مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة . هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد. في مستهل السنة الدراسية للعام 1961 عُينت في برشيد، التي كنت أعرفها معرفة سطحية كمدينة و كنت أعرفها من خلال رجالاتها الذين كانوا معتقلين - في عهد الاستعمار- بسجن الكَارة ، و الذين كنت أدخل عندهم - كما قلت سابقا- بدعوى حلاقة شعرهم فأُمدهم بالجرائد و بالأخبار و أستلم منهم الأخبار و المعلومات. و كان من ضمن هؤلاء الوطنيين السي محمد الرياحي و كان عدلا و بوشعيب الهواري و بوعزة بلعياشي رحمهم لله إضافة إلى حوالي عشرة آخرين لم أعد أتذكر أسماءهم. هؤلاء الرجال كانوا النواة الأولى لشبكة أصدقائي ببرشيد إضافة إلى بعض أفراد عائلتي الذين كان على رأسهم صهري و خالي المصطفى و شقيقي السي احمد رحمهما لله. تم تعييني في إعدادية أبن رشد، و قد كانت هي الإعدادية الوحيدة بالمدينة. و أقمت في مرحلة أولى عند أخي سي احمد بمنزله في حي "لا غار" (المحطة) قبل أن أكتري منزلا بالقرب منه، سأعمل على استقدام أسرتي إليه. خلال اشتغالي بإعدادية ابن رشد شرعت في تنظيم العمل النقابي بالمؤسسة و بتأطير العمال العاملين بالمعملين الوحيدين بالمدينة، و ذلك تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، و كانت هي المركزية النقابية الوحيدة آنذاك. و قد شرعت بمؤسستي حيث لاحظت أن مدير الإعدادية الفرنسي "أوبيليان" يجتمع بالأساتذة الفرنسيين للتذاكر حول تسيير المؤسسة و توزيع الجداول الزمنية في حين يتم إقصاء الأساتذة المغاربة عن مثل هذه الاجتماعات. فلما سألتهم عن "عزوفهم" هذا قيل لي أن هذا هو العُرف المتبع و أنه لم يسبق لأي أستاذ مغربي أن شارك اجتماعات الفرنسيين. أمضيت ساعتين تقريبا من النقاش من أجل إقناع زملائي بحقهم في المشاركة في الاجتماع مع الإدارة التي لا ينبغي أن تنفرد بالقرارات، فقررنا التوجه لمقر الاجتماع أي مكتب المدير للمطالبة بحقنا في المشاركة، لكن ما أن قطعت ساحة الثانوية و وصلت الدروج الأولى نحو مكتب المدير حتى وجدتني صُحبة إثنين أو ثلاثة فقط من الأساتذة المغاربة بينما تبدد الباقون في الساحة و نكصوا على أعقابهم ،و حين وصلت باب مكتب المدير وجدتُني وحيدا. طلبت من الحارس "با العربي" رحمه لله أن يأذن لي للدخول، فخرج المدير "أوبيليان" يرطن بالفرنسية، فقال لي الحارس مترجما أنه يقول لي أنه لن يستقبلني و أني لا أشتغل عنده فقلت له غاضبا: "أنا ما خدامش في الفيرما ديال اباه، أنا خدام في بلادي" و انصرفتُ. عدت إلى بيتي حانقا مُتفكرا، و في الزوال بعد أن تغذيت و أخذت قيلولتي و هدأ عني الغضبُ، قفلتُ إلى مكتب المدير مباشرة فطرقت بابه و دخلت عليه دون انتظار إذنه. ذُهل لاقتحامي المُفاجئ لمكتبه و قبل أن يقوم بأي رد فعل بادرته بالقول: "إن مسيو حليم يقول لك أن تكتب على ورق ما قلته لي في الصباح شفويا" ، و كان السيد حليم هذا مفتشا من مفتشي وزارة التعليم بالمنطقة، فنهض متحدثا بالعربية و كأنه مغربي من اولاد حريز: "أنا مسيو سعد لله لا أريد مشاكل، اختر القسم الذي يعجبك" فقلت له ليس هذا ما أريد بل نريد المشاركة في الاجتماعات التي تهم المؤسسة التي نشتغل بها تماما مثل الفرنسيين. و على كل حال ، كان هذا الأمر - على بساطته - ضروريا في تلك الفترة من أجل نزع الرهبة و الخوف اللذين كانا لا يزالان ينيخا بكلكلهما على المغاربة فَرَقا من الفرنسيين رغم رحيل الاستعمار بعدة سنوات. و كان ضروريا أيضا لإظهار أن الحقوق ينتزعها أصحابها و لا تُمنح لهم مجانا. أما بالنسبة للتأطير النقابي للعمال، فقد كانت برشيد تحتضن مستشفى الأمراض العقلية بشغيلته الصحية الكثيفة و بعض الضيعات الفلاحية في الأطراف و معملين صغيرين فقط أحدهما سنخوض فيه معركة هامة سيأتي ذكرها لاحقا. فيما واصلتُ تحركاتي في المناطق التي كنت أحد المسؤولين عنها حزبيا و نقابيا و هي الواقعة ضمن إقليم الشاوية و دكالة. فقد كنتُ أقوم؟ صحبة إخوان آخرين - بزيارات لسيدي بنور أو خميس الزمامرة أو الكَارة أو بنسليمان أو سطات أو غيرها للتحسيس بالعمل النقابي. و بالموازاة مع عملي النقابي، استأنفتُ نشاطي السياسي كذلك بالمنطقة كلها، حيث كنت أغطي بلدات و قرى المنطقة من أجل الإشراف على تأسيس فروع الحزب الجديد. فالذي حصل في انتفاضة 25 يناير لم يكن انشقاق تيار تقدمي و انفصاله عن حزب الاستقلال فقط ، بل كان في الواقع تأسيسا لحزب جديد ضم المنشقين عن حزب الاستقلال و هم النواة الأساسية لَهُ و كذا مناضلي أحزاب أخرى انضمت و شكلت الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مثل حزب الشورى و الاستقلال و حزب الأحرار المستقلين و حزب الحركة الشعبية، و لذلك فإن الفروع التي تأسست تحت لواء الجامعات المتحدة كان ينبغي تطعيمها بعناصر الأحزاب المنضمة للاتحاد الوطني حديثا ، كما أن هناك مناطق لم يتم تأسيس فروع بها قمنا بالإشراف على تأسيسها من جديد. أما في برشيد نفسها التي أقمت بها ، فقد وجدت التنظيم الحزبي لحظتها مسوسا و مُهلهلا، حيث كان المناضلون موزعين بل ممزقين بين فئتين متصارعتين داخل المكتب بشكل دائم، و الفئتان معا مرتبطتان بالسلطة، التي كان يُجسدها آنذاك الباشا الطاهر العلوي رحمه لله. و يعود أصل هذا الارتباط بالسلطة و هذا التمزق إلى التالي: فقُبيل الانفصال عن حزب الاستقلال و تمهيدا له، قام الأخوان ابراهيم التروس و بوشعيب الدكالي الحريري رحمهما الله، و هما المسؤولان عن التنظيم في منطقتي الشاوية و دكالة، بالاتصال بالمناضلين بالمنطقتين قصد تحسيسهما و تحضيرهما للانتفاضة. و في برشيد اتصلا بالباشا الطاهر العلوي الذي كان مرؤوسا لابراهيم التروس حين كان هذا الأخير رئيسا لدائرة المذاكرة ،وبعد استقالة الأخ التروس من الإدارة ظل محتفظا بصداقته للطاهر العلوي الذي كان يقدم نفسه على أنه متعاطف مع التيار التقدمي داخل حزب الاستقلال. و لهذا فإن الطاهر العلوي هو من أوصى ببعض المناضلين ببرشيد و اتصل بهم و رتب لهم اللقاء مع بوشعيب الدكالي وابراهيم التروس، من أجل تأسيس فرع للحزب الجديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، على غرار باقي مناطق المغرب. و من ثمة فقد بقيت العلاقة وطيدة بين الباشا و بعض أعضاء المكتب يتشاورون معه و يوحي لهم بالقرارات لدرجة أنهم كانوا يعتبرونه واحدا منهم، في حين كان هو يغذي العداء بين تيارين أو شخصين - لا داعي لذكر إسمهما- داخل المكتب نفسه. فلما جئتُ إلى المدينة، و اكتشفتُ هذا الوضع الشاذ قلت لهم بأن هذا الأمر لا يستقيم مع العمل الحزبي الصحيح، فالحزب حزب و الإدارة إدارة. و حين تنعقد اجتماعات المكتب كنت ألاحظ الصراع الفارغ بين الفئتين، فتبين لي أن هذا الأمر لا يمكن تجاوزه إلا بالدخول في معارك حقيقية تفرز المناضل الحقيقي من أشباه المناضلين، و كانت أولى المعارك التي قررنا خوضها معركة نقابية في واحد من المعملين الموجودين ببرشيد، و هو معمل "الخز" وكان يقع بالمقر السابق للسوق الأسبوعي قرب درب "مدام تيتي"، و كان العمال فيه يعيشون ظروفا مزرية و يتقاضون فيه أجورا متدنية. بعد فترة طويلة من التعبئة المتواصلة، خاض عمال المعمل المذكور أول إضراب لهم بعد أن رفضت الإدارة الاستجابة لأي من مطالب العمال. و لأن هذا المعمل كان في ملكية صهر ضابط سام في الجيش فقد استقدمت إدارة المعمل عناصر الجيش لتخويف العمال المضربين. أمام هذه المواجهة بين العمال العُزل و الجيش المسلح، نصحنا العمال بالتحرك إلى وسط برشيد، و كان المعمل يقع في الضاحية الجنوبية منها. و بالفعل تحرك العمال في مظاهرة نحو المدينة فانضم إليهم أفراد عائلاتهم و وقعت مظاهرة و اشتباكات صاخبة و ذلك لأول مرة ببرشيد. انتهت المواجهات باعتقال عدد من العمال و العاملات المضربين و بالتنكيل بكثير من أفراد عائلاتهم و بالاستجابة أيضا لبعض المطالب، لكن المكسب الكبير بالنسبة لنا كان هو هدمنا للحاجز النفسي المتمثل في الخوف من المخزن و انتصارنا بغرس الجرأة لأول مرة في نفوس العاملين. كما خضنا معارك نقابية في مستشفى الأمراض العقلية بفضل الرجال و النساء العاملين بهذه المؤسسة الاستشفائية العتيدة. أما على صعيد العمل النقابي في قطاع التعليم فقد شرعت بالعاملين معي و ذلك بمساعدة و صُحبة عدد من المناضلين أمثال بلمقدم رحمه لله و عبد السلام الشتيوي و احمد المعروفي و الزير و حيدرة و مصطفى أبو الهول و عدد آخر لا تسعفني الذاكرة لذكرهم و ليعذرني الأحياء منهم و رحم الله الأموات. و من بين مناضلي الساعات الأولى ببرشيد المرحوم المكي الكبابطي و المرحوم فراج الجيلالي (كان يشتغل بمستشفى الأمراض العقلية) و شقيقه الطاهر فراج و هو مقاوم و من عمال البلدية و الوعدودي (كان صاحب طاكسي و أحد المقاومين) و علي ولد السباعية و بوشعيب الهواري و الجيل الذي كان لا زال شابا حينذاك و الحاج سعيد (كان يملك دكانا لبيع التبغ "صاكا" و كان مناضلا قويا ) و ولد رقية و بوعزة ولد العياشي و بوزكري و ادريس السمعلي و الجيلالي شقيق الشيخ صالح و محمد خَليفة و سي خليفة (العدل) و ولد الزوهرة و المحجوبة زوجة احميدة و شامة و الشنانية (والدة المحاميين شنان مصطفى و شنان محمد) و هاتان الأخيرتان كانتا مناضلتين قويتين تشتغلان في مستشفى الأمراض العقلية و قائدتين لجميع المعارك النقابية و الحزبية، وليعذرني كثيرا الذين و اللواتي لم تُسعفني الذاكرة لتذكرهم بعد هذا الزمن الطويل. و في البادية المحيطة ببرشيد كان هناك الحاج عبد القادر جلول و هو أحد أركان الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقا في الجوالة باولاد صالح و هو سليل أسرة وطنية أنجبت الكثير من المناضلين الوطنيين المتعففين و ادريس ولد بوعزة بن عبد القادر في جاقمة و با احمد الرياحي و سي محمد بن امحمد من جمعة اولاد عبو و غيرهم... الحلقة المقبلة: جزائري في العمامرة