هكذا نجد أنفسنا أمام حقيقة الفلسفة التي تقودنا في هذه المسارات التي يتحكم فيها التيه، ويسيرها حسب ميزاجه، ولم نجد طريقة أخرى غير الاستسلام لهذا القدر الذي اختارته لنا الميتافيزيقا باعتبارها الوريث الشرعي للفلسفة.ذلك أن الفلسفة بعد موت أرسطو وترك عمله المخصص لعلم الموجود بدون عنوان، أجبر بعض المصنعين لمؤلفات المعلم الأول بابداع إسم الميثافزيقا، الذي سيهمن بقوة على إمتداد القرون الوسطى،نظرا لكون الميثافزيقا قد مزجت المفاهيم الفلسفية الكبرى بالتوجهات التيولوجية،مما جعل ميثاقزيقا أرسطو تدعم السلطة الروحية للكنيسة، ومع ذلك يظل إشكال العلاقة بين هذا العالم الجديد والوجود قائما. فهل نملك حلا آخر بإمكانه أن ينقذنا من هذا الوضع الذي يهدد كينونتنا بالتسكع في دروب الوجود التي أتعبت بارميند ؟، فإلى أين سيتجه بنا هذا التسكع في جنح الظلام؟، هل من مرافق سيشير بأصبعه إلى الطريق الصحيح؟، وإلا سنضل الطريق ونعود من جديد إلى البداية؟. لم نجد حلا آخر غير السير وراء أرسطو، كما فعل ابن رشد، وهو يبحث عن حقيقة الوجود، لأن اختيار طريقة الحوار انطلاقا من أسئلة قلقة يفرضها علينا كتاب الميتافيزيقا، لن يكون إلا حلا مؤقتا، ذلك أن الميتافيزيقا تخشى التفسيرات السكولائية والدوغمائية، لأنها تعجل بموتها، وتتشوق إلى قراءة مبدعة لبهجة وجودها. لأن العشق الحقيقي يقتضي التمرد المطلق، والرغبة في الهدم، لأنه لحظة أساسية في كل بناء جديد: "ان سقراط عزيزٌ على قلبي، يقول أرسطو، لكن الحقيقة أعز علي منه". ربما سيكون هذا هو شعارنا على امتداد تلك المسافة التي تنتظرنا، وهل سيستمر الحكماء الذين اخترناهم من أحل مرافقتنا، أم لابد أن نتحكم في قدرنا، ونلبي نداءه كما فعل سقراط من قبلنا؟ لعل كل هذه التخوفات لن تفيدنا في شيء، إذ من الواجب ان نمتلك الشجاعة، ونتقدم أمام محكمة العقل التي ستمنحنا الفرصة للدفاع عن أنفسنا أمام طغيان النسيان الذي يقوم إغراؤه على لذة الكسل باعتبارها أعدل قسمة بين الناس لأن الناس لا يقتسمون العقل يالعدل فقط، بل يقتسمون ملكات أخرى، كملكة النسيان، والكسل،والارادة،ةالقدرة على الابداع والكتابة ولعل ما يميزها أنها توجد بالقوة في روح الانسان، وتحتاج إلى أكثر من محرك لكي تخرج إلى الفعل،بيد ان ملكة النسيان والكسل متأهبة دائما لتوجيه مسار الروح، إذا لم تحارب من قبل ملكة الادارة القوية التي تسعى إلى المعرفة,هكذا تصبح الميثافزيقا هي المحرك لهذه الادارة,ولذلك يتعين علينا أن نتسائل بعمق عن قيمة كتاب الميثافزيقا في الحياة الانسانية، وبعبارة أخرى فما الذي يمكن تقديمه عن كتاب طالت إقامته في الوجود؟، هل يمكن اعتباره مؤسسا لوجود الموجود؟، وعلى أي أساس تم تشييد حقيقة الوجود، رغم استمرارها وراء القناع؟، بل ما الذي جعل كتاب الميتافيزيقا يحضى بترجمة رائعة إلى اللغة العربية ثم يرمى في النار؟. ينطلق كتاب الميتافيزيقا لأرسطو من حكمة جميلة تقول بان البحث عن الحقيقة له ثمن باهض، وهو التخلي عن حياة اللذة الحسية التي يقبل عليها العوام بشراهة، على الرغم من أن اللذة المعتدلة: "برء من الإفراط في الحزن"(15)، وخاصة إذا كانت تفرح الكينونة. والميتافيزيقا لها قدرة خارقة على هذا الفرح بالكينونة مثلها مثل العشق. هكذا يكون الطريق قد تم تحديده بشكل أبدي من قبل أرسطو، ولن يبقى أمامنا إلا ذلك التيه الرائع الذي يعلمنا كيف نفكر في هوية هذا العلم الساحر الذي تمكنت قبضته على الإنسانية أن تدوم كل هذا الزمان، ذلك أن التيه في فضاءات كتاب الميتافيزيقا بإمكانه أن يخرج تلك الأسئلة التي تنام في النفس من القوة إلى الفعل. هكذا ستكون الميتافيزيقا بالفعل هي: "العلم الذي يحتوي على المبادئ الأولى للمعرفة الإنسانية"(16). ولعل هذا التحديد العام هو الذي انطلق منه كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" الذي حدد له مهمة إعادة بناء الميتافيزيقا على أسس عميقة، ولذلك فتح حواراً مع أفلاطون وأرسطو، كانت الغاية من ورائه هي وضع الميتافيزيقا أمام استحالة تجاوز العلم بالرغم من أنها بحاجة لعلوم الرياضيات لكي لا يستضيفها قدر النسيان ولذلك فإن الفلسفة الحديثة قامة باصلاح الميثافزيقا بواسطة المشروع الرياضي الموجه بعلم الفزياء كما بلوره غاليلي ونيوتن.ليجد صداه عند ديكارت و كانط. والحال أن تجاوز الميتافيزيقا لن يتم إلا بالميتافيزيقا نفسها لأن في الميثافزيقا ليس هناك شيئا جديدا باطلاق، ما دام أن الميتافزيقا ليس لها تاريخا كما هي عليه الحال بالنسبة للعلوم الاخرى التي تتأسس على الخطأ والقطيعة، وبلغة توماس كون على لعبة البراديغم والثورات العلمية» (17). ولذلك فإن النقد الكانطي للميتافيزيقا، التي لم يعود لها اختيارا أمام تجاوز ذاتها، ليس إلا مجرد إضافة بناية أخرى في مسكن الميتافيزيقا(18). لكن إذا كان الأمر كذلك فما المقصود بالميتافيزيقا؟ هل يتعلق الأمر بتلك الكتابات التي تركها أرسطو بدون تصنيف، ولم يطلق عليها اسم الميتافيزيقا؟، هل ان هذه المعرفة التي وجدت بالصدفة تحتاج إلى كل هذا العناء من أجل تحديد هويتها، والسعي إلى اعتقالها في تصنيف العلوم كما أراد كانط؟. لم يكن أرسطو على علم بأنه قد ترك علماً بدون اسم، سيشغل الإنسانية طيلة هذه القرون، وخاصة وأن اسم الميتافيزيقا نفسه هو وليد الصدفة، ذلك أن المصنفين لمؤلفات أرسطو وجدوا أنفسهم أمام علم بدون اسم، وبغية تحقيق وحدة الغاية من المذهب الأرسطي، أطلقوا على تلك المقالات العشر التي تأتي في الترتيب بعد علم الطبيعة أي الفيزياء، اسم ما بعد الطبيعة: الميتافيزيقا. ولذلك اشتهرت بهذا الاسم، وأصبح يرافقها في رحلتها عبر الزمان بل تحول إلى قدر يصيبها في كينونتها،ويجبرها على أن تكون مبتهجه ومعبرة عن سعادة الانسان في الوجود، إنها مفارقة إختيارات التكافؤ،أي الكل اولا شيء . مع العلم ان كانط نفسه لم يشك في هذا الاسم، بل اعتبره حقيقيا، حيث يقول: "في ما يتعلق باسم الميتافيزيقا، ليس هناك مجال للقول بأنه وليد الصدفة، ما دام أنه يتماشى مع محتوى هذا العلم، لانه إذا كنا نسمي الفيزياء الطبيعة، ولا يمكن أن نصل إلى معرفة مفاهيم الطبيعة إلا من خلال التجربة، إذن العلم الذي يأتي فيما بعد يسمى بالميتافيزيقا، انها علم يوجد خارج مجال الطبيعة"(19). فهل يمكن أن تصبح الميتافيزيقا هي نفسها الفلسفة الأولى، أم علم الموجود بما هو موجود كما يتحدث عنهما أرسطو في كتابه؟، ولماذا لم يحتفظ المصنفون لمؤلفات أرسطو باسم الفلسفة الأولى أو علم الموجود بما هو موجود واختاروا اسماً غريباً عن أرسطو نفسه؟. من أجل معرفة عظمة هذا العلم الغامض الذي يحتفظ بأسراره إلى يومنا هذا، لابد من فتح المجال أمام الشيخ الرئيس ابن سينا الذي يعترف بصعوبة كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو، حيث يقول: "وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة ?لأرسطو? فلم أفهم ما فيه والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظ، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به وأيست من نفسي وقلت: " هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه". فحضرت يوما وقت العصر في الوراقين فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه. فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: "اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه وهو رخيص. وأبيعكه بثلاثة دراهم. "فاشتريته فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى داري وسرعت في قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه كان قد صار لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحت بذلك وتصدقت في اليوم الثاني بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى"(20). لكن إلى أي حد يمكن لهذا الكلام أن يكون مشجعا لمن يرغب في قراءة كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو؟، هل كان ابن سينا صادقا في هذه الحكاية التي جاءت في سيرته كما رواها تلميذه الجوززاني؟، وكيف يمكن لكتاب ما بعد الطبيعة أن يكون غامضا إلى هذا الحد؟، وأين تكمن صعوبته؟، وما هي القضايا الغامضة التي تناولها أرسطو في هذا الكتاب؟. هوامش : 15 - أرسطو، الأخلاق المصدر نفسه. 16 Heidegger, Kant et le problème de la mitaphisique P65 17 Khan stricture des resolutions scientifique 18 - انظر هايدغر، م م 19 - انظر هايدغر ص .66-67 20 - سيرة ابن سينا، كتاب النجاة، ص . 25