المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الحركة عند أرسطو
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 18 - 05 - 2012

الوجود الطبيعي هو الذي يتعلق بالمادة، وكل ما هو مادي فهو متحرك. ومن هنا فموضوعا الطبيعة ومفهوم الحركة هما اللذان استأثرت بهما فيزياء أرسطو. فقد اهتمت على الخصوص بالمبادئ وكيفيات الحركة عند الكائنات الطبيعية التي تختلف عن الكائنات المصطنعة في كونها تمتلك مبدأ حركتها الذاتية.
ليتمكن من شرح إمكانية الحركة، كان ضروريا بالنسبة لأرسطو، الرجوع إلى عناصر ومبادئ الكائن، وهو ما شكل موضوع المقالة الأولى من كتاب الطبيعة1 .فخلافا للمدرسة الإيلية (بارمينيدس) التي كانت تعتقد أن الكائن يتميز بالوحدة، وبأن الوحدة تتعارض مع التغير أي أنها تعلي من شأن السكون وعدم الحركة، فقد اعتبر أرسطو، وحتى يتغلب على هذه الإشكالية، أن الكائن يتألف من عناصر أساسية تشكل مبادئه.
« ولذلك وفي اتجاه تعليل الأجسام الطبيعية، يرى أرسطو أنها مركبة من مبدأين: هيولي أي مادة أولى غير معينة أصلا، وبها تشترك الأجسام في كونها أجساما، ومن صورة وهي المبدأ الذي يعين الهيولي ويكسبها ماهية خاصة ويجعلها شيئا واحدا وهي ما نتعقله من الأجسام... والهيولي هي بمثابة الخشب قبل أن يصنع منه شيئا. فتكون الصورة بمثابة الشكل الذي يعطى للخشب فيصير تمثالا أو آلة من الآلات «.2
عندما يكون الكائن عرضة للتغير فإن ما يبقى ثابتا فهي مادته، وما يتغير هي صورته: إن الإنسان يبقى دائما إنسانا (مادة) سواء كان موسيقيا (صورته) أو غير موسيقيا. فإذا كان الكائن يتألف من مادة ثابتة وصورة متغيرة، وبما أن الصورة تتغير من طرف إلى طرف ضده فإن الكائن يصبح قابلا للحركة. إلا أن مفهوم التغير سوف يطرح صعوبات عدة من ضمنها تلك التي تحيلنا تلقائيا إلى ألفاظ مثل ظهور أو اختفاء: ظهور شيء ما كان غير موجود، أو اختفاء شيء ما كان موجودا. هذا التحليل لن يصمد طويلا من الناحية المنطقية، بحيث يصعب على المرء تصور انتقال شيئا ما من اللاوجود إلى الوجود أو العكس. وهذا المشكل كان قد طرح بنفس الحدة داخل الديانات «الخلقية» التي تقول بأن العالم قد خلق من طرف الإله من لا شيء.3
كعادته سوف يقترح أرسطو حلا لهذه المعضلة بإدراجه مفهوما جديدا، بمثابة حل وسط بين الوجود واللاوجود: إنه الكائن ب»القوة». فالتغيير، يقول أرسطو، ليس هو الانتقال من اللاوجود إلى الوجود، ولكنه انتقال من «القوة» إلى «الفعل»، وبالتالي من وجود إلى وجود آخر. هكذا يصل أرسطو إلى تحديد الحركة كما يلي:
«الحركة فعل الممكن»4
المادة لا معينة، والصورة هي التي تحدد كما قلنا الكائن وتجعله كما هو وبالتالي هناك حركة عندما تتصل الصورة بالمادة. ومادام لا توجد حركة خارج الأشياء، يجب دائما عندما يتغير الكائن أن يحصل التغير إما في الجوهر أو الماهية، أو في الكمية، أو في الكيفية، أو في مكان الكائن. وبما أن الكائن ممكن أن يكون واقعيا أو مجرد ممكن، فإن الانتقال من الممكن إلى الواقع هو الذي يحدد الحركة أي الفعل، أو تحقيق الممكن بما هو ممكن. إن الحركة تفترض في كل تغيير الانتقال من الوضع الافتراضي virtuel إلى الواقع وبالتالي من «القوة» إلى «الفعل». وهي تبحث عن كمالها، يجب على الحركة أن تبقى غير تامة إذا أرادت أن تدوم في فاعليتها؛ وهذا هو جوهر الحركة الذي يفرض أن شيئا ما يبقى مضمرا وكامنا. إن فعل بناء منزل هو البناء، قبل أن يكون المنزل مبنيا ليس هناك حركة؛ المنزل فقط ممكن. بعد بنائه لم تعد هناك حركة، هناك حركة أثناء إنجاز الفعل.5 بالمثل أيضا أن شخصا ما لا يمكن له أن يروي ظمأه من جبل ثلج، ولكن عندما يذوب الثلج ويصير ماءا يمكن له ذلك: الماء كان يوجد في جبل الثلج ولكنه يوجد ب «القوة»، كإمكانية فقط، أما عندما ذاب الثلج وصار ماءا واقعيا فإنه انتقل إلى الفعل.
مفهوما القوة والفعل دفعا أرسطو أبعد من ذلك بالتفكير في العلاقة بين الإنسان والحيوان، حيث سمح له هذا التفسير إلى اعتبار جميع الخصائص البشرية مثل التخيل، اللغة، الفن، وحتى العلم، توجد عند الحيوان ولكن فقط ب»القوة» وغير متطورة. وهذا ما جعل داروين يتبنى أفكار أرسطو في هذه القضية.6
اعتبر أرسطو، متسائلا:لماذا الحركة،وحتى يتسنى له فهم طبيعة الكائنات في شموليتها، أن الفرق بين الكائنات الطبيعية وبين الكائنات غير الطبيعية مثل تلك التي ينتجها الفن البشري، يكمن في أن هذه الأخيرة لا تمتلك مبدأها الذاتي في الحركة والسكون، وذلك بخلاف الكائنات الطبيعية مثل الحيوانات، النباتات والأجسام البسيطة (النار، التراب، الهواء، الماء) التي يكمن في ذاتها إما سبب تحركها وتطورها التلقائي وإما سبب سكونها. « إن الموجود الطبيعي حاصل في ذاته على مبدأ حركة وسكون بالإضافة إلى المكان، أو إلى النمو والذبول، أو إلى الاستحالة، أما المصنوعات كالسرير والرداء وما أشبه، فإن اعتبرناها بما هي مصنوعات، لم نجد فيها أي نزوع طبيعي للحركة، فإن تحركت فذلك إما بالمواد المركبة منها ومن هذا الوجه، وإما بفعل الصانع».7
يرفض أرسطو الاعتقاد بأن النظام والانسجام الموجودان في الطبيعة ينتجان فقط عن الصدفة والضرورة كما يقول بذلك الذريون. إنه يرى بالأحرى في الطبيعة قوة أو عقل «ذكي» قادر على إنتاج أشياء عديدة وجميلة من أجل غاية معينة. هل من الصدفة والضرورة وليس من أجل الغاية، أن يقوم النحل والنمل بتلك الأشغال المدهشة، وبأن الأوراق تحمي الفاكهة في النباتات، والجذور تنبث دائما تحت الأرض للبحث عن أكلها.
لماذا كل هذا النشاط وما هي الغاية التي تهدف إليها الطبيعة؟ إنها بذلك، يقول أرسطو، تعمل من أجل الاقتداء ومحاكاة صانع الكون، لأن ما يميز المحرك الأول هو بالضبط حريته واستقلاله.8
إذا أضفنا السبب الغائي إلى السبب المادي، والصوري، والفاعل، يمكننا حسب أرسطو فهم وإدراك طبيعة الكائنات في كونيتها وشموليتها؛ لأن كل شيء يتكون من مادة، له صورة، فيه حركة، وفوق كل ذلك يتجه نحو غاية. إن العلة الصورية والعلة الغائية تلعبان الدور الأساسي في التفكير الأرسطي، لأن المادة بدون صورة تبقى مضمرة و»قوة»، ويتطلب انتقال المادة إلى الفعل صورة، وإذا علمنا أن «الصورة» هي الشكل الذي يجعل الشيء يقوم بوظيفة ما، أدركنا أن الفعل هو الصورة التي تجعل الشيء يقوم بوظيفته الغائية ويحقق بالتالي ماهيته.
الحركة تتم في الأجسام الطبيعية المتصلة أي أنها متصلة والخاصية الأولى للمتصل هي قابليته للقسمة إلى ما لا نهاية، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن الحركة تستحيل بدون مكان أو زمان أو خلاء.
فيما يخص اللامتناهي، يؤكد أرسطو على وجوده ويبرهن على ذلك من خلال خمس دلائل:
1- الزمان لا نهائي.
2- انقسام المقدار إلى ما لا نهاية.
3- التعاقب اللانهائي والغزير للكائنات.
4- الضرورة المطلقة للانهائي لمعرفة النهائي.
5- لا نهائية الأعداد.
بهذا المعنى لا يمكن أن يوجد اللامتناهي بالفعل، ولكن موجود بالقوة.» وعلى ذلك فليس اللامتناهي ما قد قال القدماء من أنه ما لا شيء خارجه، ولكنه على العكس ما خارجه شيء دائما فهو ضد التام والكامل أي المحدود. وهو مدرك بما لا هو متناه، لأنه مادة من غير صورة وقوة لا تنتهي إلى فعل.»9
بعد نظرية اللامتناهي التي شكلت موضوع المقالة الثالثة من كتاب الفيزياء، اهتمت المقالة الرابعة بنظرية المكان والخلاء والزمان، لقد كان على أرسطو كما هو الشأن بالنسبة للانهائي، وحتى يتجاوز مفارقات زينون المتعلقة بالمكان والزمان، أن يشرع أول الأمر في البرهنة على وجود المكان: عموما ما كان متداولا هو أن ما يوجد يستقر في مكان ما، ومن ليس في مكان ما لا وجود له.
النقلة كنوع من أنواع الحركة تفترض فضاءا ضروريا لحركة الأجسام، كما أن حركة الأجسام الأولية تبرهن على وجود مكان يتوفر على خصائص معينة: حيث أن النار تتجه دائما إلى فوق والتراب إلى تحت، بالإضافة إلى ذلك فالأجسام تتجه إلى اليمين وإلى اليسار، إلى الأمام أو الخلف، مما يرفع إلى ستة عدد الجهات التي تميز الفضاء أو المكان. لا شيء إذا يوجد ويتحرك بدون مكان، إنه طويل الأمد وخالد. المكان مثل الأجسام له ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والعمق، ولكنه ليس جسم أو عنصر ولا مركب من عناصر جسمية. كما لا يمكن اعتباره كذلك سببا لأنه ليس مادة أو صورة. تبعا لذلك لا يمكن اعتباره كائنا ما دام ليس جسما أو سببا، لأنه لو كان كذلك لتساءلنا مثل زينون أين المكان من الفضاء؟ لأن كل كائن يوجد ضرورة في مكان معين وبالتالي يصير ممكنا القول مكان المكان وهلم جرا إلى ما لا نهاية.10 هنا بالضبط يساهم أرسطو إسهاما مهما، حيث سيميز بين المكان اللانهائي الذي يحوي جميع الأجسام والمكان الخاص الحاوي الأول للجسم. «فمثلا أنت في السماء لأنك في الهواء، والهواء في السماء، ثم أنت في الهواء لأنك في الأرض. لكن وأنت في السماء، في الهواء، وعلى الأرض، فإنك في نفس الوقت في المكان الذي لا يحوي شيئا غيرك».11
ارتباطا بالمكان دائما هناك مشكل الخلاء الذي طرح كذلك قبل أرسطو على هيئة رأيين متعارضين: الرأي الأول يقر بوجود الخلاء وضرورته للحركة، والثاني يؤكد عدم وجود الخلاء. أيد أنكساغوراس الرأي الثاني12، حيث برهن على أن ما نأخذه كخلاء هو في الحقيقة مملوء بالهواء، وبأننا إذا لم ندرك حسيا أي جسم في المكان، نفترضه خال:فإن ذلك راجع إلى وجود الهواء والأثير. أرسطو دعم هذه النظرية واستبعد إمكانية الخلاء في العالم أو داخل الأجسام. ذلك أن نمو الأجسام لا يبرهن على وجود الخلاء داخلها، كما في الحركة، الخلاء غير ضروري إذ أن الأجسام تستطيع أن يحل بعضها محل البعض الآخر دون فرض الخلاء.
في القسم التالي من كتابه ينتقل أرسطو إلى قضية الزمان. وكعادته يبدأ أولا بالبرهنة على وجوده، فيرى أن له وجود ناقص أو غامض، لأننا عندما نقسم الزمان إلى ماضي ومستقبل، سنكتشف أن الماضي كان ولم يعد، أي انقضى، والمستقبل سيكون وليس بعد، أي غيب لايدرك. كما أن الحاضر، اللحظة أو الآن، ليس جزءا من الزمان لأن الزمان لا يتركب من اللحظات. فاللحظة هي حد الزمان لأنها تفصل بين الماضي والمستقبل، ووجودها بالتالي ليس أكثر واقعية من هذين الأخيرين. فاللحظات تتعاقب ولكن لا تتعايش لأن اللحظة تموت بمجرد ولادتها. وإذا ادعينا أن اللحظة ذاتها هي التي تستمر وتدوم فمعنى هذا أن الأحداث التي وقعت في السنوات الماضية والتي نعيشها اليوم ستكون متزامنة. إن أرسطو وهو يناقش قضية الزمان بهذه الدقة لا يسعى إلى نفي وجوده بقدر ما يسعى إلى تبيان كم هو قلق أخذ فكرة عنه.
الزمان ينساب بطريقة منتظمة متساوية وأبدية، وهذا يدل على أنه حركة ولكنه ليس بحركة، لأن هذه الأخيرة خاصية المتحرك غير منفكة عنه، ثم هي سريعة أو بطيئة. على أن الزمان إن لم يكن حركة فإنه في نفس الوقت لا يمكن تصوره بدونها، حيث أن تفكيرنا عندما لا يدرك أي حركة من أي جنس كانت أو تغير، فإننا نعتقد أن الوقت لم يمر. إن الزمان لا يوجد بالنسبة إلينا إلا من خلال الحركة والتغير.
ما هي حقيقة الزمان إذن؟ وما هي علاقته بالحركة؟ يتساءل أرسطو. إن فكرتا المتقدم والمتأخر لا تفهمان إلا لأننا نجدهما في الحركة، بحيث ينطبق المتقدم والمتأخر على الحيز(lieu ) كلما تحرك الجسم. إن الزمان هو إذا تقدير عددي للحركة أي عدد الحركة بحسب المتقدم والمتأخر. إن الحركة في اتصالها، دائما مختلفة؛ إما لأن الجسم يغير الحيز وإما يتغير مع بقائه في نفس الحيز، كذلك الشأن بالنسبة للزمان إذا كان دائما مماثلا، فإن اللحظات المتعاقبة تختلف دائما. بدون زمان ليس هناك لحظة والعكس صحيح، بدون لحظة ليس هناك زمان. فاللحظة بمعنى من المعاني هي الوحدة العددية في الزمان، تفصل بين المتقدم والمتأخر، بين الماضي والمستقبل. إن اللحظة حد الزمان وليست جزءا من الزمان كما أن النقطة ليست جزءا من الخط. لكن إذا كان الزمان قياس الحركة، فالحركة قياس الزمان، ذلك أن الزمان كمتصل يمكن أن يكون قصيرا أو طويلا، وكعدد يمكن أن يكون كثيرا أو قليلا. من هنا فإن الحركة تتضمن المقدار، والزمان يتضمن الحركة. الزمان، الحركة والمقدار يشكلون كميات يمكن دائما أن نقيسها. لكن الزمان لا يقيس كل شيء، هناك موجودات لا يمكنه بلوغها، إنها الموجودات الدائمة التي ليست في الزمان. هل الزمان يمكن أن يغيب؟ يجيب أرسطو بسرعة أن الزمان أبدي مثل الحركة. إن عدم التمييز بين الزمان والخلود سيؤدي به إلى عدم التمييز بين الحركة والمحرك الأول. أخيرا إذا كان الزمان هو عدد وقياس الحركة، بمثل أن هذه الأخيرة هي قياس الزمان، فهل يتعلق الأمر بأي حركة أم بحركة محددة؟ أرسطو يفك هذه المسألة بقوله إن النقلة الدائرية السماوية هي قياس جميع الحركات الأخرى. ومن ثم هي قياس الزمان، لأنها الحركة الوحيدة المتسقة والمنتظمة على الوجه الأكمل.
بعد نظريات الزمان، واللانهائي، والمكان، والخلاء تتجه أفكار أرسطو نحو الحركة وحدها التي شكلت موضوع الكتب الأربعة الأخيرة من فيزيائه. ما يتغير في العالم، لا يمكن أن يتغير وبالتالي يتحرك إلا بطرق ثلاث: عرضي غير جوهري، جزئي، ومطلق. وهذه الطرق الثلاث تهم المحرك والمتحرك على السواء. ومن جهة أخرى فكل تغير هو من طرف إلى طرف ضده.
« وعلى ذلك فلا تغير من اللاوجود إلى اللاوجود، إذ ليس بينهما تضاد، وإنما التغير من اللاوجود إلى الوجود، ويعني كونا، ومن الوجود إلى اللاوجود، ويعني فسادا، ومن الوجود إلى الوجود أي انتقال الشيء من حال إلى حال، ويعرف بالحركة». 13
يوجد ثلاثة أنواع من الحركة: الحركة في الكمية والكيفية والحيز: عندما يكبر جسم أو يصغر، ينمو أو ينقص، فهي حركة في الكمية، وعندما ينتقل الجسم من الحرارة إلى البرودة أو العكس، بدون تغيير في الكمية، فهي حركة في الكيفية، وأخيرا عندما يتحرك جسم بدون تغيير لا في الكمية ولا في الكيفية فهي حركة في الحيز. الحركة الأولى تسمى نمو ونقصان، والثانية تسمى استحالة، والثالثة نقلة. 14
الحركة عند أرسطو أبدية، لأن الزمان، بما هو عدد الحركة، أبدي أيضا. فالحركة في التفكير الأرسطي، وخلافا لما قال به أنكساغوراس وأمبيدوقليس، ليس لها بداية، ولكن لا يمكن أيضا أن تكون لها نهاية؛ لأنه لا يمكن تصور تغير أولي بدون وجود تغير سابق عليه. وبالمثل ليس سهلا فهم تغير أخير غير متبوع بتغير آخر.
اعتبر أرسطو في السياق ذاته، واعتمادا على الملاحظة الحسية، أن هناك في العالم أشياء تتحرك، وأشياء أخرى لا تتحرك، كيف ذلك؟ إننا عندما نرمي حجرة بالعصا فإن اليد هي التي تحرك العصا، والرجل هو الذي يحرك اليد؛ومن هنا يستخلص أرسطو أن في كل حركة يجب الرجوع إلى المحرك الأول، الذي هو بالضرورة غير متحرك مع نقل الحركة التي يخلقها ويتوفر عليها إلى الخارج. نقرأ للأستاذ البعزاتي يقول: « فعند أرسطو أن وراء كل حركة محرك يسببها، وتتسلسل الحركات والمحركات في علاقة سببية، إلى المحرك الأول الذي لا محرك له، أي لا سبب لوجوده». 15
المحرك الأول بالنسبة لأرسطو، هو مبدأ كل الحركات في الكون ولا يمكن البحث عن أي شيء خارجه، وإلا سيجرنا الأمر إلى غير نهاية، ويتوفر على جزأين: جزء يحرك ولا يتحرك وجزء محرك ويتحرك بدوره. إن الحركة إذا كانت أبدية، فإن المحرك الأول، يستنتج أرسطو، هو أيضا أبدي ووحيد. لكن إذا كان المحرك الأول كذلك، فما هي طبيعة ونوع الحركة التي ينتجها؟ إن الحركة إذا كانت أبدية، فالمحرك الأول الذي هو أيضا أبدي، لا يمكن حسب أرسطو أن ينتج بالضرورة إلا حركة وحيدة متجانسة متصلة وأولية مثله. وإذا نظرنا من قرب إلى الأنواع الثلاثة للحركة، فإننا سنجد، والحالة هذه، أن الحركة في الحيز أو النقلة Translation هي التي تستجيب لهذه الشروط؛ وذلك لأنها من الناحية المنطقية هي أولى الحركات، ثم لأنها امتياز الكائنات الأكثر تطورا، وأخيرا لأن المادة تبقى تابثة أكثر في النقلة مما هي عليه في الحركة في الكمية أو الكيفية. بالإضافة إلى هذا، فإن الحركة في المكان هي الوحيدة التي يمكن لها أن تكون متصلة. لكن داخل النقلة يجب التمييز بين النقلة الدائرية، والنقلة على شكل خط مستقيم، والنقلة المختلطة. من بين أنواع النقلة من هو الذي يعطينا حركة وحيدة، دائمة، لا نهائية، ومتصلة، كما هو الشأن في حركة المحرك الأول؟ يتساءل أرسطو. إنها الحركة الدائرية.
كتب نفس الباحث البعزاتي يقول:
«الحركة عند أرسطو صنفان أساسيان: حركة تحصل في السماء، وهي دائرية ومنتظمة وسرمدية لأنها حركة أجرام من طبيعة أثيرية لطيفة، لا تتغير طبائعها، وحركة تحصل فيما تحت القمر، وهي مستقيمة ومتغيرة تناسب تغير العناصر وتكونها وفسادها، كما تخضع لمقاومة الوسط». 16
تلك إذن هي آخر أفكار أرسطو الفيزيائية حيث أنهى هذه الدراسة الشاملة بنظرية عن فعل الإله في الكون.
خاتمة
يعتبر أرسطو ( 384-322 ق.م ) من بين الفلاسفة الكبار في تاريخ الفلسفة. لقد تتلمذ على يد أستاذه أفلاطون، وكان عنصرا بارزا بأكاديميته، قبل أن يؤسس بعد وفاة هذا الأخير مدرسته الخاصة التي سماها الليسي أو المدرسة المشائية PERIPATOS.
ألف الكثير من المؤلفات والمقالات، ولكن لم يصلنا منها إلا القليل، كما خلف فكرا فلسفيا وعلميا كبيرا شمل جميع فروع المعرفة، ويعتبر أوج ما وصلت إليه الحضارة والفكر اليونانيين حيث كان تأثيره واضح ليس فقط على الحضارات التي جاءت من بعد، بل إن تأثيره ما زال ملموسا حتى وقتنا الحاضر. ففيزيائه تكون نظرية شاملة ومتماسكة وترتكز على أسس النظام والترتيب. إنه علم الوضوح والبداهة الذي يوافق الحدس البشري وإدراكه.
يبقى أرسطو في اعتقادنا عالم كبير ومفكر موسوعي، صحيح أن بعض عناصر نظريته الفيزيائية شابها الخطأ مثل حركة الأجرام السماوية، سكون الأرض، سقوط الأجسام، خوف الطبيعة من الفراغ والقوة المسببة للحركة، وهي العناصر التي تم تصحيحها ابتداءا من القرن السادس عشر على يد العديد من العلماء، أمثال كوبيرنيك، كيبلر، كاليلي، ديكارت، نيوتن، لايبنتز و لابلاص. لكن هل بدون أفلاطون كان بالإمكان ظهور أرسطو كما نعرفه اليوم، هل بدون كيبلر، كاليلي وديكارت كان بإمكان نيوتن أن يبرع في مثل ما برع فيه، ثم ألم يترك هذا الأخير صاحب «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» السؤال حول طبيعة الجاذبية معلقا، ولم تتم الإجابة عنه وتفسير هذه الطبيعة إلا بعد مرور حوالي ثلاثة قرون، من طرف نظرية النسبية العامة لصاحبها ألبير أنشطاين. إنها في نظرنا طبيعة المعرفة التي ليست كلا جاهزا، بل سيرورة تطورية ينقح ويصحح فيها اللاحق، ما اعتراه الخطأ أو جانب فيه الصواب السابق.
مؤاخذة أخرى توجه لأرسطو وتفيد أن فكره اعتمد بالأساس على الاستنتاج المنطقي، وهمش دور التجربة، ثم أنه مزج بين العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا. لكن أليس المحرك الأول عند أرسطو هو إله ديكارت، أو أن فهم نيوتن لطبيعة القوة يمكن إعادة قراءته على ضوء ما احتوته حقيبته الخاصة من مخطوطات ألخيميائية، حسب ما ذهب إليه بعض مؤرخي العلوم في العقود الأخيرة.17
كان أرسطو وعاش ابن عصره ومن حيث هو كذلك، فإن فكره بقي محصورا ومتمحورا حول السؤال المتعلق بلماذا الأشياء، ولم يتجاوزه إلى السؤال عن كيف هي الأشياء، يكفي أنه إلى جانب أفلاطون وسقراط وآخرون من بني جلدته في الحضارة اليونانية أيقظوا الشهية بالنسبة للعلم. لهذا الاعتبارات كلها فإن المرء لا يبالغ عندما يعتبر فكر وإنتاج أرسطو بمثابة الحصيلة المجسدة لكل الثقافة الفلسفية والعلمية اليونانية.
المراجع
* البعزاتي ب.، الأفق الكوني لفكر ابن رشد، منشورات الجمعية الفلسفية المغربية، ط1، 2001.
* غالب م.، في سبيل موسوعة فلسفية، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988.
* Abattouy M., le concept de force chez Newton : Explication Mécanique ou Interprétation Alchimique ? Publications de la faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Rabat, 1997.
* Clavelin M. La Philosophie Naturelle de Galilée, Essai sur les origines et la formation de la mécanique classique, Armand Colin, Paris, 1968.
* Durant A., Physique d?Aristote ou leçons sur les principes généraux de la nature, Tome 1, Traduction en Français pour la première fois et accompagnée d?une paraphrase et de notes perpétuelles par Barthelemy et Saint Hilaire T., ed. de Paris : LADRANGE, 1862.
* Duhem P., Le Système du Monde : histoire des doctrines cosmologiques de Platon à Copernic, Herman, Paris, vol.1, 1913.
* Montminy J., Les Philosophes de l?antiquité : leur contribution à diverses problématiques.
* Souffrin P., De Gndt F.(éditeurs), La Physique d?Aristote, Vrin, Paris, 2000.
* طبيب باحث
1 - Durant A., Physique d?Aristote ou leçons sur les principes généraux de la nature, Tome1, Traduction en français pour la première fois et accompagnée d?une paraphrase et de notes perpétuelles par Barthélemy de Saint hilaire T..., éd. de Paris : LADRANGE, 1862, récupéré de :
www. remarcle.org/blood wolf/philosophe/aristote/table
2 - غالب م.، في سبيل موسوعة فلسفية، م7، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988، ص:48.
3 - Montminy J. Les philosophes de l?antiquité : leur contribution à diverses problématiques. Récupéré de : www.jbphi.com
4 - Durant A. مرجع سابق
5 - تفس المرجع
6 - Montminy J.مرجع سابق
- غالب م.، مرجع سابق، ص: 51.7
8 - Ibid
- غالب م.، مرجع سابق، ص: 68.9
10 - Durant A., مرجع سابق
- غالب م.، مرجع سابق، ص: 69.11
12 - Ibid
- غالب م.، مرجع سابق، ص: 65.13
14 - Durant A.مرجع سابق
- البعزاتي ب.، الأفق الكوني لفكر ابن رشد، منشورات الجمعية الفلسفية المغربية، ط1، 2001، ص: 107.15
- نفس المرجع، ص: 107.16
17 - Abattouy M., le concept de force chez Newton : Explication Mécanique ou Interprétation Alchimique ? Publication de la faculté des Lettres et des Sciences Humaines, Rabat, 1997, p : 3-29.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.