تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. (عن كتاب «مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب»1951 لجورج سبيلمان) تأسيس الزاوية الدرقاوية أواسط القرن الثامن عشر سيؤسس الشريف مولاي العربي الدرقاوي، الذي ينحدر من قبيلة بني زروال، طائفة جديدة سيرتبط بها اسمه هي طائفة درقاوة التي تستمد جذورها من تعاليم الطريقة الصوفية للإمام الشاذلي. ومنذ البداية سوف تصادف هذه الطائفة نجاحا باهرا وتنتشر انتشارا واسعا سواء لدى النخب المدينية أو في أوساط سكان القرى بمن فيهم ذوي الأصول الأمازيغية، بل تتجاوز هذا النطاق لتكتسح الحدود الجزائرية التي كانت خاضعة للحكم العثماني. وقد تحلّقت حشود المريدين حول مقر الزاوية الدرقاوية بمنطقة بوبريح لتتلقّى تعاليم الطائفة وتعمل على نشرها في مختلف المناطق حيث صار للطائفة دورا سياسيا إلى جانب وظيفتها الروحية. وأمام هذا الدور المتعاظم الذي صارت تلعبه الطائفة سيقوم السلطان مولاي سليمان بالاستعانة بخدمات الشريف مولاي العربي الدرقاوي ويغدق عليه الهدايا أملا في استمالته إلى صفّه في نزاعه مع أخيه مولاي مسلمة الذي كان قد أعلن نفسه ملكا سنة 1792 بدعم ومساندة من قبائل جبالة والشرفاء المشيشيين. ومن جملة الأشياء التي تؤكد هذا التعاون الاستراتيجي بين الرجلين أن السلطان مولاي سليمان سيلجأ إليه لمساعدة باي الجزائر على تهدئة مجموعة من القبائل العربية التي انتفضت عليه إثر حادثة مقتل أحد أتباع الطريقة الدرقاوية في المنطقة الواقعة تحت نفوذه. وسيرحل الشريف في إثر ذلك إلى تلمسان، ولكن بدلا من دعم موقف الباي العثماني في نزاعه مع القبائل سيوعز لها بمبايعة سلطانه المولى سليمان والدعوة له من المنابر الشيء الذي سيزيد من تعقيد الوضع الذي لم يكن ينقصه التصعيد بين البلدين خصوصا بصدد واحات فجيج وتوات. على أن هذه العلاقات الوطيدة بين المخزن الشريف والزاوية الدرقاوية سرعان ما ستصير إلى فتور وبرود ثم إلى توتر وتنافر بعد أن أعلن المولى سليمان حربه على الطرقية والتصوف ويهاجم القائمين بيه ويحجّر عليهم. وكردّ فعل على هذا التضييق في ممارسة الاعتقاد سيؤلّب الشريف الدرقاوي القبائل البربرية التي كانت تدين له بالولاء على جيوش السلطان فتُلحق بها هزائم مريرة في بلاد زمّور والأطلس المتوسط خلال العقد الثاني من القرن الثامن عشر، بل إنها ستنجح ذات مرة في أسر السلطان مولاي سليمان نفسه وتعتقله لبضعة أيام. وسيبلغ هذا النزاع أوجه عندما ستتضامن زاوية درقاوة مع الزاوية الوزانية في شخص رئيسها سيدي الحاج العربي الوزاني، وبمساندة أعيان فاس سيجري خلع المولى سليمان وتولية المولى إبراهيم ابن السلطان اليزيد. وهكذا سيؤدي اجتماع كلمة أهل فاس وبرابرة المغرب الأوسط وأتباع الزاويتين الدرقاوية والوزانية المتنفذتين ضد السلطان مولاي سليمان إلى إحراج هذا الأخير وتعريض دولته إلى رياح لم يكن قد حسب لها حسابا..غير أن الظروف سوف تسوق له غريمه الشريف مولاي العربي الدرقاوي عندما سيمسك به أفراد من جيش الأوداية ويسلّمونه للسلطان الذي سيقوم باحتجازه خلال فترة طويلة حيث ظل يمانع في الاستجابة للنداءات المتعددة التي كانت تسعى إلى الإفراج عنه. ولن يتاح إطلاق سراحه أخيرا إلا مع تولية المولى عبد الرحمن الذي سيستجيب لشفاعة زعيمين بربريين من أصدقاء الشريف هما بوبكر امهاوش وبلغازي الزموري، غير أنه سيموت بعد ذلك بقليل سنة 1823 متأثرا بشيخوخته المتقدمة وطول معاناته مع السلطان ويدفن في زاويته ببوبريح بمنطقة بني زروال. طائفة درقاوة (عن كتاب "مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب"1951. لجورج سبيلمان) الزاوية الدرقاوية والمخزن بعد رحيل الشريف المؤسس مولاي العربي الدرقاوي سيؤول أمر قيادة الزاوية إلى ابنه مولاي الطيب الذي سيختلف في شأنه أتباع الطريقة الدرقاوية بين مَن يأخذ عليه فتاء سنّه، ذلك أنه لم يكن حين توليته المنصب قد بلغ سنّ الرشد، ومِن ناعٍ عليه قلة كاريزميته الروحية وانشغاله بالشؤون الدنيوية. غير أن مولاي الطيب سيحافظ على وحدة الدرقاويين، ويواصل العمل لفائدة إشعاع الزاوية، ويراجع علاقته مع المخزن مُحاذرا أن يدخل معه في صراعات لا يجني من ورائها أي طائل. بعد وفاة مولاي الطيب سنة 1870 ودفنه في الزاوية التي بناها هو نفسه سنة 1863 بمنطقة أمجوط من بلاد بني زروال، سيتولى أمر الزاوية الدرقاوية ابنه مولاي عبد الرحمن (1849-1927) ويسير على نفس النهج الذي اختطّه والده والقائم على جملة من المبادئ منها التساهل مع استقلال فروع الطريقة الدرقاوية التي لم يعد يشترط عليها سوى ولائها المبدئي للزاوية الأم، والاحتفاء بأتباعها الذين يتوافدون عليه للتبرك، كما سيحافظ على مسافة آمنة تجاه المخزن حتى أن الجميع لاحظ الفتور الذي استقبل به السلطان الحسن الأول عندما جاء في زيارة لضريح جدّه مولاي العربي الدرقاوي. كما أنه من جهة أخرى لم يقف إلى جانب الثائرين على المخزن مع بداية القرن العشرين مثل بوعزة الهبري والروكي بوحمارة..بل على العكس من ذلك سوف يشارك في قطع الطريق على هذا الأخير في منطقة شفشاون عندما اضطرته القوات الشريفية بقيادة بوشتى البغدادي إلى الانسحاب. كما لم يُعرف عنه دعمه للشرفاء الدرقاويين في نزاعهم مع المخزن أو ممثليه، ولا في مناهضتهم للاستعمار الفرنسي كما حصل عندما قام بعض المقدّمين الدرقاويين بتأليب الناس على الحماية وحثّهم على محاربة النصارى. وفي المقابل سيُسهم في تتبيث الأمن في قبائل ورغة بين 1914 و1924 إلى حين قيام مراكز أمنية على حدود بلاد بني زروال. خلال سنة 1925، وبتأثير من موقفه المناصر للسلطان مولاي يوسف، سيحاول مولاي عبد الرحمن مواجهة تقدّم جيوش عبد الكريم، ولكن معظم القبائل التابعة له ستتخلّى عنه خوفا من بطش الريفيين الذين سيحرقون مقرّه في أمجوط ويحملونه على اللجوء إلى إقامته العائلية المخرّبة تحت حماية الجنود الفرنسيين الذين قاموا بتهدئة أرض بني زروال حيث سيموت سنة 1926 وقد بلغ السابعة والسبعين من العمر. بين 1927 و1938 سيتولى أمر الزاوية ابنه ووريثه سيدي محمد ويسير على نهجه في العيش بسلام داخل حدوده وفي إقامة علاقات جيدة مع المخزن. ومنذ سنة 1938 سيقوم بتسيير زاوية أمجوط، وهي الزاوية الأم لدرقاوة، سيدي بوبكر ولد سيدي محمد، وهو أحد قدماء طلبة القرويين الذي حظي برضى السلطان سيدي محمد بن يوسف. الطوائف الدينية في المغرب بعيون أجنبية (7) حسن بحراوي تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. 2- طائفة درقاوة (عن كتاب "مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب"1951. لجورج سبيلمان) إشعاع الزاوية الدرقاوية لا تكمن أهمية الطائفة الدرقاوية في الزاوية الأم فحسب، بل تتسع وتصير أكثر خطرا في الزوايا الفرعية التي انتشرت في بلاد المغرب بمبادرة من أتباع مولاي العربي الدرقاوي وفي مقدمتهم: - سيدي أحمد البيضاوي الفاسي المعروف بالزويتن، وقد أنشأ الطريقة الدرقاوية البيضاوية. وكان من أوفى أصحاب الشريف الدرقاوي وهو الذي تولاّه بالرعاية خلال فترة سجنه الحرجة، وقد نال مقابل ذلك من سيّده الحق في الاعتمار بعمامة خضراء الذي هو لون عمامة الرسول (ص). وقد قام أحد تلامذته، وهو الشريف العلوي سيدي محمد العربي من أهل مدغرة بإنشاء مدرسة شهيرة بمنطقة واد زيز لتعليم المريدين الطريقة الدرقاوية، وورث عن أستاذه عداءه للمخزن، وبعد وفاته سنة 1894 سيواصل أتباعه نشر المذهب الدرقاوي غير أن موقفهم من الحماية الفرنسية سيراوح بين المهادنة والمواجهة بحسب الظروف وأمزجة مقدّمي الزاوية بالمنطقة. وسيؤسس أتباع هذا الفرع البيضاوي من الزاوية الدرقاوية ملحقات لهم في سوس ومراكش وبزو وأزيلال وصفرو وسلا ومكناس...ويُعرفون بارتدائهم العمامة الخضراء إحياء لذكرى صاحبهم سيدي أحمد البيضاوي. - الطريقة الدرقاوية البوزيدية، وهي فرقة أسسها سيدي محمد بن أحمد البوزيدي من أهل غمارة، وهو أحد أوائل تلامذة الشيخ مولاي العربي الدرقاوي. وقد انتسب إلى مذهبه بعض آل ابن عجيبة من أهل أنجرة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولكن هذه الطريقة فقدت إشعاعها سريعا ولم يعد يشهد على وجودها سوى ضريح منعزل يضم رفات مؤسسها. - الطريقة الدرقاوية الحرّاقية، وهي أهم وأشهر فروع الزاوية أنشأها في تطوان تلميذ مولاي العربي الدرقاوي أبو عبد الله محمد بن محمد الحراق المتوفى سنة 1845 الذي عُرف بنظمه العديد من القصائد الصوفية في تمجيد الطائفة الدرقاوية. وقد انتشر أتباع هذه الطريقة كذلك في فاس والدار البيضاء وجبل الحبيب..وكانت لمقدم الزاوية الحراقية بتطوان علاقات جيدة مع السلطات الإسبانية. - الطريقة الدرقاوية الدباغية، ومَنشؤها بفاس على يد الشريف الإدريسي مولاي عبد الواحد الدباغ الفاسي المتوفى سنة 1854، وهو من أبرز تلامذة مولاي العربي الدرقاوي حسب ليفي بروفانسال، ولها أتباع في فاس والرباط.. - الطريقة الدرقاوية الغمارية، وأسسها في بلاد بني منصور بغمارة سيدي الحاج أحمد بن عبد المومن من تلاميذ مولاي العربي الدرقاوي، ولها أتباع في فاس وطنجة.. - وهناك كذلك الطريقة الدرقاوية الفاسية والزرهونية..دون الحديث عن امتدادات هذه الطائفة في بلاد الجزائر حيث افتتحت زوايا تدين بالولاء لهذه الطريقة في تلمسان وسيدي بلعباس ومستغانم وسعيدة.. الطوائف الدينية في المغرب بعيون أجنبية (8) حسن بحراوي تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. 2- طائفة درقاوة (عن كتاب "مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب"1951. لجورج سبيلمان) المذهب الصوفي للزاوية الدرقاوي سيكون تأثير حركة مولاي العربي الدرقاوي من الناحية الدينية في مستوى نفوذها السياسي الكبير. فهذا الرجل المتميز، ذو المزاج اللطيف، الرحيم بالفقراء وتعساء الحظ، هو كذلك وليّ من الأولياء الصالحين، عميق الإيمان، خالص التصوف. وكان على طريقة أستاذه الفقيه مولاي علي بن عبد الرحمن العمراني الفاسي، المدعو جمال، وكان هذا الأخير يدعو أصحابه إذا هم أرادوا نيل مرضاة الله أن يُكثروا من أعمال الخير، وأن يزهدوا في متاع الدنيا. ويُحكى أن هذا الفقيه قد خصّ تلميذه المفضل مولاي العربي الدرقاوي بجملة من النصائح والوصايا التي يوردها الكومندار رين كالآتي: واجب قهر الشهوات لأداء الواجبات والفرائض، والتشبّه بنبي الله في السير على الدوام متوكئا على عصا، وبسيدنا أبي بكر وعمر بن الخطاب بلباس الخشن من الثياب، وبجعفر بن أبي طالب بإقامة الدعوات رقصا، وبأبي هريرة بحمل مسبحة حول عنقه، وبسيدنا عيسى بالعيش معتزلا في الصحراء..وقد صار درقاوة في معتاد حياتهم يسيرون حفاة الأقدام ويعانون من الجوع، ولا يخالطون سوى الناس الأتقياء. وسيتجنّبون مخالطة الماسكين بالسلطة، ويحذرون الكذب، ويكثرون من السهر والقيام للصلاة وإيتاء الصدقات، ويواظبون على إخبار شيخهم بكل صغيرة وكبيرة تطرأ على فكرهم وأفعالهم، ويخضعون له خضوعا تاما، ويضعون أنفسهم بين يديه "كما الميت بين يدي غسّاله". وبالنظر إلى نوعية هذه الوصايا يبدو صحيحا ما أخذه بعضهم على سيرة مولاي العربي الدرقاوي من أنه خرق تعاليم أستاذه عندما اتجه غلى لعب دور سياسي وإبدائه أفكارا متطلّعة. ويبدو أن الشيخ الدرقاوي لم يكن له خيار في ذلك، فقد عاش في حقبة حرجة كان يستحيل فيها على زعيم ديني متنفذ أن يظل على الحياد أو أن يسير في غير الطريق الذي سار فيه. كما أن موقف المولى سليمان المعادي للزوايا والطوائف الدينية، تحت تأثير أفكاره السلفية، لابد أنه اضطر تلك الطوائف إلى إتيان ردّ فعل معارض كما حصل مع مولاي العربي الدرقاوي أحد كبار قادة تلك الزوايا وأكثرها تأثيرا. وقد مرّ بنا أن الطريقة الدرقاوية تستمد جذورها من مبادئ الإمام أبي الحسن علي بن جبار الشاذلي عبر سلسلة من رواد التصوف الإسلامي تنتهي بالفقيه مولاي علي بن عبد الرحمن العمراني الفاسي المعروف بجمال. وهي تقدم نفسها كطريقة صوفية تجديدية جاءت لترمّم المذهب الشاذلي القديم عن طريق مناهضة الممارسات الجامدة والشكليات الضيقة ونبذ الطقوس الآلية الخالية من الروحانية. ومثلما أخذ عليه بعضهم الانخراط في الصراع السياسي، فقد لامه بقساوة بعض رجال الفقه المتشددين على تساهله بالسماح لأتباعه بممارسة الرقص الطقوسي كوسيلة لبلوغ النشوة الصوفية، وهو الأسلوب الذي يعتبرونه بدعة مكروهة.. غير أن هذه الانتقادات لم تشوّش على نجاح مولاي العربي الدرقاوي، ولم تمنع طريقته من أن تصير الأولى ضمن الطرق المستمدة من التعاليم الشاذلية، وتستقطب حماس الفئات الشعبية والتفاف النخبة المتعلمة. ولم زعيمُ الزاوية أو مقدّمها يفترضان في المنتسب الجديد للطائفة الذي يتقدم لأخذ الورد المرورَ بأية مرحلة اختبار، وإنما كان يجري قبول جميع المسلمين دون تمييز حتى في الجنس، ذلك أنه بوسع المرأة، فتاة أو أرملة أو مطلقة، أن تبلغ مرتبة مقدّمة للزاوية فتقرأ الوِرد وتؤمّ الصلوات وتترأس الاجتماعات العامة..والشرط الوحيد هو ألا يكون المرشح منتسبا إلى زاوية أخرى في نفس الوقت. ويقوم الذكر الدرقاوي على تلاوة الأدعية التالية مرتين في اليوم بعد صلاتي الفجر والمغرب: - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مرة واحدة). - بسم الله الرحمن الرحيم (ثلاث مرات). - اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه (100 مرة). - لا إله إلا الله، له الملك والحمد (...)(100 مرة). وتتكون السّبحة الدرقاوية من مائة حبة ذات شكل موحد، منها كبيرة الحجم ومنها ما هو صغير. ويمكن للحبّات أن تكون من خشب أو صندل أو عنبر أو عظم أو حجر. وكيفما كان حجم السبحة، فإنها تشتمل على ثلاث سلاسل غير متساوية الحبات يفصل بينها "شاهد". وتُستهل السبحة ب"الشاهد الكبير" وهو يتشكل من كويرة على هيئة إجاصة من حوالي خمسة سنتمترات، وتفصل بين الشواهد الصغيرة 33 حبة. وهذه الشواهد الصغيرة تحاكي شكل الشاهد الكبير ولكنها أصغر حجما منه. وتنتهي السبحة بمُلحقين يتضمن كل واحد منهما عشر كويرات ذات حجم أصغر تسمى "العشرة"، ومهمّتها إرشاد التابع إلى تلاوة الأذكار وتجنيبه الخطأ في عدّها خاصة وأنها تتجاوز مئات الآلاف. وقد اعتاد الدرقاوي في الماضي أن يجعل هذه السبحة تحيط بعنقه، ولكن هذه العادة آخذة في التلاشي إذ صار معظمهم يحتفظ بسبحته في جيبه أو جِرابه. كما أن الرقصات الصوفية في الأصل غير واجبة، بيدَ أن الأتباع وهم في غمرة "الحضرة" يجدون أنفسهم مساقين إلى الانخراط فيها بغير شعور منهم. وتقضي الرقصة بالارتفاع على رؤوس الأقدام، وإبقاء الساقين منثنيتين قليلا، والوقوع على الأرض وقوفا على الكعبين..كلّ ذلك والراقصون يرددون اسم الله على إيقاع متسارع ينتهي بقولهم: "الله حيّ"، ثم يتوالى الإيقاع الذي لا نعود نميّز فيه سوى كلمة "حيّ". أما المغنّون والمسمّعون المقرفصون أمام الراقصين فيواصون إنشاد الأذكار الصوفية بانتظام. وخلال مواسم أمجوط وبوبريح التي تقام كل سنة عند نهاية شهر سبتمبر، تزدهر الطقوس الأكثر قوة والتي يحضرها آلاف الحجاج والمتفرجين. الطوائف الدينية في المغرب بعيون أجنبية (9) حسن بحراوي تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. 2- طائفة درقاوة (عن كتاب "مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب"1951. لجورج سبيلمان) تأثير طائفة درقاوة على الحياة السياسية والاجتماعية والدينية طوال قرن من الزمن، بين نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، ستكون طائفة درقاوة هي الأكثر أهمية وتأثير من بين مجموع الطوائف الدينية في المغرب. ويمكن القول دون تحفظ بأن القرن التاسع عشر كان قرن الطائفة الدرقاوية بامتياز كما كان القرن الثامن عشر قرن الزاوية الناصرية. لقد كانت الطائفة الدرقاوي قد شهدت التفاف الطبقات الشعبية والبورجوازية المتوسطة في المدن والأرياف، بما فيها المناطق الأمازيغية. كما أنها لعبت دورا مهما لدى قبائل جبالة وفي بلاد زمور ومنطقة الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي المغربي. ويُذكر أن تمرّد زعيم الزاوية مولاي العربي الدرقاوي وبعض مقدّمي الزاوية على السلطة المركزية قد خدش سمعة هذه الطائفة التي صارت تعتبر تجمّعا للمتطرفين والمتشدّدين المناهضين لكل نظام أو سلطة. وقد كشفت العديد من تقارير المخبرين أن الذي ساهم في تشويش الصورة التي ظهر عليها أعضاء هذه الطائفة أنهم لم يكونوا يعلنون الولاء المألوف للحكام، ويقيمون اجتماعاتهم بكامل السرية في أماكن نائية، ويلبسون أسمالا بالية ويعلقون سبحاتهم المصنوعة من قواقع البحر، ويكثرون من التنقل بين المناطق، مشاة أو على ظهور الدواب، ويعيشون حياة متقشفة غاية في البؤس والدروشة..وجميع هذه الأمور جعلت الناس يعطفون عليهم تستوي في ذلك الطبقات الميسورة والمتواضعة من المدن والبوادي.. غير أن هذه الأوصاف المزرية لا تنطبق على جميع أعضاء الطائفة الذين ظلوا يمارسون حياة عادية، ولا يكشف مظهرهم عن أي غرابة أو استفزاز، وإن كانوا يشتركون مع الأوائل في لزوم السلوك المتحفظ تجاه الماسكين بالسلطة سواء أكانوا عربا أو أتراكا عثمانيين أو مسيحيين.. وفي نبذ جميع مظاهر التشريف والثراء. فخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كانت نظرتهم إلى الأمور الدينية موضع تقدير من الجميع، وكان الأتباع المباشرون لمولاي العربي الدرقاوي يتميّزون بالتفقه في الدين، وكذلك كان تلامذتهم معروفين بنشاطهم الصوفي وانخراطهم في الدعوة مما جعل الكثير من العلماء والفقهاء يتبنّون عقيدتهم الدرقاوية. بل إن السلطان مولاي عبد الرحمن نفسه انتسب إلى طريقتهم، وقريبا منا ارتبط بهم السلطان مولاي يوسف، وفي مستهل القرن العشرين كان من المألوف أن ينخرط في صفوفهم بكثافة ملفتة المتنفذون من رجال المخزن المركزي وقواده وأعوانه... وكل هذا يدفع عن هذه الطائفة تهمة التمرد والعصبية تجاه النظام ورموزه. وإذا ما كان بعض درقاوة في الماضي قد وجدوا أنفسهم مورّطين في أنشطة معادية ضد سلاطين المغرب أو ضد الفرنسيين، فإن ذلك لا ينبغي أن يُنسينا بأن كثيرا منهم كانوا معروفين بولائهم التام للمخزن، بل إن بعضا منهم أدّوا ثمن ذلك من ثرواتهم بل من أرواحهم. وكل ذلك يحملنا على الاعتقاد بأن طائفة درقاوة، وبخاصة زاويتها المركزية في أمجوط، ظلت سيرتها خالية من كل خدش مما يُسقط عنها اتّهامها بالمعاداة المنهجية للسلطة والنظام. ويعتقد الباحثون أن أواسط القرن العشرين قد شهدت تراجع إشعاع الطائفة الدرقاوية، بشكل محسوس في أوساط الطبقات الحاكمة، وعلى نحو تدريجي لدى عامة الشعب، رغم استمرار وجود أعداد غفيرة من التابعين المخلصين لروح الطريقة. وربما كان من أسباب ذلك انعدام زعماء كبار قادرين على ضمان إشعاع هذه الطائفة، ومواصلة احتلالها المركز الأول ضمن الطوائف الدينية بالمغرب. 1