ويحكى أنه «كتب كتاب أمان لعبد الله بن علي عم المنصور و يوجد فيه خطه فكان من جملته و متى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شيء من شروط هذا الأمان فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده وإماؤه أحرار والمسلمون في حل من بيعته، فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه وسأل من الذي كتب له الأمان، فقيل له عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى وسليمان، ابني علي بالبصرة، فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاوية يأمره بقتله وقيل بل قال: أما أحد يكفيني ابن المقفع، فكتب أبو الخصيب بها إلى سفيان بن معاوية المهلبي أمير البصرة يومئذ وكان سفيان واجدا على ابن المقفع لأنه كان يعبث به ويضحك منه دائما، فغضب سفيان يوما من كلامه وافترى عليه، فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا، وقال له يا ابن المغتلمة وكان يمتنع و يعتصم بعيسى وسليمان، ابني علي بن عبد الله بن العباس، فحقدها سفيان عليه، فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله، فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم، وعدل به إلى حجرة في دهليزه وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاوية وعنده غلمانه و تنور نار يسجر فقال له سفيان أتذكر يوم قلت لي كذا أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق التنور عليه، وخرج إلى الناس فكلمهم فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج، فمضى و أخبر عيسى بن علي وأخاه سليمان بحاله، فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه، فأشخصاه إلى المنصور، وقامت البينة العادلة أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما و لم يخرج منها، فقال المنصور أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غدا، فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك قال لا ترع و أحضرهم في غد، وقامت الشهادة وطلب سليمان وعيسى القصاص فقال المنصور أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب و أومأ إلى باب خلفه من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان، فسكتوا و اندفع الأمر، وأضرب عيسى و سليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها و ذهب دمه هدرا». ويروي جمال بدوي في كتابه «مسرور السياف وإخوانه» الصادر عن دار الشروق أن ابن المقفع كان معارضا، لكنه لم يملك إلا الكلمة الصادقة، فقدم النصح للخليفة، وأشار عليه بما ينبغي عليه أن يفعله ليجتث جذور الفساد، ويتخلص من بطانته الفاسدة، ولم يبخل على الخليفة بمقترحات محددة لتنظيم الإدارة وضبط أموال الدولة. انتقد «ابن المقفع» في كتابه هؤلاء الصحابة نقدًا شديدًا، وحتى يأمن شرهم وغدر الخليفة الذي لم يكن يحب النُصح، لم يذكر اسم الخليفة ولا أصحابه صراحةً، بل جعل كلامه عامًا، ينطبق على بطانة الحاكم في كل مكان وزمان، وبذلك وجه رسالة مستترة إلى الخليفة وقتها حتى ينتبه إلى فساد بطانته. مظاهر الفساد في دولة العباسيين: تمثلت مظاهر الفساد في الدولة العباسية في عدة نقاط، منها: عدم تسجيل الأموال الواردة إلى خزائن الدولة من مختلف الأمصار في سجلات دقيقة، مما فتح الباب على مصراعيه أمام السرقات والاختلاسات. تضارب أحكام القضاة في القضية الواحدة من بلد إلى بلد لعدم وجود قانون موحد للأحكام، وهو الأمر الذي لا يحقق العدالة بين الناس، فكيف تكون العدالة حين يُحكم على أحد الأشخاص بالبراءة في قضية ما وعلى آخر بعقوبة في القضية نفسها؟ توغل قادة الجند في شؤون البلاد ونفاقهم للخليفة، وقد بلغوا في نفاقهم مبلغًا قالوا فيه: «لو أمرنا أمير المؤمنين أن نستدبر القبلة في صلاتنا، لسمعنا وأطعنا!» أي لو أمرنا الخليفة أن نعطي ظهورنا للقبلة بدلاً من وجوهنا لفعلنا، فحتى أصول الدين يمكن التنازل عنها رياءً للخليفة! عقل سبق عصره: رأى «ابن المقفع» وجوب وضع قانون موحد يلتزم به جميع القضاة في جميع الأمصار، وهو الأمر الذي يشبه إلى حد كبير آليات التشريع الحديثة، فسبق «ابن المقفع» بذلك عصره بمئات السنين، فأوروبا مثلاً لم تعرف القانون الموحد إلا على يد «نابليون» الذي جمع كبار رجال القانون لتوحيد القانون الفرنسي، فخرج «القانون المدني» الموحد عام 1804 ليقضي على فوضى القوانين في فرنسا وقتها، وهي الفكرة التي قدمها «ابن المُقفع» قبل ذلك بمئات السنين. نصائحه للخليفة. وجه ابن المقفع في كتابه عدة نصائح للخليفة، منها: أن يعيد النظر في اختيار رؤوس الدولة، فيولي أهل الكفاءة لا أهل الثقة. أن يقوم بتثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية، فلا يكون الجندي عصا في يد قائده يضرب بها من يشاء. أن يتقصى أحوال الجند ويتعرف على أخبارهم وحالهم. أن يمنع الجند من التدخل في الشؤون المالية للبلاد، وعلل رأيه بأن (ولاية الخراج مفسدة للمقاتلة)، وقد صدق رأي «ابن المقفع»، لأنه في عصور لاحقة، وعندما عوقب الكثير من القواد على ظلمهم للناس، استغلوا ما تحت أيديهم من أموال، ومن يواليهم من الجند، فخرجوا على الدولة وسببوا لها عدة كوارث. وقد شعر الخليفة وبطانته بالخطر من أفكار «ابن المقفع» التي تنم عن عقل واعٍ، وفكر حر، وهم يريدون عقولاً جوفاء، تصلح للاستعباد بسهولة دون عناء، فأخذ أصحاب «المنصور» يؤلبون الناس على «ابن المقفع»، ويتهمونه بالزندقة، وبأنه يفسد على الناس عقائدهم.