كان جون جاك روسو، قد طرح سؤالا ملغزا وذكيا، في كتابه المثير «خطاب حول أصل وأسس التفاوت بين البشر»، الصادر سنة 1755، والذي اعتبر من قبل الكثير من دارسي أطروحة هذا المفكر السويسري، مقدمة لكتابه الأشهر «العقد الإجتماعي» الذي صدر سبع سنوات بعد ذلك،، أقول طرح سؤالا يقول فيه: ماذا لو قيض لي أن أختار موطن ولادتي؟. مجيبا، بلا تردد، أنه سيختار بيقين مجتمعا (لم يقل دولة) لا تحد أفق نظره غير الخصائص الإنسانية. تلك التي توفر تدبيرا جيدا للشأن العمومي، حيث قيمة الفرد كامنة في ما ينجزه من عمل (دور) ضمن الجماعة، دون أن يلزم أي أحد للقيام بدوره بدلا عنه. وبالنسبة له، فإن دولة يجمع ما بين ناسها، ما أسماه، سبيل فضح التلاعب ومكائد الرذائل، يجعل العلاقة بين أفرادها تحدد حب الوطن في حب المواطنين لبعضهم البعض، أكثر من حبهم للأرض التي تجمعهم فوق أديمها. هذا معناه أن المواطنة عنده كامنة في نوع العلاقة التي تجمع الفرد بمواطنيه وليس في نوع العلاقة التي تجمعه بالأرض التي يمارس فيها أسباب الحياة. بتدقيق أكبر، إن المواطنة عند روسو، هنا ليست تملكية، بل تواصلية. أعتقد، أن فكرة روسو، القادمة إلينا من أواسط القرن 18، لا تزال ذات راهنية عندنا كأفراد عرب مسلمين. لأنها تفتح أمامنا باب السؤال عن معنى الإنتماء، هل هو الإنتماء إلى الجماعة أم الإنتماء إلى الأرض. وربما يمكن لكل واحد منا، أن يمارس ترف ذات السؤال الذي طرحه روسو، لنتساءل: في أي موطن نتمنى لو ولدنا فيه؟. كثيرون منا سيقولون، خارج بلاد العرب. لكن السؤال هنا: هل المقصود الأرض أم البشر؟. أي هل عدم الولادة في أرض العرب أم عدم الميلاد بين العرب؟. مرة أخرى سيقول الكثيرون البشر وليس الأرض. إن تأمل هذه الثقافة السلوكية، هو بعض من الجواب، في ما أتصور، لفهم مكمن كل العطب المعطل لفكرة الدولة في دنيا العرب والمسلمين. التي لا تزال فكرة تتأسس على العصبية، بذات الشكل الذي حلله بعمق ابن خلدون، ولا تلتفت لسؤال حتمية تنظيم المصلحة بين الأفراد، بمنطق التعايش والتكامل كما طرحه أيضا في ذات الزمن تقريبا المقريزي في كتابيه العلميين، الإقتصاديين القيمين: «إغاثة الأمة بكشف الغمة» الخاص بدراسة أسباب المجاعة وأزمة السوق، و «شذور العقود في ذكر النقود» الذي هو أطروحة لدراسة قيمة المال في حياة البشر. لأنه، ما قيمة الأرض، إذا كان العيش فيها بالنسبة للفرد جحيما بسبب سوء العلاقة بينه وبين باقي أشباهه من مواطني بلده. فالسجن والضيق لا يكون من الأرض، بل من شكل العلاقة غير السلسة وغير المنظمة مع البشر، أي مع الآخر الشبيه. أليس الآخر هو أنا كما تقول الحكمة الفلسفية الخالدة. أي أناي الأخرى التي تمارس حق الحياة، كما أرتضيه لذاتي كإنسان. هنا العصبية تكون بالسلوك، وليس بالإستبداد بالطائفة أو القبيلة أو الدم. وأن أمان الإنتماء يصبح للشرط الإنساني، وليس للإصطفاف المتأسس على العنف، كيفما كان ذلك العنف ماديا أو رمزيا. إن المقصود، هو أن الجماعة الأكبر، ليست سوى جماعة المواطنة، التي هي أعلى من سقف جماعة الدم أو العصبة أو القبيلة. إنها قيم المدنية المتجاوزة لقيم المجتمعات الفلاحية، المتملكة للأرض، الخائفة من مجهول الآخرين. والوصول إلى هذه الخطوة، في حركة الجماعات البشرية بالتاريخ، هي التي تجعل معنى التقدم متحققا أو غير متحقق. وهنا، بدون أي تجن معرفي، يكمن عطب التحول العربي والإسلامي، منذ 4 قرون. أنه لم يبدع بعد فطنة الإنتقال من علاقة الفرد بالأرض إلى شساعة علاقة الفرد بالإنسان. في الأولى تسود سلطة المكان وفي الثانية تنتصر سلطة الزمن. في الأولى تمة انحصار للرؤية والفضاء، وفي الثانية يتجلى معنى الديمومة. الأساسي في المعادلة، كما نبهنا ربما روسو، أن الحكمة كامنة ليس في الأرض، بل في الإنسان وما ينجزه فوق الأرض، مع ذاته ومع أشباهه ومع الوجود.