تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. (عن كتاب «رحلات إلى المغرب : 1899 1901 1903»، دو سيغونزاك) وهاك ما حكاه لي زوّاري بالأمس: يُعتبر البيت الوزاني الشريف أول البيوت في العالم الإسلامي، لأن أصله يعود إلى ابنة النبي فاطمة الزهراء، بدون انقطاع منذ خمسة وثلاثين جيلا، ويعتبر من بين المنتسبين المباشرين لها مولاي إدريس أول ملوك المغرب. إن عائلة الشرفاء الفيلاليين التي تقوم على رأس الدولة المغربية منذ 1672 هي مستحوذة على العرش. وسلاطينها يعترفون ضمنيا بحق المُلك لأبناء عمومتهم الوزانيين بدليل أنهم يلتمسون منهم المباركة في كل مرة يجلس فيها أحدهم على العرش، الشيء الذي يمكّنهم من التنصيب الروحي بعد التتويج الدنيوي، كما أن جميع حرْكات السلطان لابد أن يصحبه فيها أحد الشرفاء الوزانيين. وفي المقابل يَسمح لهم بحرية تسيير إقطاعاتهم في وزان ويمكّنهم من التمتع بريع بعض ممتلكاته الخاصة التي يتخلى لهم عن ضرائبها وأرباحها. كان الشرفاء الأوائل يسكنون زرهون، جبل صرصر، البصرة، حراش. وأما مدينة وزان فحديثة العهد: فقد أنشأها سلفهم الأكبر مولاي عبد الله الشريف حوالي 1730. ومنذ ذلك التاريخ تضاعفت ثروة العائلة وازدادت شهرة المدينة، فقد بنى مولاي محمد حول قبر والده مسجدا عظيما، مبلطا بالرخام، ومزخرفا بالفسيفساء، وجعله يزدهي ببياضه الساطع تحت قرميده الأخضر. فصار الأتباع يتوافدون بكثرة، والمدينة تنمو باطراد، وتشكلت طائفة جديدة قام ابنا مولاي محمد ?مولاي الطيب ومولاي التهامي- بالدعاية لها، أحدهما في الشرق وقد أنجبت الطريقة الطيّبية، والثانية في الغرب وأعطت الطريقة التهامية. وهما طريقتان شقيقتان تتطابق طقوسهما. ابتداء من ذلك التاريخ لم تعد البركة، التي يضعها الله في أوليائه وتنتقل تلقائيا بين الأكثر جدارة منهم، تغادر بيت وزان الذي صار يطلق عليه "دار الضمانة". وهذا الامتياز المقدس لم يكن وقفا على الابن البكر بل على المفضل من بين الأبناء، يشهد على ذلك ما أوصى به مولاي علي بن أحمد لابنه الأصغر مولاي العربي. وقد نال مولاي العربي هذا، الذي يطلق عليه الجميع سي الحاج العربي، شهرته الأسطورية بفضل ضخامته الجسدية وعشقه للأسفار، حيث سيجوب إفريقا الشمالية من تومبوكتو إلى البحر الأحمر راكبا محفّته التي تحملها أربعة بغال ويجرّ إلى جانبه مدفعين. ومولاي العربي هو جدّ الشرفاء الحاليين وأحد أبنائه هو الشريف الأشهر مولاي عبد السلام، صديق فرنسا، والشخصية المنشقة التي تحالفت مع الكفار دون أن تفرّط في منصبها الديني، وقد فعل هذا الشريف كل ما في وسعه ليوائم بين قواعد الزهد والانغماس في الملذات، وانتهى بأن قطع علاقته مع السلطان، واقترن بالإنجليزية ميس كين، ونال شهرة واسعة سواء بفضل خصاله أو بسبب نقائصه، كما أن سياسته وعلاقاته وسلوكه عرّضت للشبهات هيبة ونفوذ الشرفاء الوزانيين، وقد توفي سنة 1892 مخلّفا خمسة أبناء. وكان السلطان مولاي الحسن، عندما عجز عن أن ينتزع منه صفته الدينية وسلطته الروحية، قد سعى إلى تجريده من سلطته الدنيوية وتشتيت أسرته. ولهذا الغرض قام بتعيين مزوار للشرفاء أو "مول الزاوية" وجعله رئيسا للطائفة ومسؤولا عن إدارة ممتلكاتها،كما أحاط نفسه بشرفاء من الطبقة الثانية وجعلهم من مرافقيه في السلم والحرب.