ما الذي يعنيه انتحار الكاتب؟ بصرف النظر عن مجمل فرضيات الاكتئاب المزمن، وكليشهات الاختلال العقلي أو النفسي الحاد. بصرف النظر عن مجمل احتمالات التشخيص الطبي وأشكال سبغ حقيقة المرض على حالة الانتحار. بعيدا عن هذا التلقي السريع والجاهز، الشائع والسطحي، الذي يرهن المسألة الخطيرة إلى خلفية الجنون والاضطراب ولوثة الجينات… فضلا عن أي اكراهات صاعقة لسطوة الظرف الاجتماعي أو غيره من اصطدامات علاقات العيش السوداوي داخل مؤسسة ما أو جغرافيا انسانية فادحة … انتحار الكاتب يظل عملا شعريا غريبا وعظيما. ليس القصد هنا أن أضفي قيمة بطولة ما لهذا العمل الصادم والرهيب، ولكن أثره يبقى فعلا مريبا على نحو جماليّ مثير. الانتحار ليس الامتحان الوحيد لحرية الانسان وحسب، بل هو امتحان الكتابة الأقصى أيضا. أليس الموت عند هؤلاء (أقلية المنتحرين من الكتاب ) هو المصدر المفزع للكتابة، المنطقة المرعبة التي تأتي منها كوابيس الفن وأحلام الخلق الابداعي، وبالنظر إلى ذلك يغدو التسلل إلى هذه المنطقة الفاتنة والرهيبة هو الطموح الحقيقي لكل كتابة تتماهى مع عزلتها وغموضها، تتواءم مع قسوتها وحدود ألمها، تتشابك في تطابق حميم مع قعر هاويتها. إلى تلك الهاوية إذن، يقف الكاتب على الحافة وهو يؤجل السقوط المظفر . السقوط الذي لا علاقة له بالجبن والفشل والهزيمة، بل هو السقوط الذي يعني مجازفة شجاعة فيما وراء تلك الحدود المؤسطرة بالخوف والمفخخة بالهلع. لا يعني الانتحار مغادرة للحياة دائما كموقف منها، أو كخلاصة مضادة لزيف معنى عيشها، بل يعني الذهاب العنيف مباشرة ودونما تردد بأقصى سرعة إلى جانبها الآخر، الجانب المكوبس على نحو بشع وفجائعي وكارثي. ما الذي تطمح إليه حياة كاتب وقلق كتابته غير القفز بجسارة إلى هذا الجانب وعناقه بمحض إرادة حرة وحب صاعق. أن يمضي الكاتب إلى مصادر خياله عبر الموت الشخصي، الموت الحر الذي اختاره لنفسه بطريقته المفردة، يعني فيما يعنيه تناغما هارمونيا بينه وبين أبديته، بين عمله الجمالي وبين المجهول المرعب الكامن في ذلك الغياب المحير والمدهش والمقلق على الدوام. الغياب الذي يخشاه الكائن البشري ويسعى بكل الحيل لكي يبقى على قيد الحياة، هو ما يغري هؤلاء على عكس أولئك، ويغويهم كي يرتادوا معسكره الغامض والفاتن. انتحار الكاتب، ليس دائما محصلة لإدانة الحياة، أو الاكتفاء من زخم ألمها واستفحال صدماتها واستشراء زيفها، إنه العمل الشعري الأخطر على الإطلاق، الذي يروم تقويض الحياة بغية استكشاف حقيقتها الأخرى، والصدام وجها لوجه بشجاعة مع ما تضمره هناك من مفاجآت. على هذا النحو أقرأ انتحار الكاتب، كتوقيع مثير يضاعف من أثر كتابته وحياته، أليس انتحاره هو النص الأجمل الذي يعزز أو يختم على رصيد كل ما أبدعه في حياته من عمق مريب يفخخ أعماله الأدبية الغريبة واللامألوفة، شعرا كانت أو سردا أو غير ذلك. أي سحر هذا يشيعه الانتحار كضباب فاتن على كتابات المؤلف المنتحر، إذ نرجع إليها برهبة ونسلك طريقا هامشيا مجللا بالغواية والغموض لم نكن قد سلكناه أو عرفناه سابقا، فننزلق في متاهات النصوص واقفين بدقة وانبهار عند كل كلمة وصورة وجرح وفجوة بين سواد وآخر … لماذا تدّخر أعمال الكتاب المنتحرين هذا الجمال الرمادي المريب، أكثر مما تدخره أعمال الكتاب الذين ماتوا ميتة طبيعية ؟ لماذا تغوينا أعمال الكاتب المنتحر باكتشاف هذا الجمال اللامألوف، إذ نتحرّى مناطق صراخه وصمته في آن ؟ ليس لنقيس على حقيقة موت المؤلف أو نهايته الصادمة، بأن نتبيّن الشعاب اللامرئية التي قادته إلى الحتف الصاعق، بل لنحفر عن الرموز والعلامات التي خاطبنا بها على نحو سري وغامض وملتبس… الموت انتحارا في حالة الكاتب لا يمكن أن تمر مرور الكرام، وتمضي إلى قمامة النسيان كيفما اتفق. إنها حالة استفهام وجودية، تظل تعصف بأسئلتها وصور غموضها البوليسي المحير، كما لو كانت معضلة. كيفما كان شكل الانتحار غرقا أو حرقا، شنقا أو سقوطا من علو شاهق، بغاز أو برصاصة أو بحبوب منومة أو قطع شريان المعصم …الخ تغدو كل تلك الأشكال أو الأدوات شعرية بامتياز . ما الذي يفاجئنا في انتحار الكاتب حقيقة ؟ هذا الكاتب اللائذ بعزلته المفرطة. الخالد باستمرار إلى وحدته وهو يعيش كشبح بين الناس. الكاتب المضطرم قلقا وتوترا وهو ينفق حياته بالطول والعرض مع مخلوقاته المتخيلة أكثر مما ينفقها مع المحيطين به من الكائنات الواقعية. الكاتب الذي تنهشه الأفكار كمخالب حيوانات ضارية، ولا يستقيم عنده ميزان الوقت، ليلا أم نهارا الأمر سيان، فالأرق يسطو على زمن نومه الطبيعي، والكوابيس تلاحقه في عز اليقظة هنا وهناك. الكاتب الذي يرى ما لا يرى الآخرون ، ترجّه الأصوات الأخرى وتصطدم به مندلقة من شجرة أو حشرة أو طير أو حجر أو غيمة أو تمثال… الكاتب الذي يكتب بجسده في يومه أنى حل وارتحل، تقوده المصادفات اللعينة إلى قلب المتاهة المرعبة. الكاتب الذي ينزلق إلى منطقة الظلال والرماد حيث يسكن الشيطان، يراقب الوجود من ثقب في جدار يقف بينه وبينه نفسه، بينه وبين العالم . الكاتب الذي يقوض وجوده ويبالغ في تدمير نفسه كتابة إن واقعا أو خيالا… هذا الكاتب المنذور للاستنزاف والحذف والمحو اليومي، ألا يعدو عمله الدائم محض تمرينات قاسية من تمرينات الانتحار المؤجل ؟ وإذ يتحقق التمرين الأعظم، وينجز لحظة الانتحار الموعودة، ألا يغدو الأمر محض تحصيل حاصل، أمر صاعق يضمره عمله اليومي الملازم بشكل وجودي للعزلة والقلق والسوداوية. انتحار الكاتب لا أراه استجابة لجرح نرجسي أو أثلام شيطانية في حادثة وجوده وحسب، انتحار الكاتب بالنظر إلى العواصف المنسية في خلاء نصوصه، نائمة كانت أو هادرة وصاخبة، هي مسألة جمالية بامتياز. مسألة تطفو بحقيقة إسمه اللعينة على مياه شاهقة العلو، في محيط الغرابة القاتلة. انتحار الكاتب ليس الصفحة الأخيرة في كتاب حياته، بل هو الكتاب نفسه الذي لم يكتبه بعد. أو كتبه بالأحرى على هذا النحو الصادم والبوليسي، ليكون لغزا يتماهى مع ظلال الأشياء المحيرة والغامضة التي تفخّخ مجمل تراث أعماله.