هناك في الزنقة 10 بدرب مولاي الشريف، أخذنا على عاتقنا طفولتنا البريئة، طفولة يشوبها الغموض والسرية والانتظار.. انتظار أشياء قد تأتي أو لا تأتي... رمونا نحن الأطفال كما ترمى الأزبال داخل الزقاق، من ثلاثة إلى خمسة وخمسين بناية يقال عنها منازل. وكل بناية تحوي أسر، ولكل أسرة ما تيسّر من فلذات الكبد. زقاق يحمل في همومه أمّة برمتها... من التطواني إلى الصحراوي مروراً بالمكناسي والمراكشي وهلم جغرافية طولا وعرضاً... لم يكن الاختلاف يُفيد للود قضية، »»عار الجار على جارو»،« وهو الشعار. هناك نجتمع كالسردين داخل حانوت ضيق يحمل رقم ثمانية عشر، قالوا لنا، إنه المسيد، وسنتعلم القرآن الكريم. كان السي سْعيد هو الفقيه القوي البنية. لم يكن يقطن الزقاق. فحين يدخل صباحاً بجلاّبته الأنيقة، يقف الأطفال وقفة طفل واحد إجلالاً ، ممنوع الضحك..ممنوع اللعب،بل ممنوع حتى الكلام . يدخل الفقيه إلى ركنه في المسيد. ندخل واحداً تلو الآخر ،نقبّل اليد ونأخذ مكاننا. نحن عشرون في فضاء يتسع لعشرة.. وهذا ما أعطى الله والسوق! في الواقع، كان الفقيه لطيفاً مقارنة مع ما نسمع عن فقهاء في دروب أخرى، على الأقل، كنا نسرق من شفتيه ابتسامات بين الفينة والأخرى. سمعنا عن شراسة وقساوة فقيه آخر ليس بعيداً عنا، وحمدنا الله وشكرناه على كون السي سعيد فقيهاً لنا... لكن، لا تساهل مع عدم الحفظ... وحين ينزل على أحدنا ضرباً مباحاً يُخرج لسانه ويُغمض عينيه. نحفظ الآيات دون أن نفهمها، وهو أيضاً لليس مستوعبا ولكن حافظاً عن ظهر قلب. الآباء لايتدخلون في بيداغوجية التعليم لدى الفقيه،وإذا ما نودي عليهم تشكيا من أحد أبنائهم،يكون جوابهم وبالاجماع: « »نْتَ ذْبْحْ وانا نْسلخْ«« ثقة وإيمانا بأن هذا السلوك القولي وذاك السلوك الفعلي للفقيه هو الأنجع،فلا تخنث ولادلع،ولاهم يندمون. حفظنا ما تيسّر من الذكر الحكيم، وتعلمنا أبجديات النطق،بالصمغ واللوحة والجلوس على الحصير طويلا،دون تأفف أو تأوه،نتوقع عصا الفقيه على رؤوسنا أو صرخة قوية تهزنا هزا،وتركز نظرات الفقيه علينا بين الفينة والاخرى. عندما يتسنى للفقيه أن يبرح المسيد ذات ذقائق معدودات لقضاء حاجة من حوائجه،نشعر بشيئ من التحرر،فتكون منا الشقاوة والنزق والتشابك بالايدي.. والصراخ.ويعود الفقيه بخفي حنين،فنلملم أنفسنا،ونسترجع جو الهدوء والسكينة. في المساء، وقبل أن يغادر الفقيه الزقاق، يأخذ مكانه في رأس الدّرب ليتفرّج على أصحاب «الضّامة».ولا يخفى على أحد ما لهذا الفقيه من مهارة وتفنن في فن الضامة،لكن الرجل ،يوقر نفسه،فلا يلعب مباشرة.وقد فضل أن يكون نبارا،وهو بالفعل، نبّار من الطّراز الأول. وكم مرة نسمع فيها عبارة »»زيادة النّبار مادايزاش««. كان الجْبْلي هو الأقوى، وكانت لقاءاته مع «السي بوخريص» صاحب الحمام تَجْلبُ حشدا من الناس. أما «السي سعيد»، فكان ?على الدوام-يساعد «الجبلي» الفقير المغلوب على أمره... كانت لقاءات الضامة تمثل بحق صراعاً بين المدن والأصول، وكنا لا نذكر الأسماء، بل نتكلم عن الملاّلي الذي فاز على المكناسي أو الصحراوي الذي أعطى درساً للرحماني وقِسْ على ذلك... لحظات جميلة يا صاحبي... وإذا كان العراك بين طفلين، فتدخل السي سعيد واجب لفك النزاع،بسداد رأيه وهيبته،وحسن سمعته. يُسدَل السِّتار على النهار، ويغادر الفقيه الزقاق، تعمُّ الفوضى من جديد، وتكثر الصراخات الشجارات والتلاسنات..هكذا حتى يخلد للنوم الجميع، مكدّساً ببيوت تشتكي من فقر مدقع وثقل في الوزن... كيف لهذا الزقاق الضيق أن يحتضن كل هذا الحشد؟.. »»التيساع في القلب»«، و»تزاحموا تراحموا» آه! لما يبلغ أحدنا سنّه السابع، يغادر المسيد، ويودّع السي سعيد ليأخذ طريقه نحو قسم التحضيري بمدرسة درب مولاي الشريف، التي هي على مرمى حجر من الزنقة عشرة، شكراً نْعامْسْ...