاة لمداراة المرض الذي ألم به، والتعايش معه متفاديا أن يقلق راحة الآخرين أو يستدر عطفهم وشفقتهم. كان يتألم داخليا من جراء منغصات المرض وأعراضه، لكنه يعطي الانطباع لمن يزوره أو يتصل به أن حالته عرضية لا تبعث على القلق. لم تفارق البسمة الصادقة بشائر وجهه من شدة تفاؤله بالحياة. ظل- وهو في جفن الردى -وفيا لعاداته وخاصة مداومة القراءة والكتابة، متشبثا بالأمل إلى آخر رمق. وقُبيْل وفاته بدقائق معدودات طلب من إحدى بناته أن تساعده على الصعود للطبق الأول ليختلي بنفسه في المطالعة، لكنه أسلم الروح لباريها بعد أن تخطى أدراجا معدودات. آثر أن يعيش خلال السنوات الأخيرة على خلوة، متخليا عن تدابير الحياة الرتيبة والمكرهة، ومستمتعا برنين الصمت الذي يحف به من كل جانب. كم كان يشعرني بسعادته وهو ينصت إلى عظامه، ويعود إلى ذاته بعد سنوات قضاها في الجري واللهث وراء الضوء الهارب منه ومنا باستمرار. مكنته «استراحة المحارب» من رؤية الأشياء عن بعد وبتجرد، و معاودة النظر في كثير من اليقينيات والأوهام الخادعة، ومعاينة بعض الأشياء البسيطة في الوجود كحفيف الأشجار، وهسيس الجيران، وانقشاع الليل، وصراخ طفل، ونباح كلب …وقد تضمنت مؤلفاته الأخيرة صحوة حواسه في التقاط تفاصيل الحياة اليومية، واستوعبت عصارة حياته لتشخيص « حساسية الإخفاق» التي اتسعت-على إثرها- الهوة بين الروح ومطالبها، وارتدت القيم الأصلية المنشودة إلى الدرك الأسفل. من بين الأحداث التي ظلت راسخة في ذهنه، وصول روايته « تحت ضوء الليل»(2010) إلى القائمة القصيرة ضمن الأعمال المرشحة لنيل جائزة الشيخ زايد للكتاب في صنف « الفنون والدراسات النقدية». أعادت له الاعتبار رغم أنه كان يعرف-مسبقا- من شدة المنافسة وملابساتها أن إحرازَها ضربٌ من المستحيلات. ومع ذلك ظل مسترسلا في أحلامه التي غمرته بمشاعر طفولية إلى أن حُجب صنف الجائزة لبواعث مجهولة. كانت هذه الالتفاتة الرمزية كافية لتبديد السحب الدكناء التي تراكمت في قلبه بسبب عدم حصوله على جائزة المغرب. كان أولى بها وخاصة في مجال القصة القصيرة التي أبلى فيها البلاء الحسن، واضطلع –رفقة صفوة من الفرسان، يتقدمهم عميد القصة القصيرة بالمغرب أحمد بوزفور- بتجديد نُسغها، والحفاظ على استمراريتها رغم انحسار المقروئية، وقلة المتابعة النقدية، وإحجام دور النشر عن طبعها و نشرها بدعوى» كساد بضاعتها». وفي هذا السياق، بادر فرع اتحاد كتاب المغرب بتمارة- بموازاة مع مبادرات متفرقة- بتنظيم لقاءين احتفاء بإصداريه الروائيين. حضر اللقاء الأول (الاثنين 17 يناير2011)عندما كان في منتهى قوته وعنفوانه. وعندما فرغ المتدخلون(محمد الدغمومي، أحمد حافظ، محمد معتصم) من ارتجال مداخلاتهم وشهاداتهم، تدخل محمد غرناط لإبراز مدى اهتمامه- في الأعمال الأخيرة- بالحوارية باعتبارها تمثيلا للتعدد اللغوي والتنوع الإيديولوجي، ثم أشاد بفكرة لكونديرا، ومفادها أن مؤسس الحداثة ليس رونيه ديكارت فحسب وإنما ميغيل سرفانتيس أيضا، لأنه هدم اللغة الأحادية والنمطية وبنى على أنقاضها لغة أخرى أكثر انفتاحا على التنوع الاجتماعي، وعلى تطلعات المهمشين في المجتمع. وقد أسعفه هذا الصنيع على إنزال اللغة من البرج العاجي لتصبح أداة من أدوات تحديث المجتمع ودَمقْرطته. لم يتمكن من حضور اللقاء الثاني(الجمعة 4 نونبر 2016) بسبب متاعب المرض. بعث إلي ورقة بخط يده يطلب الاعتذار من الحضور من جراء نوبة برد ألمت به.. هكذا كان يداري مرضه بشجاعة، مفضلا أن يتألم وحده في صمت إلى أن حان أجله.. وهي الخاصية التي عاينتها في الراحل أحمد فرشوخ في كثير من أسفارنا أو لقاءاتنا..كان يعلل تعبه وإعياءه بحالة طارئة وعابرة متفاديا أن يخوض في تفاصيلها كما لو كان أمرا شخصيا يهمه وحده. ألح الراحل محمد غرناط- في الأيام الأخيرة- على لقائي ليسلمني كتابا جماعيا عن تجربته التخييلية الثرة (في التجربة السردية لمحمد غرناط، المنسق بوشعيب الساوري، 2017). ولم نلتق فميا بيننا لانشغال كل واحد منا بهمومه وانشغالاته اليومية، وتواعدنا على اللقاء في أقرب وقت. لم نتوقع أن الأمور ستأخذ منحى معاكسا، وستقلب موازين الحياة رأسا على عقب. وبادر ابنه مشكورا بموافاتي بنسخة الكتاب بعد أسبوع على وفاة والده.