مغرب الألفية الثالثة يشهد الكثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. هناك منظومة قيم جديدة تطفو على السطح متأثرة بالمحيط الثقافي الدولي في زمن هدمت فيه العولمة كل الجدران والحدود. مغاربة اليوم أكثر انفتاحا من نظرائهم قبل عقود قليلة وأكثر اطلاعا على ما يجري حولهم. مغاربة اليوم أكثر طموحا ورغبة في تغيير أوضاعهم وتحسينها والرقي بمستواهم الاقتصادي والاجتماعي. هذا الطموح تجسد منه جانب مهم بعد أن ارتفعت معدلات النمو ومستويات التمدرس وتحسنت الخدمات الصحية وتطور المناخ الحقوقي وانتشرت الحريات ولو بشكل نسبي وأصبح الولوج إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية في إمكان شرائح واسعة من المجتمع المغربي. هذه الصورة الوردية مقارنة مع ما كانت عليه الأحوال قبل عقود قليلة يقابلها تزايد مهول في معدلات الإقبال على كل مصادر وطرق الموت والخراب النفسي والذاتي. المخدرات تغزو المجتمع أكثر فأكثر ونسب الإدمان في تصاعد، ومعدلات استهلاك الخمور في تزايد، كما أن استهلاك الأدوية المهدئة والأقراص المهلوسة لم يسبق أن بلغ المستويات التي وصل إليها اليوم. وإلى جانب هذه الظواهر المدمرة، تتنامى ظاهرة أخرى أكثر تدميرا وفتكا، إنها ظاهرة الانتحار الذي يأخذ حيزا لا بأس به من يوميات الأخبار والصحف ووسائل الإعلام. وكل يوم تتناقل الأنباء عبر شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية حالات انتحار غريبة أحيانا ومستفزة أحيانا أخرى ضحاياها من كل الأعمار، مراهقون ومسنون، عمال وعاطلون، فقراء وأغنياء كلهم بلغ بهم اليأس والقنوط درجة لم تترك لهم الفرصة للاستمرار على هذه الأرض. بالنسبة لهؤلاء المنتحرين لم يعد على هذه الأرض ما يستحق الحياة. المشانق والرصاص والغاز وسم الفئران والبنايات الشاهقة كلها وسائل أصبحت معابر وقناطر تقودهم نحو العالم الآخر فرارا من مواجهة واقع يزداد صعوبة وضغوطا يوما بعد يوم وعاما بعد عام. هناك أوساط وشرائح مهنية أصبح انتحار أفرادها من بين أخبار الصباح اليومية، فمن منا لا يقرأ بين الفينة والأخرى عن رجل أمن يدخل غرفته ويخرج مسدسه ويطلق على رأسه رصاصة النهاية ويترك وراءه رسالة يفسر من خلالها الأسباب أو يترك موته لغزا محيرا لأقاربه وأسرته. هناك إذن نزوع غير مدروس ولا مفهوم نحو الانتحار والتخلص من أعباء الحياة. وكونه غير مدروس يعد في حد ذاته معضلة حقيقية بسبب غياب بنيات اجتماعية ومؤسسات صحية يمكن أن تواكب ظاهرة الانتحار وتجهز لها الأجوبة المناسبة. يكفي أن ندرك أنه لا يوجد في المغرب خط هاتفي أخضر يمكن أن يتصل به أولئك الذين يفكرون في الانتحار، أو أولئك المقبلون عليه في لحظة تنفيذ القرار. هذا الفراغ يعد واحدا من الأسباب والعوامل الرئيسية التي تساعد على تنامي ظاهرة الانتحار خصوصا إذا علمنا أن أعدادا كبيرة من المغاربة يعانون أمراضهم النفسية في صمت بعيدا عن أي رعاية أو متابعة ليشكلوا بذلك منتحرين مفترضين قد يجهزون على أنفسهم في أي لحظة. تزايد مخيف في ظاهرة الانتحار في ظل الهشاشة النفسية والضغوط الاجتماعية تعددت الأسباب والانتحار واحد لم يعد المغاربة ضمن قائمة الاستثناء في التقارير والدراسات الدولية حول ظاهرة الانتحار. لقد دخلوا تحت مجهر البحث والإحصائيات من بابها الواسع بعد أن تحولت ظاهرة الانتحار إلى آفة اجتماعية تهدد كافة الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية. أسباب كثيرة أصبحت تدفع العديد من المغاربة نحو وضع حد لحياتهم هربا من المواجهة، ووسائل مختلفة أضحت تساعدهم على الإجهاز على أغلى ما يمتلكونه: أرواحهم. أرقام متنامية سم الفئران، المشانق، الارتماء من البنايات الشاهقة، احتضان القطارات…كلها معابر يختارها المنتحرون للانتقال إلى العالم الآخر فرارا من ضغوط نفسية واجتماعية متعددة تتنامى أكثر فأكثر وبلغت مستويات قياسية. في زمن دمقرطة القروض البنكية، واندثار الأسرة الممتدة وتعويضها بالأسرة النووية، وتحسن الدخل الفردي، وارتفاع مستوى التعليم وتراجع الأمية، وإدماج المرأة في طريق المساواة والإنصاف، وفي عصر الانفتاح السياسي وانتشار الحريات، في سياق هذه التحولات السوسيوثقافية والاقتصادية يصبح الانتحار واحدا من الأسباب الرئيسية للموت حتى كاد يضاهي ضحاياه ثلث ضحايا حوادث السير وحرب الطرق. في العام 2012 أقدم 1628 مغربيا على وضع حد لحيواتهم حسب تقرير دولي صادر عن منظمة الصحة العالمية. هذا التقرير يقدم مجموعة من الأرقام تكشف أن 87 في المائة من هؤلاء المنتحرين هم من الذكور، كما أنها تؤكد أن نسبة ومعدلات الانتحار بلغت مستويات قياسية بعد أن أضحت تتجاوز خمس حالات انتحار لكل 100 ألف مواطن. وفي غياب إحصائيات دقيقة عن محاولات الانتحار الفاشلة، أو عن ميولات التفكير في الانتحار بين المواطنين والتي من المفترض أن تتجاوز بكثير ما يتم رصده وإحصاؤه من حالات انتحار فعلية، ندرك هول وفداحة الظاهرة ببلادنا. أسوأ ما تكشف عنه الأرقام هو أن ظاهرة الانتحار بدأت تتزايد وتتنامى بطريقة سريعة ودالة رغم أنها ظاهرة يصعب التحكم في مدى تطورها بالنظر إلى كونها طابوها نفسيا واجتماعيا مغلقا ومحكم الإغلاق في مجتمعنا. ومن بين التحديات التي تواجهها جهود التصدي لهذه الظاهرة في بعض البلدان التي تمتلك بنيات خاصة لذلك، تحدي كشف ورصد ميولات ورغبات الانتحار عند أوساط وفئات اجتماعية معينة تعرف تزايدا في الإقبال على الانتحار ومنها فئة المراهقين والمسنين. هذه الصعوبة هي التي تجعل التنبؤ بحجم هذه الآفة ضربا من ضروب المستحيل علما أنها تتنامى في حالة المغرب بمتواليات متسارعة. فالأرقام التي كشفتها منظمة الصحة العالمية أظهرت أن أعداد المنتحرين تضاعفت ما بين 2000 و2012 بمعدل يصل إلى 97.8 في المائة كنسبة زيادة أي أنها انتقلت من 2.7 حالات لكل مائة ألف مواطن سنة 2000، لتصل إلى 5.3 حالات لكل مائة ألف مواطن سنة 2012. كما يكشف التقرير عن انتحار 1628 مغربيا خلال 2012، 87 في المائة منهم رجال، مسجلا بذلك ارتفاعا في نسبة المنتحرين في صفوف الرجال بنحو 1431 حالة انتحار، وانخفاضها في صفوف النساء بنحو 198حالة انتحار. والغريب أن التقرير صنف المسنين من أكثر الفئات العمرية إقداما على الانتحار، إذ وصل معدل الانتحار بين هذه الفئة إلى 14.4 حالة من كل مائة ألف نسمَة في سنة 2012، فيما بلغ المعدل بين كل الفئات إلى 5 حالات لكل 100 ألف نسمة. ويظهر تنامي الانتحار في أوساط المسنين مدى الهشاشة والفراغ الذي أضحت تعانيه هذه الشريحة في غياب بنيات الاستقبال وفي ظل تنكر الأبناء والبنات. هشاشة نفسية ومخدرات قرار الانتحار من القرارات التي يجد المحللون النفسيون والاجتماعيون صعوبة بالغة في فهمه فضلا عن التنبؤ به. هناك سيرورة نفسية خاصة وسلوك غير طبيعي يتخذه المنتحر عند إقدامه على هذا السلوك الذي يظل في نهاية المطاف سرا يأخذه معه إلى العالم الآخر في حال نجاحه في عملية الانتحار. غير أنه من المسلم به وجود ارتباط وثيق بين ظاهرة الانتحار والأمراض النفسية والعقلية. هذا المجال يعد فضاء خصبا لتنامي ظاهرة الانتحار وتزكي هذا الواقع الأرقام المفزعة التي تعكس انتشار الأمراض النفسية وحجم الخصاص المهول في التصدي لها ببنيات صحية ملائمة. في إحدى الدراسات التي أنجزتها وزارة الصحة بتعاون مع منظمة الصحة العالمية تكشف الأرقام أن 48.9 في المائة، أي نصف المغاربة تقريبا، مصابون بأحد الأمراض النفسية «قلق، أو اكتئاب، أو خوف، أو فصام في الشخصية، وهو أسوأ الأمراض النفسية على الإطلاق». وفي السياق نفسه تقدّر بعض الدراسات الطبية النفسية في المغرب عدد المرضى النفسيين بحوالي 1.5 مليون شخص، يعاني نحو 300 ألف شخص منهم من مرض انفصام الشخصية، فيما يتناقص عدد الأطباء المتخصصين في الأمراض النفسية. كما تشير إحصائيات المنظمة العالمية للصحة إلى أن 1% من مجمل سكان المغرب (300 ألف شخص) مصابون بمرض انفصام الشخصية، منهم ما بين 40 و50 ألف مريض في الدار البيضاء وحدها، ليس لهم إلا 200 سرير فقط. فيما تظهر إحصائيات وزارة الصحة أن عدد الأسرة المخصصة لهؤلاء المرضى بالمغرب يبلغ نحو 1934 سريرًا، أي بمعدل 0.8 سريرا لكل عشرة آلاف مواطن، وهو ما ينخفض بكثير عن المعدل العالمي الذي يتحدد في 4.5 أسرّة لكل عشرة آلاف نسمة. هذه الأرقام وحدها كافية لتفسير تنامي ظاهرة الانتحار وتزايدها، إذ أن جل هذه الأمراض النفسية المشار إليها تقود في كثير من الحالات إلى الانتحار في إحدى مراحل تطورها. وفي غياب الرعاية الصحية والطبية الملائمة يزداد إقبال أعداد كبيرة من هؤلاء المرضى على المخدرات التي تعتبر بدورها واحدة من عوامل الانتحار الرئيسية. هذه التركيبة الخطيرة التي تجمع المرض النفسي بالعزلة وغياب الرعاية والإقبال على المخدرات تعتبر عاملا من العوامل التي تفسر الانتشار المتزايد لظاهرة الانتحار. المنتحر والانتحاري إذا كان المرضى النفسيون والمسنون أكثر الفئات إقبالا على الانتحار يبدو أن الأرقام والإحصائيات تكشف عن تنامي الظاهرة بشكل تدريجي في أوساط وشرائح مهنية بعينها. أكثر حالات الانتحار إثارة لاهتمام الرأي العام هي تلك التي حدثت في السنوات الأخيرة بكثافة في أوساط رجال الأمن. يتحول المسدس والسلاح المهني في كثير من الحالات إلى آلة قتل يجهز بها رجل الأمن على حياته وقد يجهز معها على حياة آخرين من زملائه وأقاربه. هل توفر السلاح الناري وسهولة استعماله تعتبر من أسباب انتشار هذه الظاهرة في أوساط الأمنيين.؟ ربما. لكن هناك أسباب أخرى مهنية واجتماعية وراء هذه الظاهرة. لقد ظهر من خلال كثير من حالات الانتحار في وسط رجال الأمن مدى حجم الضغط النفسي الذي تشكله المهنة على أصحابها. يعتبر رجال الأمن في المغرب شريحة من أكبر شرائح موظفي الدولة لكنهم في الوقت ذاته يعتبرون من أكثر الموظفين الذين يعانون من ضغوط العمل وإكراهاته بمختلف أنواعها. ساعات عمل فوق العادة، انعدام العطل السنوية، مخاطر مهنية جمة، دخل محدود، ويضاف إلى هذا صورة مهزوزة خصوصا في السنوات الأخيرة. وإذا انضافت إلى هذه العوامل الوضعيات الاجتماعية الصعبة التي يعيشها بعض رجال الأمن يصبح الانتحار أقرب الحلول إلى اليائسين منهم. يكفي أن نشير هنا إلى أن ترقية رجل أمن تعني الانتظار لعمر كامل من أجل الحصول على تقدير اعتباري ومادي. وفوق كل هذا كثيرا ما يتعرض رجال الأمن بسبب المخالفات التي يرتكبها بعضهم إلى إجراءات عقابية قد تحول حياتهم إلى جحيم. الانتحار في أوساط رجال الأمن هو نموذج مثالي لمخاطر الشغل وانعكاساته القاتلة على العمال والموظفين. رجال الأمن هؤلاء يعمل كثير منهم في مواجهة الظاهرة الإرهابية والتصدي لها وقد يخاطرون بأرواحهم لأجل ذلك، بل إن بعضهم استشهد قبل سنوات في مواجهة منتحرين من نوع آخر. إنهم الانتحاريون الذين يقتلون أنفسهم لا ليتخلصوا من الحياة وآلامها بشكل انفرادي ولكن من أجل اعتقاد يؤمنون به يجعلهم يحولون أنفسهم إلى قنابل موقوتة تنفجر هنا وهناك. والمغاربة لا ينتحرون فقط من أجل الديون والمشاكل العاطفية والخيانة وضغوط العمل، هناك منهم من اختار الانتحار في معارك وحروب بعيدة خارج الوطن في سوريا والعراق. فالمغرب أضحى يقدم اليوم على أنه أحد الموردين الرئيسيين في العالم العربي للمقاتلين والانتحاريين الوافدين على بؤر الثورات والنزاعات في الشرق الأوسط. وحسب أحد التقارير المقدمة قبل شهور في مؤتمر للأنتربول بإشبيلية الإسبانية يوجد ما بين 2000 و2500 من المواطنين المغاربة المسجلين في قوائم الإرهاب الدولية وهو ما يشكل ما بين 9 و11 في المائة من إرهابيي العالم. هذه الأرقام التي تبدو مضخمة ومبالغا فيها نوعا ما تعني في الحقيقة أن هناك مئات من الشباب المغاربة الذين أضحوا مستعدين للتضحية بأرواحهم والانتحار من أجل الفكرة أو العقيدة التي اعتنقوها. رشيد الجرموني *: غياب الإشباع في القناعات الوجودية والاعتقادية سبب مباشر لتصاعد لتنامي الانتحار – تؤكد أرقام وإحصائيات منظمة الصحة العالمية استفحال ظاهرة الانتحار بالمغرب في السنوات الأخيرة، إذ سجلت الأرقام 2894 حالة انتحار في السنوات الخمس الأخيرة. ما تعليقكم حول هذه الوتيرة التصاعدية؟ أولا كتعليق على الرقم الذي صرح به، فهو بطبيعة الحال رقم مخيف يؤشر على وجود ظاهرة مجتمعية خطيرة جدا قائمة بالمغرب كغيره من المجتمعات، لكن يبقى هذا الرقم نسبي لا يعبر عن حقيقة الواقع المعيش، لأن الإحصائيات المرتبطة بقضية الانتحار في المغرب هي غير واضحة لا يتم الإعلان عنها من طرف الأسر باعتبار أن فعل الانتحار يشكل طابو لديهم، بالإضافة إلى عدم تواجد سجل بجميع ربوع المملكة يتم التصريح من خلاله عن جميع الأشخاص المنتحرين، وبالتالي يبقى الرقم مرتبط بتقديرات ليس إلا، ومن هنا فأنا أعتقد أن العدد يمكن أن يكون أكبر من ذلك، وقد اشتغلت سابقا عن تقرير سنة 2014 الذي قدر فيه الرقم ب1800 حالة انتحار تعلقت بفئة الشباب والمسنين، والرقم الذي صرحت به منظمة الصحة العالمية يؤكد المنحى التصاعدي للظاهرة. ولتفسير هذه الظاهرة فهناك مجموعة من العوامل التي تساعدنا على ذلك لكن بنسبية، فمع كل الأسف الظاهرة جد صعبة من ناحية الدراسة إذ لا نتمكن من فهم حيثياتها حتى تقع حالة الانتحار. – بماذا تفسرون هذا الارتفاع، وما هي مجمل الأسباب المتداخلة والمساهمة في استفحال هذه الظاهرة؟ الأسباب متراكبة ومتداخلة فهناك ما هو مرتبط بالمستوى القيمي الثقافي وما هو مرتبط بالجانب الاقتصادي وما هو مرتبط بنمط العيش، ويمكن شرحها كالتالي: أولا المجتمع المغربي يعيش نوعا من التحولات على المستوى القيمي، وهذه التحولات مرتبطة بضبابية واختلاف المرجعيات، وهذا الأمر يسبب في بعض الأحيان نوعا من التوتر في كيفية التوفيق بين نتائج الحداثة والتحديث ومجتمع الاستهلاك والترفيه، ومع مجتمع لازال ينشد لمجموعة من القيم والتقاليد، تجعل الإنسان يسعى لتحقيق طموحات معينة مادية ونفسية ولا يجد سبيلا لذلك ليبقى الملجأ هو التفكير في الانتحار كونه يعيش وضعية مقلقة بالنسبة إليه. من خلال التتبع الأكاديمي لهذه الظاهرة تبين أن السنوات الأخيرة عرفت تفشيا خطيرا، إذ أن المجتمع المغربي قديما كان متلاحما ومتماسكا أسريا واجتماعيا، كما أن مظاهر الترفيه والاستهلاك لم تكن حاضرة بشكل قوي، لكن خلال الثلاثين سنة الأخيرة بدأ المجتمع المغربي يفقد ذلك التماسك ويعرف ترهلا في النسيج الاجتماعي، إضافة إلى انتشار التمدين باعتبار أن نمط العيش بالمدن هو مختلف تماما عن طرق العيش في القرى الصغيرة إذ يتصف بنوع من النزوعات والفردانية يبحث من خلالها كل واحد عن خلاصه الفردي بشكل أو بآخر، فيمكنني القول إن هناك عدم إشباع في القناعات الوجودية والاعتقادية، فنحن نعيش انتقالا على مستوى القيم والتقاليد مما يطرح قلقا وجوديا ينتاب الناس بسبب الثقافة المعولمة والاستهلاك المفرط في بعض الأحيان، كذلك مسألة الإعلام الذي يصنع عوالم خيالية للمجتمع ليجد المغربي البسيط أمامه صعوبات محبطة لتحقيق مطالبه واحتياجاته تضطره للدخول في شبكة من المشاكل المرتبطة كالسلف والاقتراض أو يقع في اختلاسات تدخله في متاهات معينة قد تفضي إلى انتحاره، أيضا هناك أسباب ذات طبيعة أخلاقية وأذكر بعض الحالات كالخيانة الزوجية، أو زنى المحارم، أيضا مع دخول الشبكة العنكبوتية والإنترنت أصبحنا نعيش في عالم بدون أخلاق فالإنترنت أصبح وسيلة من وسائل الابتزاز فهناك ما يسمى الآن بالمبتزين عصابة تشتغل في علاقات جنسية فاضحة تعمل على توهيم الشباب بأمور لا أخلاقية لينزلقوا في فخ الابتزاز، وهذا ما أدى إلى مجموعة من حالات الانتحار بالمغرب في صفوف الشباب خاصة الإناث، إضافة إلى الجانب الاقتصادي المتعلق بظروف الهشاشة الاجتماعية والاستدانة وعوالم الخمر والقمار، فبالمغرب أكثر من 3ملايين مواطن يمارسون القمار وبالتالي هذه كلها أمور تفضي إلى دوامة سوداء آخرها الانتحار، وبالتالي هذه عوامل ليست فردية محضة بل عوامل مجتمعية متعلقة بشروط بنيوية، اقتصادية وأخلاقية ومرضية. – كيف تؤثر حالات الانتحار على الوسط الاجتماعي للمنتحر بصفة خاصة وعلى المجتمع المغربي بصفة عامة ؟ أثمن ما يوجد بالمجتمعات هو العنصر البشري فما يناهز 3000 حالة انتحار بالمغرب خلال الخمس سنوات الأخيرة ليس سهلا، إذ أصبحت ظاهرة مقلقة للمجتمع ومؤثرة على التنمية وعلى بناء المجتمع ككل وعلى نفسية الأفراد، ولا نشك في أن أسر المنتحرين تتعرض لأزمات نفسية خطيرة جدا تجعلها تفقد الثقة والأمل مما يجعلها تحتاج لدعم مجتمعي لتضميد المأساة، كما أنها تكلفة قاسية للمجتمع فعند انتحار المواطن لا يوجد ما يمكن تعويضه به، وبالتالي نخلص إلى أن هناك تداعيات نفسية سيكولوجية، وتداعيات اجتماعية وأخرى مادية وتنموية. وهذه عناصر غير معزولة تسائل الدولة فهذه الأرقام لا بد أن تقلق الدولة والمسؤولين وأصحاب القرار. إنه مشكل بطيء وصامت بالمجتمع المغربي وكأنه يقول لنا انتبهوا للوضعيات المرضية والاجتماعية ببلادنا. – ماذا عن التدابير والطرق الناجعة التي قد تحد من هذه الآفة وتساهم في اضمحلالها؟ في الحقيقة وقبل كل شيء يجب أن تكون هناك مقاربة شمولية عبر إطلاق دراسة وطنية في الموضوع يحتضنها باحثون وأكاديميون حتى نكون أكثر دقة في معالجتها وفي فهم حيثياتها، ثانيا يجب أن يكون هناك برنامج حكومي يشمل مجموعة من الوزارات والقطاعات تستهدف الأشخاص ذوي الوضعيات الاجتماعية الهشة وذوي المرضى النفسيين من أجل المساعدة والاحتضان والتوجيه، أيضا العمل على تحسين مستوى العيش الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمواطنين بتدخلات مستهدفة تكون في سياق تعاوني بين المسؤولين والنخب والجماعات المحلية، كما أن المجتمع المغربي مطلوب منه أن يلتفت لنفسه كمجتمع وأسر ومدارس ومساجد لإعادة النظر في مجموعة من القضايا أهمها التماسك المجتمعي، والتخطيط لبرنامج وطني يحد من هذه الآفة، فكما يوضع برنامج سنوي للحد من حوادث السير لابد من وضع مخطط سنوي كذلك للحد مع ظاهرة الانتحار عن طريق حملات توعوية وتوظيف أطباء نفسيين في مدارس ومؤسسات الدولة والالتفات إعلاميا لهذه المعضلة عن طريق خطاب جاد وذكي مستمر. – ما تقييمكم للإجراءات التي تتخذها مؤسسات الدولة سواء الحكومية منها أو المدنية لاستئصال هذه المعضلة خاصة في صفوف الشباب؟ مع كل الأسف لم تسبق لأي حكومة أن قامت بمبادرة أو مخطط للحد من هذه الظاهرة الأليمة، فهناك شبه غياب للحكومة في هذا الموضوع لا على المستوى التوعوي والذي لا يكلف تكلفة كبيرة ولا حتى على مستوى الإجراءات التنموية المرتبطة بهشاشة المجتمع، فمثلا القمار المتفشي بالمغرب لا توجد لحد الساعة تدابير أو تدخلات للقطع معه، توزيع الخمور الذي يصل لنسبة 36 مليون قنينة خمر تستهلك في المغرب كثاني مشروب يستهلك بعد الشاي، وبالتالي لم نلاحظ إجراءات عملية ملموسة تخص بتر جذور ظاهرة الانتحار. منتحرون «هاي كلاس».. رجال أعمال وقضاة وسياح وصحافيون ومهندسون حوادث انتحار كثيرة عرفتها مراكش ونواحيها، لكنها غريبة. ومما أضفى عليها طابع الغرابة» ليس طريقتها فقط، وإنما طبيعة المنتحرين، بينهم رجال أعمال، وسياح، وقاضي، وصحافي، ومهندسين كبار، وتلاميذ، وفقهاء، ثم نساء مغربيات وسائحات أجنبيات، اختاروا من وسائل «الخلاص» أبشعها و«أنعمها». رجال أعمال وصحفي وسياح أقدم رجل أعمال فرنسي يدعى «ميشال. ل»، أول أمس الاثنين على الانتحار شنقا بشقته بشارع عبد الكريم الخطابي بمدينة مراكش. واستنادا إلى معطيات حصلت عليها «المساء» من مصادر حضرت عملية إخراج الجثة فإن الضحية الفرنسي يدعى «ميشيل.ل»، ويبلغ من العمر 45 سنة، عثر عليه منتحرا داخل شقته الموجودة أمام محطة القطار بحي جليز. وقد وجدت خادمة، «ميشيل»، الذي يعمل مسيرا لأحد أكبر مطاعم مراكش وسط جليز، جثة الهالك معلقة في درج المنزل بواسطة حبل أوثقه ولفه حول عنقه، لتقوم بإخبار المصالح الأمنية بالحادث. وجد المحققون رسالة كتبت بخط اليد فوق المائدة، تؤكد إقدامه على الانتحار، بعد أن أعرب عن حبه لأبويه وأبنائه وإخلاصه لزوجته، أشار إلى أنه يملك أسهما تبلغ قيمتها 600 مليون سنتيما، في مشروع مطعم معروف يوجد وسط جليز، أوصى بها لزوجته. وفي زنقة بني مرين بالحي الشتوي ألقى مواطن فرنسي يدعى «فرانسوا» بنفسه من الطابق العلوي بالرغم من محاولة ثنيه من قبل المارة. وتبين أن الضحية كان يعمل مديرا لإحدى الشركات بمدينة مراكش، وأنه يقيم منذ سنوات بالمدينة الحمراء، بعد أن عمل في عدد من المؤسسات والشركات. وتعود أسباب الانتحار إلى مشاكل اعترضت «فرانسوا»، في عمله. وقد حاول صحفي فرنسي الانتحار من فوق سطح فندق بعد أن نشر رسالة وداع على صفحة التواصل الاجتماعي «الفايسبوك»، يعلن فيها أنه سيودع الدنيا بطريقة «صامتة»، طالبا من جميع أصدقائه الصفح عنه، ومشيرا إلى أنه أصبح يعاني من «مرض في الروح». واستنفر «بيير ألكسندر» المصالح الأمنية بعد أن صعد إلى سطح الفندق الشاهق، وحاول الإلقاء بنفسه نتيجة انتزاع زوجته طفلته الصغيرة «سيرين»، التي لم يتجاوز عمرها التسع سنوات، ونتيجة عجزه عن دفع مصاريف المؤسسة الفندقية، التي يقيم فيها. وتمكنت عناصر الأمن رفقة بعض العاملين من ثني الصحفي، والمزداد سنة 1971، والذي كان يرأس تحرير مجلة «دار الشروق La Maison d'Orient» الصادرة من مدينة مارسيليا الفرنسية، من الانتحار. كما لقيت سائحة أجنبية تحمل الجنسية الفرنسية مصرعها بضيعة سكنية تقطن بها بدوار رياض، بالجماعة القروية اولاد حسون نواحي مدينة «مراكش، في الوقت الذي نقلت مهاجرة فرنسية إلى مصحة خاصة بالمدينة الحمراء، بعد تناولهما لكمية كبيرة من الأدوية المنتهية الصلاحية، في محاولة منهما لوضع حد لحياتهما. وأظهرت التحقيقات أن الضحية الأولى كانت تعاني من أمراض مزمنة. مهندس من «الأخوين» وقاض لم يقتصر الانتحار في مراكش على الأجانب فقط بل أيضا المغاربة، لكن القاسم المشترك بينهم وبين الأجانب أنهم كانوا ذوو تعليم عال، ولم تكن أوضاعهم الاجتماعية قاسية، لدرجة أن يقدموا على أي عمل انتحاري. فقبيل عيد الأضحى الماضي عثر على قاض بمراكش منتحرا، بلف حبل حول عنقه. وعثرت الزوجة على زوجها المزداد سنة 1977، منتحرا بواسطة حبل في سطح «فيلته» بحي الآفاق، بسبب ما قيل إنها مشاكل في العمل. كما أقدم مهندس من خريجي جامعة الأخوين على الانتحار بطريقة بشعة، عندما أضرم النار في جسمه، داخل الشقة، التي يسكن بها رفقة عائلته بحي مبروكة بمراكش. وقام المهندس البالغ من العمر 41 سنة، بصب كمية كبيرة من البنزين، على جسده ليتحول إلى كومة لهب، جعلته يلفظ أنفاسه في الحين. وتعود أسباب إقدام «عثمان»، المتخصص في المعلوميات، والذي تخرج قبل سنوات من جامعة «الأخوين» بمدينة إيفران، على الانتحار إلى عطالته التي دامت سنوات، أصيب على إثرها باكتئاب جعله يضع حدا لحياته. كما وضع مهندس بولاية الجهة حدا لحياته، عندما أقدم على الانتحار شنقا داخل منزله بحي السبيتيين. وأقدم موظف سابق بوزارة الفلاحة على الانتحار بواسطة بندقية صيد. وقد أطلق «أحمد. ح»، وهو موظف متقاعد بوزارة الفلاحة، رصاصة على رأسه، داخل منزله، بالقرب من المركب الحضري بحي المسيرة الثانية. أم تنحر رفقة أطفالها الصغار أقدمت أم في عقدها الثالث، قبل ساعة ونصف من موعد الإفطار على محاولة انتحار جماعي، رفقة أطفالها الصغار. وأعطت الأم جرعة كبيرة من الأدوية لطفليها الصغيرين اللذين، لم يتجاوز عمرهما (3 و5 سنوات)، قبل أن تقوم هي الأخرى بتناول كمية كبيرة من الأدوية، بسبب خلافات مع زوجها، مما اضطر إلى نقلهم إلى المستشفى وإنقاذ حياتهم. وبعد معاناة اجتماعية جراء التشرد، أقدم عامل بتعاونية الحليب الجيد «بيست ميلك» بمراكش، يبلغ من العمر 56 سنة على الانتحار بواسطة كمية كبيرة من «الماء القاطع». وبسبب إصابته بمرض السرطان، نفذ جندي ينتمي للقوات المسلحة الملكية، عملية انتحارية داخل بيت شقيقته بدوار لكّواسم التابع لجماعة تسلطانت نواحي مراكش. وقام الجندي، البالغ من العمر 24 سنة، بشنق نفسه داخل شقة أخته، وذلك بلفّ حبل بلاستيكي، عبارة عن «كابل» حول عنقه، وربطه بسقف الغرفة. «فقيه» ولص وتلميذ لم يسجل في الحالة المدنية وأقدم رجل في عقده السادس يعمل «فقيها» على الانتحار بشرب «الماء القاطع» بحي سيدي يوسف بنعلي بمراكش، مما أدى إلى مصرعه بمجرد نقله إلى المستشفى. واكتشفت زوجته مرمى على الأرض، لتهرع صوبه، وتحاول إيقاظه من «الغيبوبة»، لكن عثورها على قنينة من «الماء القاطع» بالقرب منه، جعلها تتأكد بأنه أقدم على الانتحار. وكتب «الفقيه رسالة جاء فيها: «يلا لقيتيني ميت عرفني راني انتحرت». كما انتحرت تلميذة داخل مسجد مهجور بدوار الكرايم، قيادة السعيدات، بجماعة سيدي محمد دليل نواحي شيشاوة. وعثر على التلميذة، التي تبلغ من العمر 15 سنة، وقد لفت حبلا شديد الصلابة حول عنقها، مربوطا بأعلى سقف المسجد. وتعاني الضحية من مشاكل داخل أسرتها وفي المدرسة، مما أدى إلى إقدامها على هذا العمل الرهيب. واهتز دوار تابع لإقليمقلعة السراغنة على وقع انتحار شاب، بعد رفض والده تسجيله بدفتر الحالة المدنية. وأقدم الشاب، الذي يتحدر من دوار بني عامر، التابع لإقليمقلعة السراغنة على شنق نفسه بحبل سميك، بعد نشوب خلاف بينه وبين والده، الذي رفض تسجيله في دفتر الحالة المدنية. وعمد شاب، من مواليد سنة 1992، يدعى «اسماعيل.س» إلى شنق نفسه بحبل عبارة عن «كروة»، عندما انكشف أمر سرقته لتجهيزات «كراج» من قبل صاحب المحل. تراجع الصحة النفسية وغياب الدعم الأسري لهذه الأسباب ينتحر الناس بعاصمة سوس.. من الحقائق الصادمة التي أظهرتها كل حالات الانتحار التي شهدته منطقة أكادير الكبير أن غالبية الحالات سجلت في صفوف الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة، وهي مؤشر جعل عددا من المهتمين بالصحة النفسية يدقون ناقوس الخطر، كما أن قاسما مشتركا بين غالبية هذه الحالات أنها تكون داخل أوساط اجتماعية لا تحظى بقسط كبير من حالة الاستقرار. وفي تعليق لها حول حالات الانتحار بالجنوب تقول الدكتورة بهيجة صفيري أخصائية في الأمراض النفسية، والعقلية والعصبية، إن المرض النفسي في المغرب عموما أصبح ديمقراطيا لا يميز بين فئات المجتمع، وتقدم الأخصائية تعريفا طبيا للانتحار على أن الحالة التي يقدم الشخص فيها على وضع حد لحياته، وهذه الحالة تكون فردية وقد تكون في بعض الحالات جماعية كإقدام الأم على الانتحار رفقة أبنائها وغيرها من الحالات، والانتحار اليوم لم يعد حكرا على البالغين فقط بل أصبح يمس شريحة الأطفال كذلك. وعن الدوافع النفسية التي تدفع الشخص إلى وضع حد لحياته تقول المتحدثة ذاتها إنه من خلال الملاحظات المسجلة اليوم فإن هناك انتحارا ومحاولة انتحار، وبعض محاولات الانتحار تكون وهمية من أجل جلب اهتمام الأسرة ولفت الانتباه إلى الشخص من أجل قدر أكبر من الرعاية، وهناك أيضا محاولات انتحار جادة يتأكد من خلالها رغبة الشخص في الانتحار بشكل أكيد، وما يقارب 90 في المائة من المحاولات الجادة في الانتحار تكون بسبب اضطرابات نفسية تختلف حسب الأعمار إلا أنها تتركز بين سن 20 إلى 40 سنة، إلا أن النسب الأكبر في صفوف الشباب، وغالبا ما تكون الدوافع ناتجة عن حالات الاكتئاب والمرض العقلي كالدهان. ويضيف المصدر ذاته أن الإنسان السوي يبدو عليه الاهتمام بنفسه ومستقبل أبنائه، لكن الشخص المصاب بالاكتئاب يفقد هذا الشعور بالمستقبل والحاضر، ومن بين العناصر المحددة طبيا لبوادر الانتحار ما يصطلح عليه « بالمستقبل المغلق». وتبعا لذلك نبهت الأخصائية النفسية إلى أنه تصاب امرأتان مقابل رجل واحد بمرض الاكتئاب وهذا يتبين من المعاينة الميدانية في ظل غياب دراسات يمكنها أن تكشف عن معطيات دقيقة، وفي المقابل نجد أن بعض الأشخاص يقدمون على الانتحار في الفترات الأولى للعلاج، بحيث أن آثار الدواء لا تظهر إلا بعد 15 يوما من تناول العلاج، بحيث يعود للمريض بعض من نشاطه الجسماني والنفسي، وفي هذه الفترة يمكن للمريض أن يقدم على الانتحار قبل أن تكتمل بقية مراحل العلاج، بحيث يستغل المريض القليل من النشاط الذي بدأ يتمتع به في تنفيذ مستلزمات الانتحار، لأنه كان في المرحلة السابقة يعرف وهنا شديدا على مستوى قواه العضلية والنفسية، وتكرار مثل هذه الحالات جعل مجموعة من الناس يعتقدون أن العلاج يدفع المريض إلى الانتحار، لذلك يتوجب على أسرة المريض أن تشدد الرقابة عليه أثناء فترة خضوعه للعلاج. ففي غياب هذا الوسط الأسري الداعم يمكن للمريض أن يندفع بقوة إلى الانتحار، فقط يبقى يتحين الفرصة المناسبة لتنفيذ ذلك بحيث يختار المريض بعناية كبيرة الفرصة المواتية للانتحار حتى لا يترك أي فرصة لإنقاذه. وخلصت المتحدثة إلى أنه من الملاحظات التي وجب التنبيه إليها في هذا الصدد أن الشخص المنتحر غالبا ما نجد أن فردا من أفراد عائلته سبق أن انتحر أو حاول الانتحار، مما يجعل التأثر بالوسط الأسري دافعا من دوافع الانتحار. عن الفئات الاجتماعية الأكثر تسجيلا للانتحار في صفوفها تقول المتخصصة إن ظاهرة الانتحار أصبحت أكثر ديمقراطية من السابق بحيث لم يعد يستثني الأسر الفقيرة ولا الميسورة، كما أنه أصبح يصيب جميع الفئات العمرية، وقد ساهم التفكك الأسري والمشاكل العائلية وتراجع الصحة النفسية في الرفع من وتيرة إقدام الأشخاص على وضع حد لحياتهم بأساليب مختلفة تتراوح من البسيطة إلى أساليب بشعة، ويبقى الطب النفسي أساس العلاج رغم أننا أصبحنا نلاحظ لجوء العديد من المرضى إلى أساليب الشعوذة وزيارة الأضرحة وقد سجلت أن بعض العائلات سواء من المغاربة المقيمين بالخارج أو بالداخل عندما يلجؤون إلى بعض الفقهاء من أجل طلب العلاج من بعض الأعراض النفسية التي تصيبهم فإن هؤلاء ينصحونهم بزيارة طبيب مختص في الطب النفسي، وهذا ما جعل العديد من الأسر المغربية التي تلجأ إلى الطب النفسي في تزايد مستمر. مسلسل انتحار الأطفال متواصل سجلت مختلف مناطق جهة الشرق، خاصة منها إقليم الناظور، ظاهرة قد تلفت انتباه المسؤولين وعلماء النفس بالمغرب وتثير اهتمامهم لدراستها والبحث عن الأسباب الحقيقة، تتمثل في إقدام مجموعة من الأطفال على الانتحار.إقليمالحسيمة عاش حادثا مؤلما تمثل في إقدام طفلة من مواليد سنة 2002 على وضع حدّ لحياتها بدوار «إزرياحن» التابع للجماعة القروية «اسناذة» بإقليمالحسيمة بمنزل عائلتها بالقرية .مصادر من عين المكان أشارت إلى أن عناصر الضابطة القضائية للدرك الملكي انتقلت إلى عين المكان فور إشعارها من طرف أسرة الهالكة بوقوع الحادث المؤلم، وعاينت جثة الطفلة قبل أن تفتح تحقيقا للإحاطة بظروف وملابسات الحادث، فيما عملت عناصر الوقاية المدنية على نقلها إلى مستودع الأموات بالمستشفى في أفق إخضاعها لعملية تشريح طبي بهدف تحديد الأسباب الحقيقية للوفاة. وسجلت مدينة الحسيمة بدورها، خلال أكتوبر الماضي، عملية انتحار مؤلمة، بعد أن أقدم تلميذ في الخامسة عشرة من عمره على إنهاء حياته شنقا بواسطة حبل علقه إلى غصن إحدى الأشجار، في غفلة من أفراد أسرته، قرب منزل عائلته بالقرية، بدوار «آدوز» الواقع تحت النفوذ الترابي للجماعة القروية الرواضي بإقليمالحسيمة. مصادر من عين المكان، أفادت أن الهالك كان يعاني من مشاكل في دراسته حيث سبق له أن هدد عائلته بالانتحار في حال إرغامه على ترك دواره والالتحاق بالمدرسة الجماعية لمتابعة دراسته.وسبق أن لقي طفل مصرعه في الحين، مساء الأربعاء 20 يناير 2016، متأثرا بجراحه نتيجة سقوطه، في ظروف غامضة، من الطابق الرابع لأحد المنازل بحي المطار بالناظور، وذلك عشية يوم الأربعاء 20 يناير الماضي. وقامت طفلة لا يتجاوز سنها 12 عاما، ليلة الأحد 13 دجنبر 2015، بوضع حد لحياتها شنقا، بغرفة بمنزل أسرتها بدوار «أولاد طالب علي لهدارة» الواقع تحت النفوذ الترابي لجماعة قرية أركمان بإقليم الناظور. الطفلة الهالكة كانت تتابع دراستها بإعدادية الفتح بأركمان، وأقدمت على فعلها في ظروف غامضة حيث لم تكن تعاني من أي اضطرابات نفسية أو عقلية، وهو الحادث المأساوي الذي صدم أفراد أسرتها وأقاربها وجيرانها. وبالمدينة نفسها، أقدمت طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، الجمعة 14 غشت 2015، على وضع حدّ لحياتها شنقاً بمنزل خالتها بحيّ الفيض وسط مدينة الناظور خلال زيارة عائلية.وبمدينة تاوريرت، أقدم شاب لا يتجاوز عمره السبعة عشرة سنة، مساء الثلاثاء 15 دجنبر 2015، على وضع حدّ لحياته بتناوله مادة كيماوية سامة تستعمل لإبادة الفئران، بحي النهضة بمدينة تاوريرت.الهالك المسمى قيد حياته آدم الحمزاوي، من مواليد 1998 ومنقطع عن الدراسة، نقل إلى مستعجلات المستشفى الإقليمي بتاوريرت، حث لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد ثماني ساعات من إقدامه على عملية الانتحار، حيث لم تنجح عملية غسل المعدة التي خضع لها في إنقاذ حياته. الخوف والمشاكل والإحباط.. عناوين فواجع انتحار «غير اعتيادية» بعروس الشمال أن يصبح الانتحار موضوعا للندوات والدراسات وخطب الجمعة بطنجة، دليل على أن هذه الظاهرة لم تعد استثناء بمدينة تكبر وتتغول بسرعة، والدليل الأكبر على ذلك، هو العدد المتزايد لأخبار الانتحار بالمدينة، حيث لم يعد يمر أسبوع دون تسجيل حالات انتحار، بل أحيانا قد يعيش السكان صدمة وحدادا جماعيين، حين تتزامن عدة حالات مع بعضها. من المشاكل الأسرية والمادية، مرورا بالاضطرابات العقلية والنفسية، ووصولا إلى المشاكل العاطفية، تتنوع دوافع المنتحرين التي «أجبرتهم» على وضع حد لحياتهم، ورغم أن فكرة الانتحار في حد ذاتها بشعة ومرعبة، إلا أن بعض أساليب الموت أو سياقات بعض الحوادث التي عاشتها طنجة، جعلت الأمر يبدو أكثر بشاعة. انتحار داخل محكمة هي واحدة من أغرب وأبشع حوادث الانتحار التي افتتحت بها طنجة السنة الجارية، وكان مسرحها مقر محكمة الاستئناف بطنجة، ففي يوم الجمعة 8 يناير الماضي، أقدم شخص على شنق نفسه مستخدما خيوط حذائه، حيث فضل توديع الحياة على توديع الحرية، بعد صدور أمر بإيداعه السجن. الضحية الثلاثيني، لم يكن في البداية إلا شاهدا في إحدى القضايا المعروضة على المحكمة، لكن التحقيقات كشفت أنه شاهد زور، ما حوله إلى متهم، ليمثل أمام الضابطة القضائية ثم قاضي التحقيق، هذا الأخير الذي أمر بإيداعه السجن المحلي بطنجة. لم يتقبل المتهم قرار القاضي، وعمل جاهدا على تجنبه، وحين استبد به اليأس، استغل انشغال الشرطي المكلف بمراقبته، واستل رباط حذائه الرياضي ولفه حول عنقه وعلقه في أحد مقابض الدرج، ليفارق الحياة داخل المحكمة، في مشهد بدا وكأنه مقتطع من فيلم سينمائي. انتحار بالسم من أساليب الانتحار التي سمع بها الطنجيون كثيرا، تناول جرعات من مادة سامة، وإن كان هذا الأمر على بشاعته طبيعيا في مدينة صارت حالات الانتحار فيها حديثا متداولا بين العام والخاص، إلا أن الصادم هو ما عاشته طنجة في منتصف العام الماضي، حين أقدمت 3 شابات على محاولة وضع حد لحياتهن بشكل متزامن باستعمال سم الفئران، واحدة منهن قضت نحبها بالفعل، فيما جرى إنقاذ الأخريين. الحوادث الثلاث جرت بثلاثة أحياء متفرقة بطنجة، في يوم من أيام شهر ماي الماضي، حيث وصلت إلى قسم الإنعاش بمستشفى محمد الخامس، حالة شابة في ربيعها الثامن عشر كانت في حالة حرجة، واتضح أنها تناولت كمية من سم الفئران، بعد خلاف مع أفراد عائلتها، ورغم إجراء عملية غسل معدة لها، إلا أنها فارقت الحياة. وفي اليوم نفسه، سيستقبل المستشفى حالة شابة تبلغ من العمر 24 ربيعا، لجأت إلى الانتحار بالطريقة نفسها، جراء معاناتها من اضطرابات نفسية حادة سبق أن أدخلتها مستشفى الأمراض النفسية والعقلية والعصبية ابن سينا، ولم ينته اليوم إلا وقدمت إلى المستشفى نفسه شابة أخرى عمرها 27 سنة، حاولت بدورها وضع حد لحياتها بتناول سم الفئران، بسبب مشاكل عائلية، وقد قدر الله لهاتين الشابتين عمرا جديدا بعدما تمكن الأطباء من إنقاذهما. انتحار تلميذات أكثر أخبار الانتحار التي يكون وقعها صادما جدا في طنجة، تلك التي يكون القاصرون ضحاياها، ففي مرات كثيرة يفضل هؤلاء، لسبب أو لآخر، هجر مقاعد الدراسة، وتوديع أسرهم إلى الأبد، وهو أمر يسجل في صفوف الفتيات أكثر من الذكور. ومن أكثر هذه الحالات سوداوية، تلك التي راحت ضحيتها تلميذة في ربيعها الثالث عشر في قرية عين الحمراء القريبة من طنجة، والتي ضاقت درعا بضرب أستاذها لها وإهانتها أمام باقي التلاميذ داخل القسم لتقرر وضع حد لمحنتها ولحياتها في الوقت نفسه. وعمدت الطفلة إلى شنق نفسها داخل منزل أسرتها، مستغلة غياب أفرادها، وذلك بعد عودتها من حصة إهانة جديدة داخل مدرستها الابتدائية، قبل أن تعثر عليها أسرتها جثة هامدة، ولم يكشف السبب الحقيقي للواقعة إلا شقيقها الذي يدرس معها في القسم نفسه. وفي شهر فبراير من العام الماضي، اهتزت طنجة على وقع خبر انتحار تلميذة أخرى، كانت تدرس في مؤسسة ثانوية، حيث اختارت ذات صباح التوجه إلى موقع حجرة غنام الأثري الذي يضم مقابر الفينيقيين، ثم رمت بنفسها من أعلى مرتفع وسط صدمة وذعر الحاضرين، واتضح أن التلميذة التي يزيد عمرها عن 19 عاما، كانت تعاني من مشاكل نفسية. ومن الإحباط ما قتل الإحباط أو الاكتئاب أو الخوف… كلمات غالبا ما تكون حلا لألغاز الانتحار بطنجة، ويرجح أن تكون السبب الحقيقي وراء آخر هذه الحوادث، والتي كان حي «ابن يدر» بالمدينة القديمة مسرحا لها يوم الأربعاء الماضي، حيث قام شاب يبلغ من العمر 28 عاما تقريبا بوضع حد لحياته شنقا، في غمرة تحضيره لحفل زفافه، في واحدة من أكثر حالات الانتحار تراجيدية، علما أن الضحية المكناسي يعاني منذ مدة من مرض عصبي ويشتغل في مهنة بسيطة. الإحباط أيضا كان الدافع المفترض لقيام شخص في الأربعينات من عمره، بوضع حد لحياته بحي «بنديبان» شهر نونبر الماضي، حيث عثر عليه أفراد من أسرته مشنوقا داخل منزله، بعد معاناته طويلة مع العطالة، وأيضا بسبب مشاكله الزوجية وإصرار زوجته على الطلاق، ليدخل في حالة اكتئاب يجمع جيرانه على تأثيرها الواضح عليه، إلى أن قرر مغادرة الحياة بشكل صادم. أما حي الموظفين، فكان على موعد بدوره، شهر مارس من العام الماضي، مع قصة انتحار مفجعة بسبب الاكتئاب، ضحيتها رجل يبلغ من العمر 45 عاما، والذي قرر الالتحاق بزوجته التي فارقت الحياة بسبب المرض تاركة إياه في وضع نفسي صعب، ليعمد إلى إلقاء نفسه من الطابق الثالث لمنزلهما، مخلفا صدمة مزدوجة لدى أفراد عائلته التي تلقت العزاء مرتين خلال 3 أيام، في قصة تراجيدية أفجعت الطنجيين. سوء المعاملة الزوجية.. جانب آخر من أسباب الانتحار ارتفع عدد حالات الانتحار في جهة الغرب الشراردة بني احسن سابقا بشكل ملحوظ في السنين الأخيرة، خاصة بإقليميالقنيطرةوسيدي سليمان، حيث يرجع باحثون ذلك إلى حالات الإحباط الاقتصادي والاجتماعي. ففي جماعة المناصرة والدواوير المحيطة بها، لا يكاد يمر شهر واحد، دون أن يتم تسجيل عدة حالات انتحار، سيما في صفوف الفتيات اللواتي يعمدن إلى قتل أنفسهن بشرب مبيد الفئران. والوضع نفسه عاشته مدينة القنيطرة في الآونة الأخيرة، حيث اهتز سكان المدينة على وقع انتحار شباب من الجنسين، إما برمي أنفسهم من أسطح المنازل أو من شرفات شقق العمارات. وشملت حالات الانتحار المسجلة بجهة الغرب خلال الأربعة أشهر الماضية العديد من الفتيات والشباب وهم في ريعان شبابهم، وتراوحت الأسباب بين الأوضاع المعيشية الصعبة ومشاكل اجتماعية أخرى، وخلقت فتاة متزوجة بمدينة سيدي سليمان، الحدث، في الأسابيع الأخيرة، حينما أقدمت على عملية انتحار جد فظيعة، بعدما قررت وضع حد لحياتها حرقا احتجاجا على الاعتداءات المتكررة التي تتعرض لها من طرف زوجها. زواج بالفاتحة هي فتاة لم تبلغ بعد سن الرشد، كانت تحلم بأن تعيش في سكينة وطمأنينة مع من أحبته في لحظة عابرة تحت سقف واحد، واعتقدت أن السبيل إلى ذلك مفروش بالورود، كانت تدرك جيدا أنها مطالبة بالتضحية رغم صغر سنها، لكن ما لم يكن يخلد في حسبانها هو أن يتجرد الشاب الذي عشقته حتى النخاع من كل مشاعره الإنسانية ويتخلى عن حبه لها بعد مرور أشهر قليلة على زواجهما بالفاتحة. من عش للزوجية إلى معقل للتعذيب لم تستطع خديجة مقاومة جلسات التعذيب التي كانت تخضع لها من قبل زوجها، بعدما ازدادت حدة خلافاتهما، فقررت ذات يوم الفرار بجلدها، واختارت الوقت المناسب للهروب، لكن زوجها فطن لمحاولتها، وتمكن من اللحاق بها وإعادتها إلى المنزل حيث كانت على موعد جديد مع ممارسات تحط من كرامتها وتزرع الرعب في نفسها، وهو ما لم تستطع معه صبرا. الانتحار للفرار من جحيم الحياة أمام حجم المعاناة التي أضحت تكابدها، أصبح الشغل الشاغل لخديجة هو أن تبحث عن وسيلة تمكنها من الفرار من جحيم الحياة، دارت بخلدها سيناريوهات كثيرة، قبل أن يستقر تفكيرها على واحد منها، لتعمد، في التاسع والعشرين من يناير الماضي، إلى إضرام النار في جسدها، تسبب في إصابتها بجروح من الدرجة الخطيرة عجلت بوفاتها. تحقيقات الشرطة لم يكن جيران الضحية يعلمون أن خديجة قد أشعلت النار في جسدها حينما توجهوا إلى مصالح الشرطة بمدينة سيدي سليمان لإشعارها بوجود دخان كثيف ينبعث من منزل الهالكة، وأصوات من الصراخ والعويل تصدر عنه، حيث سارعت سيارات الإسعاف والأمن بالتوجه إلى مكان الحادث، ليتم اكتشاف الضحية وهي في وضع صحي جد متردي بفعل الحروق التي أصيبت بها، وبجانبها زوجها الذي كان يعاني هو أيضا من حروق في اليد. وبحسب المصادر، فإن الضحيتين نقلا معا إلى المركب الجهوي الاستشفائي بالقنيطرة، لتلقي العلاجات الضرورية، مشيرة، إلى أن الحالة الصحية للفتاة كانت جد متدهورة نتيجة إصابتها بحروق من الدرجة الثالثة، حيث ظلت تحت العناية المركزة إلى أن فارقت الحياة في اليوم الموالي، فيما استقر الوضع الصحي للزوج، لتشرع عناصر الشرطة في مباشرة تحرياتها للكشف عن الأسباب الحقيقية لهذا الحادث. وأوضحت المصادر، أن المحققين الأمنيين توصلوا بمعلومات موثوقة تؤكد إقدام الهالكة على الانتحار حرقا بعدما ضاقت ذرعا من تصرفات زوجها وطريقة تعامله معها والتي لا تخلو من عنف، بسبب خلافات عائلية حادة، مشيرة إلى أن الزوج حاول إنقاذ الضحية وثنيها عن الانتحار لكن فشل في ذلك مما تسبب في إصابته هو أيضا بحروق خطيرة. وبحسب المصادر ذاتها، فإن التحقيقات الأولية التي باشرتها الشرطة القضائية أكدت عدم وجود أي شبهة جنائية أو شك في القتل، وأن الضحية هي من أشعلت النار في جسدها الصغير، بعدما سكبت عليه كمية من البنزين، وهو ما يتماهى مع التصريحات التمهيدية التي أدلت بها الهالكة نفسها قبل وفاتها .وبحسب معطيات مؤكدة، فإن الفتاة القاصر كانت على خلاف دائم مع زوجها منذ أن عقد عليها ب»الفاتحة»، وقبل الحادث بيوم واحد، نشبت بين الطرفين مشادات كلامية خطيرة دفعت الزوجة إلى الهروب إلى بيت والديها قبل أن يلحق بها الزوج، ويصطحبها معه بالقوة،مجبرا إياها على الرجوع إلى بيت الزوجية بدون رغبتها. وقالت المصادر، إن الهالكة استشاطت غضبا من زوجها، مما تسبب لها في ضغط نفسي رهيب وزاد من حدة يأسها، ولم تجد إلا الانتحار حرقا سبيلا للتعبير عن معاناتها، بعدما سكبت كمية من البنزين على جسدها كان أحد أبناء الجيران قد اقتناه لفائدتها من محطة وقود متواضعة. «شبح» الانتحار يخيم على آسفي و«المساء» تكشف معطيات صادمة «الكورنيش» مقبرة نساء و«مخازنية» وسجناء وطلبة ومهندسين كل سنة، وخلال جميع الشهور، تسجل بأسفي حالات انتحار جديدة. ضحاياها مواطنون، من جميع الأعمار والفئات الاجتماعية، أطفال، تلاميذ، طلبة، مسنون، متزوجون، وعزب، نساء، ورجال. تفشي هذه الظاهرة بأسفي، في السنين الأخيرة، بقدر ما يطرح السؤال، حول الصحة النفسية لسكان الإقليم، ينذر بخطورة تناميها، وانتقالها إلى صفوف الأطفال، حتى تصبح بمثابة العدوى، تفتك بأبناء أسفي، وتجعل من حاضرة المحيط، التي وطئت أقدام عقبة بن نافع أرضها، عاصمة الانتحار، عوض أن تظل عاصمة للسردين. وضعت أربعة بنات لستيني، كان رئيسا لمركب للصيد البحري شكاية للمصالح الأمنية تتهم أباهن بزنى المحارم. وبعد علمه بقدوم رجال الشرطة إلى بيته بمنطقة «الروامشة» من أجل اعتقاله، قام بإطلاق رصاصة من بندقية صيد على رأسه، ووضع حدا لحياته. تدشين السنة الجديدة بانتحار سيدتين أبت مدينة أسفي إلا أن تسجل اسمها في سجل الانتحار، فتم تدشين السنة الجديدة 2016 بحالتي انتحار، أولاها يوم 25 يناير الماضي حيث ألقت أربعينية بنفسها من على «كورنيش» المدينة، تاركة وراءها أسرة مكونة من أب وثلاثة أبناء، من بينهم رضيعا لم يتجاوز الشهر الخامس من عمره. تتحدر المرأة من جماعة «الشهدة» قرب مدينة جمعة اسحيم، التي تبعد عن مركز أسفي ب 50 كيلومترا. وبعد أسبوع واحد فقط،عرفت أسفي انتحارا ثانيا لشابة حديثة الزواج. ففي مساء اليوم الرابع من فبراير الجاري، قامت العروس، التي لم يمر على زواجها سوى ستة أشهر بشنق نفسها بواسطة «شال»، قماش من الثوب لتغطية الرأس ببيت بسطح عائلة زوجها بتجزئة سمية بحي «العريصة» جنوب أسفي. انتحاران تجهل الأسباب الحقيقية وراءهما، كما تجهل أسباب عشرات الحالات، التي عرفتها المدينة، وتنامت بشكل خطير خلال عقد من الزمن، لكنهما يؤكدان استمرار الظاهرة، ولانهاية حلقات مسلسلها الدرامي. قصص دامية لمنتحرين لن ينساها السفيانيون «خديجة» ذات العقد الرابع اختارت إلقاء نفسها من علو شاهق بكورنيش المدينة على الصخور الصماء، الضخمة، المتناثرة هناك، حيث تتكسر الأمواج العاتية، وتنتشر الكهوف الغامضة المظلمة، لتسقط فتختفي جثتها. عادت من قسم جراحة الأنف والحنجرة بالمستشفى الجهوي محمد الخامس بسبب مرض ابنتها (ز) ذات الربيع الثامن. اتصلت ببعض الزبائن بمقهى قريب من مسرح الحادثة تطلب منهم بعض النقود لشراء الدواء. ثم جرت بسرعة نحو المحيط الأطلسي لتعانق مياهه الهائجة أواخر شهر يناير من هذه السنة، تاركة طفلتها المريضة، تصرخ بشكل هستيري كاد أن يفقدها عقلها فوق صخرة أموني بكورنيش أسفي. إذا كانت «خديجة» القادمة من البادية قد اختارت البحر، لتطفئ نار الغضب، التي أشعلها الفقر في جميع جسدها، فجعلها تستجدي دراهم رواد مقاهي، أفسدت المنظر العام لكورنيش المدينة، فإن «وفاء» ذات 18 سنة لم يمر على زواجها سوى 6 أشهر، اختارت أن تنهي حياتها ببيت عائلة زوجها، الذي يكبرها بسنتين. أخذت «وفاء» المزدادة سنة 1998 قطعة القماش وجعلتها في مثابة الحبل السميك، ثم ربطته بهيكل بيت بسطح المنزل، ولفته بعنقها ثم قفزت بهدوء وسرعة لتضع حدا لحياتها. تاركة الأسى والألم في نفوس جيرانها، الذين شهدوا لها بالأخلاق الفاضلة والهدوء، ورسائل دبجتها أناملها الصغيرة تشرح بعض الألم الذي عانته، وغلب عندها الرغبة في وضع حد للحياة. أشعل سيجارته أعلى «الكورنيش» وأطفأها أسفله حينما استقرت عقارب الساعة على العاشرة ليلا من مساء الاثنين، اختار أحد الشباب من مواليد سنة 1990 كغيره من أقرانه، الفرار من صخب المدينة والجلوس على صخرة «أموني» المطلة على المحيط، والاستماع إلى الموسيقى، التي تحدثها الضربات المتوالية للأمواج، على الصخور، واستنشاق رائحة الطحالب، وتذوق ملوحة رذاذ البحر، الذي تأتي به الرياح، إلى وجوه الجالسين. في ذلك الوقت حيث غسق الليل أرخى سدوله، جلس الشاب إلى البحر ينظر إليه، أشعل سيجارته، فقد توازنه وتجاوز سياج الكورنيش المتهالك والقصير جدا، ثم رمى بنفسه وسط الأمواج. وبصعوبة كبيرة استطاع رجال الوقاية المدنية رفقة شباب متطوعين من الأحياء المجاورة للكورنيش، انتشاله، حيا يرزق، لكنه كان في وضعية خطيرة. وبعد أقل من نصف ساعة، توفي بمستعجلات المستشفى الجهوي محمد الخامس متأثرا بجروح بليغة، أصيب بها على مستوى رأسه، وكثفيه، وأطرافه، وعلى أغلب أعضاء جسمه. مسن يرتمي في «الكورنيش» بعد أسبوع واحد فقط عن انتحار الشاب، وعلى الساعة العاشرة من يوم الاثنين غشت الماضي، نزل رجل مسن من «طاكسي» صغير، وسار مسرعا نحو حتفه «الكورنيش». وأمام ذهول المارة والصيادين رمى نفسه طوعا إلى أمواج البحر، التي كانت تنتظره لتزهق روحه هناك.وبجماعة أيير الساحلية والهادئة، واسطة العقد بين أسفي والجديدة، اهتز دوار «حيوط الشعير» القريب من منتجع الوليدية على وقع حادثة انتحار كان ضحيتها شاب ثلاثيني. استفاقت عائلته صباح يوم الاثنين فوجدته جثة معلقة بحبل، ربطه على رقبته بشجرة أمام بيت الأسرة، التي كان يقطن معها قيد حياته. كان الشاب قيد حياته يعاني من مرض نفسي، وكان يخضع للعلاج يقول مقربون من عائلته. «المخازنية» ضحايا الانتحار نائب رئيس فرقة القوات المساعدة بمقاطعة «كاوكي» يتحدر من خنيفرة -38 سنة- تناول مبيد سام فتوفي في المستعجلات. كما أدم عنصر من القوات المساعدة على شرب مبيد الحشرات، ليتم إنقاذه بغسل أمعائه. وبجماعة «أنكا» القروية، ركب أحد أفراد القوات المساعدة سيارة الخدمة، وحاول الانتحار حيث انطلق بسرعة جنونية نحو منحدر يقود إلى أحد الأودية. لم يمت لكنه أصيب إصابات متفاوتة بجسده. انتحار نزلاء بسجن «مول البركي» شيد سجن «مول البركي»، الذي يبعد عن أسفي المدينة ب35 كيلومتر شهر ماي 2012 كأكبر السجون المركزية للمملكة، ليحوي ذوي الأحكام النهائية المتوسطة أو طويلة الأمد، لكنه عرف عدة حالات من الانتحار. منها السجين الثلاثيني «س. ن»، الذي كان يقضي عقوبة 25 سنة سجنا نافذا بتهمة القتل العمد، صادرة عن غرفة الجنايات بالدار البيضاء. قام بشنق نفسه ووضع حدا لحياته داخل زنزانته. حاول زملاؤه إنقاذه وإنزاله من مشنقته، لكن الموت أدركه. وفي اليوم ذاته أفشلت محاولة سجينين آخرين حاولا وضع حد لحياتهما بتعريض جسديهما للجرح بواسطة آلات حادة وشفرات للحلاقة. وفي أكتوبر 2014 بلع سجين ب «مول البركي» يد إبريق لصنع الشاي. ونقل على وجه السرعة إلى مستشفى محمد الخامس، ثم إلى مستشفى ابن طفيل بمراكش، حيث تم إنقاذ حياته. سجين آخر ب «مول البركي» تعرض لاعتداء جنسي من طرف صاحب سوابق. خاف من انتقال مرض داء «السيدا» إليه، فقرر أن يضع حدا لحياته، ثم سكب كميات كبيرة من الماء المغلي على جسده. بينما سجينان أحدهما قام بإضرام النار في الأغطية كي يحرق جسده. وقام الثاني بإحداث 60 غرزة في جسده بشفرة حلاقة، وتم إنقاذه برتقها بالمستشفى الجهوي. ولم يسلم الموظفون أيضا من محاولات الانتحار كحالة الموظف، الذي حاول إحراق نفسه أمام بوابة سجن «مول البركي» بواسطة مادة «الدوليو» احتجاجا على التعسف، الذي كان يتعرض إليه من طرف مسؤول إداري بالمؤسسة السجنية. مهندس يقفز بسيارته نحو البحر حادثة غريبة ومروعة، تلك التي عاشتها منطقة «كويطلة» قرب كيماويات المغرب بجنوب أسفي، زوال يوم الاثنين فبراير من سنة 2014. أخذ «رشيد»، المهندس البحري، الذي تجاوز عقد الرابع، المتزوج وأب لأولاد سيارته السوداء من نوع «داسيا» ونادى على زميلته بالعمل بأحد معامل تصبير السمك بالمنطقة الصناعية. ركبت إلى جانبه دون أن تفكر أن الرجل المعروف بتدينه وأخلاقه الحميدة، قد لا يؤدي ذبابة، فكيف بأن يفكر في قتل نفس بشرية «عزيزة على الله». ضغط على دواسة السيارة، التي انطلقت بسرعة جنونية نحو المنحدر قصد الارتماء في البحر. فارتطمت بصخور كبيرة، وتوقفت السيارة قبل السقوط، وظلت معلقة. أطلقت المرأة صيحاتها تطلب النجدة وتخلصت من قبضته القوية، التي طوقت تلابيبها وقذف بنفسه وحده فوق الصخور، ومن تم الأمواج العاتية، التي ذهبت به نحو عمق البحر، فيما نجت زميلته، وتم تخليصها من وسط السيارة. كان «رشيد» حسب عدة روايات استقال من الشركة، التي يعمل بها قصد الالتحاق بأخرى بمدينة أكادير. كانت رفيقته المهندسة مرشحة للعمل مكانه، مع شكوك كبيرة أنه أحس بمضايقة إدارة الشركة له، والضغط عليه ليقدم استقالته، وليبقى المكان شاغرا كي تملأه زميلته، مما أدخله في حالة اكتئاب ومحاولة للانتقام. الوريدي *: الوازع الديني علاج للانتحار وأغلب الضحايا يخططون لموتهم – هل هناك تعريف للانتحار؟ الانتحار يبدأ حينما يصل الإنسان إلى الباب المسدود، فتغلق في وجهه الآفاق، ويحصر نفسه في غرفة مظلمة، فيزداد ألمه، ويرى أن الحل الوحيد أن يضع حدا لحياته، ويقول إذا كانت الدنيا هكذا «بلاش منها». يصاب بالأرق آخر الليل، تكثر هواجسه، ثم يمر إلى مرحلة التخطيط. يصبح يتحدث مع نفسه ومع الآخرين عن الفكرة. بعدها يختار أي وسيلة لتنفيذها. – هل أسفي أصبحت عاصمة للانتحار؟ الانتحار ظاهرة عالمية، عجزت عن حلها الدول الغربية المتقدمة. وفي غياب الدراسات الميدانية، بسبب غياب الإحصاءات الحقيقية التي تمكن الدارسين من البحث الموضوعي والعلمي، لا يمكن لأحد أن يجزم بذلك. – ما هي أسباب الانتحار؟ ليس هناك سبب واحد. الأمراض العقلية، والميزاجية، الفصام- السكيزوفرينيا- والضغوطات الاجتماعية والأسرية، كلها أسباب. هناك عوامل بيولوجية في شخصية الإنسان وأخرى سيكيولوجية. لكن يبقى الاكتئاب أول الأسباب، فأكثر الحالات، التي انتحرت تعاني هذا المرض وأصحابها يخططون لموتهم. – هل هناك حالات لا يخططون لموتهم؟ نعم هناك حالات أخرى لمنتحرين لم يخططوا لإنهاء حياتهم، ولم تكن عندهم معاناة، وإنما طرأت ظروف مباغتة استعصى حلها، فشل في تحقيق النجاح، عدم القدرة على تسديد دين…، فاتخذوا القرار فجأة. – من خلال عملكم الميداني كيف تفسر مثل هذه الحالات؟ من خلال تتبع الذين فشلوا في الإقدام على الانتحار، نؤكد أن هناك سببا آخر يتعلق بالاضطرابات الشخصية. حينما نسألهم هل تريدون الموت يجيبون بلا، لم يكن الموت هدفا لهم، أغلبهم نساء ذوات شخصية مرهفة، كانت تعيش في وسط كثير الاهتمام بهن، دلعهن وهن طفلات، وحين يتلقين معاملة قاسية من أستاذ، أو داخل العائلة، أو حينما يفشلن في علاقة غرامية اكتشفن كذبها، يشعرن بالإهانة، ويبحثن عن لفت الانتباه، وإثارة الشفقة بالقضاء على الحياة. – كيف تفسر اختلاف وسائل التنفيذ عند المنتحرين؟ كأخصائي ليس عندي تفسير علمي للمسألة، لكن نلاحظ أن المرأة تختار الوسائل، التي يمكن أن نقول عنها ناعمة، كشرب المبيدات مثلا، بينما الرجال يختارون ما يناسب شخصياتهم كذكور، يميلون إلى كل ما يرمز إلى القوة، والعنف، والجهد البدني، عكس الجنس اللطيف. – هل الانتحار مرض معدي؟ لا ليس بالمفهوم الصحي، ولكن يمكن اعتباره معديا كحالة البوعزيزي، الذي أصبح مثالا بتونس لما أحرق نفسه، رافضا ما مورس عليه من عنف، وإهانة. انتشرت الظاهرة وعمت سائر الوطن العربي، وأصبح كل من شعر بالظلم والإهانة يقوم بحرق نفسه وهي هنا عدوى. أنظر إلى الطريقة التي يتفجر بها «الدواعش»، حيث أصبحوا ينشرون ثقافة الانتحار في وسط الشباب، وهي حالة تتطلب دراسات نفسية، حتى لا تصبح حالتهم عدوى تصيب الشباب. – ماذا عن وسائل العلاج؟ أهم وسيلة للعلاج هي غرس الوازع الديني، لأنه عامل وقاية. فأكثر من نتتبع حالتهم النفسية نرى أن ما يمنعهم من تنفيذ قناعتهم بالانتحار هو الخوف من الله، وحتى من تخشى أن تترك أبناءها وراءها فهي تأخذهم معها في رحلة الموت، إن فقدت الوازع الديني. – وهل هناك مؤشرات وأعراض تظهر على الراغب في الانتحار؟ نعم من يعيش حالة الاكتئاب فهو مؤهل أن يكون ضحية للانتحار. إذ وجب أن نقترب منه، ونفهم معاناته الشخصية. ولذلك ينبغي أن نأخذ بشكل جدي حديث أي قريب منا عن رغبته في إنهاء حياته، ولا نتعامل مع الموضوع على سبيل البسط والمزاح. – الانتحار مسؤولية من؟ مسؤولية الجميع، الأسرة بجميع عناصرها، المجتمع، العالم، وخطيب الجمعة، المدرسة وخاصة الأستاذ، وسائل الإعلام المرئية المسموعة، المكتوبة، لا يعقل أن تستدعي التلفزة في برامجها حول الانتحار عائلة الضحية، وتركه يفسر الظاهرة في غياب أطباء، وعلماء مختصين في الميدان. أيضا وزارة الصحة مسؤولة بشكل كبير عن الصحة النفسية للمواطن، بحكم تخصصها في إيجاد الأطباء والممرضين المختصين بالمستشفيات، مع توفير الأدوية المعالجة لمحاصرة الظاهرة.