مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. هذه المعارك النقابية التي خضناها ساهمت بشكل كبير في إعطاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إشعاعا كبيرا داخل مدينة برشيد و بين سكان الإقليم، و هو ما انعكس و ظهر في المساندة البطولية لأبناء ساكنة برشيد لمواقف الحزب كافة. ففي دسمبر من سنة 1962 ، جاءت معركة الاستفتاء حول الدستور الممنوح، و كان موقف الحزب منها واضحا أي مقاطعة الاستفتاء و التصويت ضده إذ كان مطلبنا آنذاك هو إنشاء مجلس تأسيسي لوضع الدستور، و في المقابل أصدرت الإدارة تعليماتها بأن يتم الاستفتاء على الدستور و التصويت لصالحه مائة بالمائة. و هنا عرت السلطة عن وجهها الحقيقي و ظهر الباشا الطاهر العلوي بدون مساحيق و لا رتوش. و كان الطاهر العلوي كشخص رجلا محترما، يحاول أن يبدو كما قلت، متعاطفا معنا، و كان عذب الكلام ذرب اللسان، فحين أذهبُ إلى مقر الباشوية لغرض من الأغراض الإدارية الخاصة بي أو بأحد المناضلين ،كان يتعمد دعوتي إلى مكتبه و التحدث معي عن قادتنا و كأنه يعرفهم معرفة شخصية فيقول لي أني التقيت بالأمس مع الفقيه البصري أو مع عبد الرحمان اليوسفي أو.. و اكتشفت أنه يقوم بنفس الشيء مع مناضلي حزب الاستقلال و يتبع الأسلوب ذاته معهم. و في مرة من المرات التقيتُ الفقيه البصري فقلت له: "أليس لكم مع من تتعشوا حتى تتعشوا مع باشا برشيد الطاهر العلوي؟" فنفى الأمر جملة و تفصيلا، و نصحني قائلا : "في المرة القادمة حين يزعم ذلك قل له أن الفقيه مسافر خارج الوطن منذ أسبوعين". و هذا ما حصل فعلا، إذ التقيت الباشا في مرة من المرات فقال لي أنه تعشى البارحة مع الفقيه فسألته متى كان ذلك فأجابني بأن اللقاء تم البارحة فأبديت استغرابي مؤكدا له أن الفقيه مسافر إلى فرنسا منذ عشرة أيام فأُسقط في يده و استدرك قائلا أنه ربما عاد البارحة، و لم أشأ أن أحرجه أكثر فصمتتُ، لكن هذه كانت هي المرة الأخيرة التي يزعم فيها أمامي بلقاءاته مع قادتنا. بدأت إذن معركة الاستفتاء فجئنا بمناشير من الكتابة الإقليمية بالبيضاء، و أشرفت على تجمع كبير في مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في برشيد، الذي كان يوجد بدرب ولد التازية. و كان ولد التازية هذا و هو رجل ثري، يُدعى من طرف بعض منافسيه "أبو المكاتب" لأنه أجر واحدة من دوره للاتحاد الوطني للقوات الشعبية يستخدمها كمكتب و أكرى أخرى لحزب الاستقلال لنفس الغاية و كذلك فعل بالنسبة لحزب الشورى... في هذا التجمع شرحت للمناضلين و للعاطفين أن مسألة الدستور مسألة مهمة و مصيرية و حيوية ترهن مستقبل البلاد لفترة زمنية طويلة و هي التي تؤطر القوانين التي ستتحكم فينا و تسيرنا لردح طويل من الزمن ،و لهذا فنحن بحاجة إلى دستور يتوافق عليه جميع المغاربة و يضعه فقهاء و اختصاصيون مغاربة، يعرفون عاداتنا و تقاليدنا و ديننا، و ليس دستورا مستوردا من الخارج و يطبق علينا قسرا. و كان هذا التجمع ناجحا بمقياس المدينة. و لأنني قد جئت بالدفعة الأولى من المناشير، و بعد انتهاء التجمع ، استبقيتُ السي محمد بلمقدم رحمه الله و شخصا آخر لا داعي لذكر إسمه، و قسمنا مدينة برشيد إلى ثلاثة أقسام تكلفت بحصة و تكلف الباقيان بالحصتين الأخريتين على أن نوزع المناشير ، بعد منتصف الليل، كل في جهته، و كان من المقرر أن يحل السي علال الفاسي رحمه الله زعيم حزب الاستقلال في اليوم الموالي بالمدينة لإلقاء محاضرة لصالح الدستور. تكلفت أنا بالحي الإداري في برشيد بدءا من "البيرو" حيث مقر العمالة حاليا، حتى "لاغار" المحطة الطرقية حيث الشارع الرئيسي المؤدي إلى سطات، و تكفل بلمقدم بالدرب الجديد و الشخص الثالث منطقة أخرى قريبة من سكنه . و في الصباح اكتشفت أن المنطقتين اللتين تكلفت بهما أنا و السي بلمقدم مغطاتين بالمناشير بينما المنطقة الثالثة لا مناشير بها و ليس بها عمال البلدية الذين كُلفوا بجمع المناشير منذ الصباح الباكر. سألت بعض السكان إن كانوا رأوا مناشير بالقرب منهم فكان الجواب بالنفي لديهم جميعا. استفسرت هذا الشخص عن السبب فأجابني زاعما بأن الباشا العلوي و الشيخ صالح نهضا في الثالثة صباحا و جمعا كل المناشير التي رماها بمنطقته. بعد يومين جئت بملصقات كبيرة ينبغي إلصاقها بالجدران، و كما في المرة السابقة استدعيت الأخوين معا، و تقاسمنا حزمة الملصقات و اتفقنا على إلصاقها على الجدران كل بمنطقته. و في اليوم الموالي اكتشفت أعوان السلطة يقومون بتمزيق ملصقاتنا و نزعها نهارا لدرجة أن سي محمد منصور أطال الله عمره كان قادما من الدارالبيضاء على الطريق الرئيسية فرأى الباشا العلوي منهمكا في نزع الملصق الموضوع على مدخل المدينة، فقال له ساخرا : "أمولاي الطاهر هل أصبحت صباغا؟" فأجابه : " و ماذا نفعل مع سعد الله الذي أتعبنا". و في المساء اجتمعنا مع الشخص المذكور و قلنا له أنا و السي بلمقدم أنك لم تقم بواجبك فحاول التملص زاعما أنه قام بعملية الإلصاق لكن السلطة نزعتها ، فطلبت منه أن يركب معنا في سيارة بلمقدم و طفنا بشوارع برشيد نَدُله على آثار الملصقات التي تم انتزاعها من المنطقتين اللتين كُلفنا بها نحن الإثنين و هي آثار ظاهرة للعيان و طلبنا منه أن يدلنا هو على آثار الملصقات التي وضعها. لم يحر جوابا، حينها أمرته بألا يضع قدمه مرة أخرى في المقر، كي لا أفضحه أمام المناضلين. و تبين فيما بعد بأنه مخبر صغير للسلطة. واصلت معاركي ضد السلطة على عدة مستويات من بينها المستوى الإعلامي. فقد كان هذا الباشا عنيفا بل كان يقدم على ضرب المواطنين أو ركلهم. جاءني أحد السكان من منطقة "الساحل" و طرق باب قسمي في مدرسة البنات التي تم نقلي إليها في ذلك الحين كإجراء عقابي و لإبعادي عن معلمي إعدادية ابن رشد، و قال لي أنه توصل باستدعاء من الباشا فجاء يستشيرني في ما ينبغي أن يفعل، فقلت له أنه قد يقول لك أن الاتحاديين ضد الملك فرُد عليه بأن الملك استدعى عبد الرحيم بوعبيد زعيم الحزب و أنه لو كان ضده لما استدعاه و لما تشاور معه و إذا قال لك أنك تنتمي لحزب يزرع الفوضى فقل له أننا حزب سياسي و لسنا حزب فوضى و إذا قال لك كذا فأجبه بكذا...إلخ . فلما ذهب عند الباشا حصل ما توقعت فاستشاط الباشا غضبا و ضرب الرجل في بطنه مما آلمه في كليته اليسرى . جاءني السيد يتلوى من الألم و حكى لي الواقعة فسألته إن كان يريد رفع دعوى ضد الباشا فأجابني بالإيجاب و نصحته باستخراج شهادة طبية تثبت ما حصل، و جاء بالشهادة فعلا وتقدمنا بشكاية لدى المحكمة. كنت أعلم أنه لن يتم استدعاء الباشا أو محاكمته، لكن غرضي كان هو زرع الشجاعة و الجرأة في نفوس المواطنين و المناضلين، فقد كان قيام رجل من البادية برفع دعوى ضد الباشا يمثل جرأة لا مثيل لها في ذلك الحين بل و حتى الآن. كما كنت أرافق بعض المواطنين الذين يرتادون الإدارة فترفض القيام بواجبها حيالهم و تمنحهم حقوقهم أو وثائقهم و ذلك لتمرينهم على المواجهة و ترويضهم على المطالبة بحقوقهم البسيطة و استنفاذها دون رشوة أو هدية، فكان الباشا كلما رآني أو بلغه أني جئت إلى الباشوية يقوم بتكليف شاويشه باستدعائي و يبادر إلى الأمر بتنفيذ ما جئت لأجله و يطلب منهم تسبيق المواطن الذي جئت رفقته، و ذلك حتى لا أمكث طويلا بالإدارة ، و لكن المواطنين و قد عرفوا ذلك باتوا يطرقون بابي باستمرار، و هو أمر اعتبرته مفيدا لنشاطي الحزبي حينها، فكنت أخدمهم عن طيب خاطر خدمة لحزبي. و في مرة من المرات جئت مع أحد المواطنين فاستدعاني الباشا كالعادة و ما أن دخلت مكتبه حتى رمى جريدة "التحرير" أمام عيني - و كان لا ينام حتى يطلع عليها إذ كان الشيخ صالح رحمه الله ، و هو شيخ معروف بالباشوية ، مكلفا بالذهاب يوميا إلى البيضاء للإتيان بها له كل مساء- و دار بيننا الحوار التالي : - من كتب هذا المقال؟ - أنا من كتبته - وهل أنا أضرب المواطنين؟ - نعم، إنك تضربهم - هل رأيتني أضربهم؟ - إن شواشك و مخازنيتك يضربونهم - و لماذا لم تكتب أن الشواش و المخازنية هم من يفعل ذلك - لا، لا ألطخ الجريدة بالحديث عن المخازنية. فأنت الذي أصدرت الأوامر للشواش و المخازنية و أنت المسؤول الأول عن ذلك. - إنك بهذا تسيء إلى الجريدة و سُمعتها و تكتب الكذب. - إذا رأيت فيما كتبت كذبا فأرسل بيان حقيقة إلى الجريدة أو إرفع دعوى ضدها. فأُسقط في يده و بدأ يحدثني بلسان الناصح قائلا أن مثل هذه الكتابات تسيء للجريدة وللحزب ، وأنا أنصت له أكاد أنفجر ضحكا لأني أعلم أن الذي أغاضه أكثر ليس هو قولنا أن "باشا برشيد يضرب المواطنين" إذ كان مثل هذا القول يُعتبر نيشانا على صدره في عرف الداخلية في ذلك الوقت، لكن الذي أغاضه و أخرجه عن طوره هو كلمة أضافها السي عبد الرحمان اليوسفي إلى المقال، و كان حينها رئيس تحرير جريدة التحرير، مُلحقا نعت "المخبول" بكلمة الباشا في إشارة مقنعة إلى مدينة برشيد التي كانت تحتضن واحدا من أهم مستشفيات الأمراض العقلية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. حين دنا تاريخ الاستفتاء، تم استدعاء رجال التعليم لتسجيل الراغبين منهم في الإشراف على مكاتب التصويت. فذهبت إسوة بالعديد من زملائي. و لما فتح باب التسجيل كنت أرفع يدي قصد التسجيل، فأرى الكاتب حَميدة رحمه الله يخط شيئا في الورقة أمامه، و حين تتم تلاوة الأسماء لا أسمع إسمي فأُنبه الباشا إلى أن إسمي غير موجود، فيتظاهر بأمر حميدة بالتسجيل و في مرة ثانية يعيد قراءة اللائحة فأكتشف بأن إسمي لا ذكر له، فنهضت قائلا: "أمولاي الطاهر، هل أصبح لإسم سعد الله جناحان يطير بهما خارج اللائحة؟" فانفجر الحضور بالضحك و اصطنع هو الغضب وأمر كاتبه بتسجيل إسمي. و حل موعد الاستفتاء ،فحضر رجال التعليم المسجلون في الصباح الباكر إلى مقر الباشوية من أجل التعرف على مكاتب التصويت التي سيُشرفون عليها . كنا حوالي مائة و خمسين من الزملاء، فنادى الباشا بإسمي أولا قائلا: "سعد الله مكلف بمكتب العمامرة، و سيذهب معه محمد العماري". كان الشتيوي جالسا بقربي فسألته : "من هو هذا العماري؟" فقال لي أنه "استقلالي و يشتغل بالنواصر". و ما أن انعزل هذا الشخص قليلا عن القوم حتى توجهت نحوه و سألته هل أنت العماري فأجابني بالإيجاب فاستعجلتُه للذهاب، سألته عما إذا كانت لديه سيارة فرد أن نعم. ركبنا سيارته و لما حاذينا متجر الحاج سعيد رحمه لله ب"لاغار" (المحطة) طلبت منه أن يتوقف كي نقتني غذاءنا، فرفض قائلا أن لا حاجة إلى ذلك فكل شيء تم تحضيره هناك، مضيفا بحَنَق أن "حفرة جهنم هي بلدة برشيد هاته"، فاستفسرته عن السبب فقال لي "ياك أنت أستاذ مصري؟ " فأجبته: "أنا في الواقع جزائري و لكن الناس هنا يدعونني بالمصري"، فأضاف شارحا لماذا وصف برشيد بحفرة جهنم: "هنا يوجد أحد المُخلوضين يقال له صالح المذكوري، و كنا قد اتفقنا البارحة في اجتماع مع الباشا كي يبعثه معي كي نتخلص منه، لكني لا أعرف لماذا غير رأيه و بعثك أنت معنا. لقد أعددنا الشهود و حضرنا كل شيء كي نرسله إلى السجن". إذن فالأمر مُدبر لإرسالي للسجن بتهمة جاهزة... وصلنا إلى مكتب العمامرة و وجدت هؤلاء "الشهود" جالسين في انتظارنا، فطلبت من صاحبي - و هو في الأصل رئيس المكتب - أن يجلس على المقعد الأول القريب من الباب و أن يشرح للمواطنين كيف تتم عملية التصويت، ثم التفتتُ إلى الحضور فقلتُ لهم : "تفضلوا للتصويت، فأنا إنسان أجنبي لا مصلحة لي، من أراد أن يصوت فليفعل و ينصرف، فما يهمني هو أن تقوموا بواجبكم و تتركوا لي المكتب خاليا" . بدأ الحاضرون ينظرون إلى العماري و كأنما يأخذون رأيه فيما سمعوه لتوهم فقال لهم : "صافي صافي ذاك الشي ما بقاش" أي أن ما تم تبييته ليلا لم يعد ساريا. و طفق الناخبون يتدفقون على المكتب فيسألونني - و كانوا أناسا بسطاء و جاهلين - "بأي ورقة نصوت يا سيدي؟" فأجيبهم متعمدا : "صوت بالبيضاء أو صوت بالزرقاء أو بهما معا، فهذا ليس شغلنا نحن" و في غالب الأحيان كان الناس البسطاء يفعلون آخر ما التقطته آذانهم فيرمون الورقتين معا في صندوق الاقتراع، مما يجعل التصويت لاغيا. و هذا عين ما كنا نتوخاه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. و حوالي منتصف النهار، سمعنا جلبة و قيل أن الباشا قد حضر، فتململ صاحبي يريد النهوض فأمسكته موميا له بأن لا يتحرك فأجابني أن الباشا بالباب فقلت له "أن الباشا سيدخل لا محالة، أما أنا و أنت فلا ينبغي أن نفترق، نحن مثل العدلين لا تُقبل شهادة الواحد دون الآخر، ما ذا لو نهضت أنت فجاء أحد الناخبين و رمى ورقته كيف سنتعامل مع هذا الأمر؟" و بعد هنيهة أطل الباشا واقفا بالباب كالمتردد، و سألنا مبتسما هل نسمح له بالدخول، فقلت له: "بصفتك العسكرية هاته (و كان يرتدي لباس الميدان) ليس من المسموح لكن بصورة حبية تفضل". دخل إلى المكتب واستفسر عن نسبة المشاركة فأعطيته إياها ثم انصرف. في الظهيرة جيء لنا بقصعة كسكس للغذاء ، ثم واصلنا عملنا بصورة عادية إلى أن انتهى الوقت القانوني للتصويت، فجمعنا الوثائق و فتحنا الصندوق و بدأنا عملية العد، كان صاحبي ينشرح حين نفتح الغلاف فنجد الورقة البيضاء أما حين تكون زرقاء فيقول "الله يزرق لبوه العين، شحال علمنا فيهم و ما بغاو يتعلموا" و حين تكونان معا فنسجلها باطلة فيقول "الله يبطل ليه اليدين". بقي آخر غلاف فاكتشفنا أنه يضم ورقتين فقلت له هذه باطلة فقال و قد اسود وجهه من الغيظ : "لا، لا يمكن، لنضعها في المتنازع عليها" قلت له لا بأس و إن كان موظفو المحكمة و القضاة سيضحكون علينا لأن القانون واضح. عبأنا المحضر و وقعتُ أولا ثم طلبت منه التوقيع عليه فوقع. وضعنا المحضر و باقي الوثائق في ملف و حملناه إلى المركز الذي كان بالدروة. فلما رآني خليفة رحمه الله و كان هو رئيس المكتب هناك، انفرجت أساريره لكوني عُدت سالما، و قد بلغته المكيدة التي دُبرت لي. أما بلمقدم المسكين الذي ذهب إلى مكتب بعيد فقد حُرم من الغذاء و تعرض للتهديد بالضرب و كاد يلقى عَنَتا. بعد أن قدمنا المحضر و أنهينا مهمتنا، طلبتُ من صاحبي العماري أن يوصلني إلى برشيد البعيدة بحوالي ثلاثة عشر كيلومترا عن الدروة. و لما وصلنا أمام متجر الحاج سعيد رحمه لله، و كان صديقا لي، نزلتُ و ودعته. ثم بلغني أن أصحابه الاستقلاليين قد التقوه مباشرة بعد نزولي يستفسرونه عما وقع، فقال لهم أن الباشا بعث معه جزائريا و لم يبعث صالح المذكوري، فأكدوا له أن المعني بالأمر هو أنا، فصاح نادما "لقد لعب بي المُخلوض". الحلقة المقبلة : الحملة الانتخابية واعتقالي سنة 1963