إن الذي يريد أن يجيب عن كل شيء، سيكون مآله التيه لا محالة، ونحن لا نشك بان لهذا التيه مذاقه ونكهته الرائعة، وربما يكون هو مصدر عظمة هذا العلم الذي له الحق في النظر في الموجود بما هو موجود، والواحد بما هو واحد. إنها مفارقات العشق الذي يجعلك تتعلق بالمستحيل الذي أدركته في الأحلام. وقد يكون مصيرك هو أن يستضيفك اليأس عندما تتحول كل أسئلة الميتافيزيقا إلى مجرد غموض في غموض، وتحولك إلى عاشق أسير لها. وينتظرك الانتظار إلى ان تأخذ تلك الطريق المدهشة التي قادت سقراط إلى تلك الإقامة المبتهجة والسعيدة. ومن المحتمل أنه أدرك سر غموض الميتافيزيقا وارتاح من قلقها اللذيذ الذي يمنح عمقا انطولوجيا للعقل ويخرجه من عتمات العدم إلى ضوء الوجود،عندما يتحكم في مصيره ويتوجه نحو الاقامة في مجتمع المعرفة، بعد مضاد مجتمع الجهل. سيرا وراء هذا الأمل الذي غالبا ما يرغم الفكر على التفكير في ذاته ويدفعه إلى فتح حوار أنطولوجي مع أسئلة الميتافيزيقا التي غلبا ما يلين قلبها إلا بعد فوات الأوان، وكأن الأمر يتعلق بانتقام يكرر نفسه كلما تم إزعاجها في سكينة المساء. لأنها لا ترغب في الذي يذهب إليها، بقدر ما أنها تحب أن تذهب هي إليه. كم هو ممتع هذا المدى البعيد الذي تضعه الميتافيزيقا حاجزا أمامنا، مما يجعلنا في أمس الحاجة إلى من يرافقنا نحو تلك الطريق المؤدية إلى إقامة شاعرية ومفكرة تنفتح فيها مشاكل علم ما بعد الطبيعة، وبخاصة وأن أرسطو يضعنا أمام أسئلة متعددة ومختلفة لا يمكن النظر فيها إلا بواسطة علم الجوهر: "وقد قلنا أولا ان حكمة العلل الأول والشيء المعلوم جداً هو علم الجوهر، فإن الشيء يعلم بأنواع كثيرة وأكثر ما يعرف به من جوهره"(27). فإلى أي حد يمكن لعلم الجوهر أن يتحكم في كل الأسئلة التي وجهت إليه في مقالة الباء من كتاب الميتافيزيقا؟، هل بالفعل ستتم الإجابة عن كل هذه الأسئلة؟، وكيف تم تقسيمها بعدل على مقالات الكتاب؟. إذا اعتبرنا مقالة الباء هي القلب النابض لكتاب ما بعد الطبيعة، باعتبارها مقالة في منهج الميتافيزيقا، فإن ما حملته من أسئلة كثيرة يوحي بأننا بالفعل نوجد في ضيافة علم الغموض، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن طريق يعيدنا إلى نقطة البداية، أي من حيث أتينا، لأن الرعب قد تحكم في أنفسنا وحولنا إلى مجرد جنود هربوا من الحرب، بيد أن وصية سقراط وحدها تحرضنا على التشبث بالأمل عندما تستيقظ فينا الشجاعة وهي ملكة رائعة ترافق المفكر بإخلاص في رحلته الشاقة. هكذا ارتأينا أن نختصر أسئلة الميتافيزيقا في تلك الأسئلة الأساسية والتي سترافقنا في هذا الطريق الذي يتجه بنا نحو المدى البعيد حيث ينتظرنا ذلك السر التي تحتفظ به الميتافيزيقا على امتداد أربعة وعشرين قرنا. لكن ما هي هذه الأسئلة التي ظلت تتمتع بعمقها وقوتها إلى يومنا هذا؟، هل تتعلق بموضوع الميتافيزيقا؟ أم بمنهجها؟ أم أنها تسعى إلى اكتشاف آفاقها؟. يقوم ابن رشد بصياغة جميلة لهذه الأسئلة قائلا: "وإن كان للعلم النظر في الجواهر هل ذلك العلم واحد أم علوم كثيرة، وذلك أنه إن كانت الجواهر مختلفة المبادئ الأول لزم ان يكون النظر فيها لأكثر من علم واحد وان كانت مثقفة المبادئ الأول كان النظر فيها لعلم واحد"(28). ثم يضيف: "وإن كان النظر في الموجودات لعلوم كثيرة فهل هي كلها أنواع داخل تحت جنس واحد أعني أجزاء لعلم واحد أم هي لعلوم مختلفة حتى يسمى بعضها حكمة وبعضها علما طبيعيا وبعضها تعاليميا"(29)، وهل ينبغي لنا أن نقول أن الجواهر هي المحسوسات فقط، أم نقول أن هناك جواهر أخرى مفارقة؟، وهل النظر في الجواهر فقط، أم في الأعراض فقط أم فيها معا كالحال في سائر العلوم؟ . ولما فرغ من تعديد الأسئلة المتعلقة بموضوع علم الجوهر شرع في ذكر الإشكالات المترتبة عن هذه الأسئلة، أو بالأحرى المكملة لها، كاللواحق الذاتية التي تخص الموجود بما هو موجود، والقوة والفعل والواحد والصورة وغيرها. هكذا يتضح أن الأمر يتعلق ببناء مشروع الميتافيزيقا، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حوار أرسطو مع الفلاسفة المتقدمين سواء الذين قالوا بأن الواحد الذي هو جوهر الموجودات هو الاسطقس الذي هو النار، أو الهواء، أو الماء. أو أولئك الذين يعتبرون أن الواحد الذي هو مبدأ العدد هو الواحد الذي هو جوهر واحد واحد من الموجودات المحسوسة، كأفلاطون والفيثاغوريون. هكذا تكون شمولية هذا المشروع التي تجعله يتمتع بمناعة قوية، يصعب اختراقها هو ما فتح أمامه باب الأبدية، وحوله إلى علم يتحكم في روح الإنسان. ولذلك فان كل القراءات التي دخلت معه في تحد أصيبت بالإحباط، لأن له قدرة خارقة على تجديد نفسه باستمرار، وإظهار عيوب أعدائه. إنها لعبة ساحرة يمارسها نص يجمع بين القداسة والمكر الشيطاني، ولذلك فإن الكنيسة بعدما اعتبرته حليفا لها لمدة طويلة من الزمان، انقلبت عليه، وقامت بتعتيقه في السم، ووضعته في انتظار ضياء الشمس، ثم بدأت تقدمه إلى عشاقه الذين باتوا يموتون واحداً تلو الواحد كلما لمست أيديهم هذا الكتاب مستعينة بماء اللسان لتجديد صفحات نص لا يموت، ولكنه يعجل بموت الآخرين. هكذا تحول إلى نص ملعون يهرب منه الجميع مستنجدين بالكتاب المقدس(30). والواقع أن ما كان يخشاه أرسطو هو نفسه الذي سقط فيه. وقد كان في حياته يردد حكمة جميلة: "إنه لا ينبغي أن يحمل الاثنين إثما آخر يرتكبونه بحق الفلسفة والفلاسفة". هكذا ظلت الفلسفة، بعد موته، كطائر جريح أرغمته شباك أعداء الحرية والفكر على الطيران في جنح الليل دون أن يعلم إلى أين يتجه وما هو المصير الذي ينتظره، ولكنه يردد بصوت عال: "إن من يريد أن يكون سعيداً، لابد أن يتفلسف، أي أن يهب نفسه للفلسفة"(31). ولعل هذه الحكمة قد وجدت قلوبا لطيفة عند عشاق محبة الحكمة في العالم العربي في زمن صارع الفشل. لكن كيف منحت الميتافيزيقا وجها مشرقا للعرب تم تفنى بعد ذلك؟. هوامش 27 - أرسطو، الميتافيزيقا، ص. 185 28 - ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ص . 170 29 - ابن رشد الرجع نفسه، ص . 170 30 - اومبرتوايكون اسم الوردة 31 - أرسطو، دعوة للفلسفة. م م