«عندما تتكلم الإرادة تصمت الطبيعة» ج ج روسو «البؤس هو الأقوى ربما من كل الروابط» بالزاك الريع في «لسان العرب» يعني الرجوع والعودة، كما يعني «المكان المرتفع»و»الجبل» و»السبيل» و»الطريق»، والرجوع هنا من عدم التلف، فالماء إن عاد كان خيرا وإن دلق وساح كان خسرانا. الريع إذا هو ما يدور وينكفئ ليربو، لأن الشيء إذا ذهب وجاء زاد ونما وأصبح رائعا، و»الفرس الرائع جواد» والريعان هو «أول الشيء وأفضله»، ومن هنا دلالة الميز والفضل، والقوة استطرادا ومحايثة. أما الريع عند الاقتصاديين، فهو ذلك الربح الإضافي الذي يستفيد منه منتج لنقص في تكلفة إنتاج منتوج مقارنة مع منتج آخر لنفس المنتوج. بكل ذلك، لا يمكن ذكر الريع دون ذكر الغلبة والصراع. لأن كل ريع يهب صاحبه امتيازا يسيطر به من أجل تنفيذ الريعية والمحافظة عليها واستدامتها. هو إذا نوع من السلطة منذ انبثاقه وتصريفه فعلا اجتماعيا ومؤسسات و آليات اشتغال وحقيقة، إذ مهما تبدت الحقيقة محايدة و ملائمة الفكر للواقع. فهي من جهة إكراه ومن جهة أخرى حاجة إلى إكراه. ومن هنا العمق السوسيولوجي لكل أشكال الريع الضارة والمفيدة على أساس البحث في الحقائق الاجتماعية النسبية وليس البحث في الحقيقة الميتافيزيقية. الريع إذا، وكما يبدو للوهلة الأولى، إضافة قيمة وزيادة فضل كنوع من «حالة الطبيعة» مثل الأرض الخصبة مقارنة مع الجدبة ، أو حالة مجاورة الطريق أو التواجد قرب عين ماء أو ميناء، وغيره من المعطى الذي لم يبذل فيه مجهود تحويلي. وبذلك يسهل تغليفه بمسحة سماوية تفسيرية أو تبريرية، تفسيرية في حال البراءة وتبريرية في حال الخديعة والنصب أو الدجل في أحسن الأحوال. ومن هنا الغموض الذي يكتنف السلع بتعبير ماركس، غموض ازدواجية وتداخل القيمة الاستعمالية كحالة ملائمة مع التبادلية كحالة تنتج شجونا تسكنها الأشباح... لن أدخل في التفاصيل الاقتصادية للمفهوم، لأن الأمر يتجاوزني أهلية، لكن سأحاول أن أقتبسه لاستثماره، كريع ثقافي ماكر، في حقول أخرى مثل الجسد والثقافة والطقس والمرأة والسياسة والاستبداد. وذلك كمحاولة فهم بعض التفسيرات العميقة لحالة وضع بعض البشر فوق بعض، ووضع الرجل فوق المرأة ووضع السيد فوق العبد. ليس هناك مجال استثمر ريعيا مثلما استثمر المجال الجسدي، قوة البدن وسرعة الأعضاء وخفتها لدى الرجال، وجمال الوجه وملاحة القوام لدى المرأة، بل ويمكن الحديث عن الفطنة كهبة سماوية فطرية يتميز بها بعض المحظوظين... بالقوة البدنية وسرعة الأعضاء يمكن تفسير النبالة الحربية وبالجمال تخترق المرأة الأوضاع الاجتماعية، وبالفطنة يستغل البعض البعض ويتخذه سخرية. هل هذه هي حالة الطبيعة التي تحدث عنها جان جاك روسو والتي يجب أن تعقبها حالة التعاقد؟ لنفحص الأمور عن قرب: لنعد إلى المرأة وحالة الطبيعة. ما الذي يتميز به جسد الرجل حتى سهل له أن يستعبد المرأة ومازال في بعض البقاع؟ عند الفحص الأولي للجسدين، دون الدخول في التفاصيل الكيماوية، يتميز الرجل بعدم الإنجاب، وهي ميزة سالبة، إن أمكن أن نقول ذلك، لأن الفحص المنطقي يعطي هنا الميزة للمرأة وليس للرجل. غير أن الاستنتاج ذاك لا يمكن القيام به في حالة الطبيعة، إذ يحاجج الرجل بكون الإنجاب عالة على المرأة وعلى العشيرة، ببقائها في الكوخ عندما يخرج الرجال للصيد أوالحرب، فهي تقدم خضوعها إذا مقابل ما لا تقوم به لفائدة العشيرة. _والذكور الذين تلدهم وتساهم بهم كسواعد ودروع؟ ينسى الأمر بسرعة، ولعل المرأة أول من ينسى، وربما وجدت لذة ما في الخضوع الطوعي والمنافع المصاحبة له، لعل أهمها الحماية لتبقى في المنزل تنجب وترعى الأبناء، وهي كلها أدوار نبيلة في الحكم المطلق، لكن فاعل ما خفي أحال النبل إلى هشاشة وذريعة استعباد. هذا الفاعل الخفي هو حالة التوحش التي تعطي للآنية قيمة على الصيرورة ولرد الفعل الغاضب قيمة على التروي والاستشراف. لفهم الريع إذا لابد من إضافة النسيان والخضوع الطوعي، إذ لا يكون الريع ريعا إلا إذا قبل على أنه كذلك بعدم مناقشته أصلا، وهذا ما يسمى في لغة اليوم غياب الوعي والاستلاب «ليس الذي يحبك الدسيسة هو المخطئ، ولكن من تنطلي عليه» تقول الحكمة الشعبية. بكل ما سبق نثبت أن الريع ليس معطى طبيعيا رغم تمظهره كذلك، إنه صناعة اجتماعية خاضعة للرهانات والأحداث والتوافقات والصدف حتى. إذ يمكن لموقع ضعف أن يصبح منطلق قوة كما يمكن لموقع قوة أن يكون علة هوان. البحث التنموي والعلمي يغطيان تكاليف المسافات والنقص في الطاقة ليبيع البعيد عن الميناء بأثمان أقل من ساكن الميناء حتى. _ «لماذا لا تزغردن أنتن النساء عندما تولد لإحداكن أنثى؟» _ «ليس لكرهها أو كره أنفسنا، بل لشعورنا ووعينا بسوء المآل.» _»ولماذا أصبح بعضكن يزغرد؟» _ «هناك شيء جديد يهب الأنثى المساواة وربما التفوق، إنه المدرسة.» لنرجع إلى الجسد وهو المسكن الأول والملك الأول، حيث دار الانتماء وموطن الشخص. إن جميع أشكال التنشئة والتربية تميل إلى ضبط الأنثى وتقييد جسدها خوفا من العار، ففي الوقت الذي يدلل فيه الطفل الذكر ويطلق عنانه، تنشأ الأنثى لتحافظ عن عرضها وبكارتها، والتي تعلم سرا أنه ملك سريع العطب يوهب للزوج مرة في العمر، وتفقد بذلك كنزها إلى الأبد. تنشئة مختلة تصنع رجال غد بدون حس مسؤولية واحتقار للجد والعمل( جرمان تيليون) من جهة، وأنثى مصدومة في ثنايا روحها تعيش حياة مزيفة تهبها للزوج والأبناء مقابل أمومة مقدسة، لكنها أمومة لا تساعد على التفتح بأي حال. مفاهيم اخرى إذا ربيبة للريع، قدرة الإنجاب كقيمة مضافة تصبح مصدر إزعاج شديد إن كان الفعل نفسه خارج مؤسسة مقدسة هي الأسرة، وبكارة تحمل كل رموز الامتثال والتربية المثالية. من أين يأتي العار؟ هذا هو السؤال المركزي؟ من أين يأتي ذلك» الثقل أو الحمل المعنوي يرمى به على شخص أو جماعة من الأشخاص ولا يمكن التخلص من ذلك الثقل أو الحمل إلا بالاستجابة للطلب المرافق للعار» بتعبير ديل إيكلمان. هذاهو المعنى الأول، وهو إما عار كبير في حال القتل أو صغير في حال انكسار موثق. إنه بنية فوقية نافعة رمزا، وذكاء عملي في الخضوع تشريعيا للامتثال لقوانين وأعراف الانتماء. و ذلك كله في حالة مجتمعات قبل الدولة، حيث تنتظم الجماعة من تلقاء نفسها وتسن تنظيماتها وأوفاقها وتعمل على تنفيذها وفق إدامة الحال والبحث عن التوازن وقيمة ليس هناك أفضل مما هو كائن. المعنى الثاني للعار هو»لعنة مشروطة بعقوبات أو انتقام القوى الغيبية» بتعبير وسترمارك، ومن هنا التلبس بالدنس والإبعاد الرمزي أو المادي حتى عن الجماعة، إنه نوع من القتل، وهذا هو الذي يفسر الوأد، وأد فلذة الكبد أهون من وأد العشيرة كلها في عملية عددية دفاعية عن الوجود الحيواني. يؤدي هذا إلى معنى ثالث يضفي الثقافة عن الحيوانية ويغلفها هو الشرف والعرض وكل ما يتبع ذلك أو يسبقه حتى من الثأر وجرائم الشرف. العار إذا ثقل ولعنة، ودفاع حيواني وإن تبدى ثقافيا، عن العرض. هو البنية الفوقية لنمط عيش بالكاد خرج من المعطى الوجودي الغفل، وهو وإن ليس بدائيا فهو بالكاد تغيير طفيف وخشن للمواد الأولية وللذات وللآخرين. إنها ثقافة لكنها كالطبيعة، تعمل وفق الدفاع عن النفس البدنية وليس النفس الواعية الراقية المرهفة المرفهة المسؤولة. الأصل إذا صراع بقاء جسدي دمغرافي، وبذلك يوشم الصراع في الجسد مرة أخرى، في البكارة والحمل خارج مؤسسة الزواج والطفل المتخلى عنه، وبعد ذلك في الزي وتصفيف الشعر وغطاء الرأس، ثم في الأسرة. وبعدها في العلاقات الاجتماعية وتصور مشروع المجتمع برمته. في الأقبية والطوابق السفلية المنسية طوعا وكرها توجد كل الآلام الجسدية، الجنسية منها على الخصوص، بعد ذلك تتردد طوابق المعاناة في هندسة المظهر لتتوج في انتظامات القربى البتريالية لتنتهي بالوصاية السياسية والاستبداد. لفهم ما جرى وما يجري لا بد من التوصيف الملائم لحال مجتمع يراوح نفسه في العتاقة والبلى، مجتمع لم يستطع بعد أن يضع مسافة وعي كافية بين الفرد الحر المسؤول والطبيعة المعيقة فاقة وبؤسا وأسرا. الريع إذا ليس تحايلا على الفائدة من موقع اجتماعي رمزي يسرق التراب أو الرمال أو أي خيرات فحسب. الريع أيضا سرقة العقل بالاستغفال وسرقة المواطنة بالوصاية والاستعمال، ثم سرقة المعتقد باسم العلم والقدرة على تنضيد الكلمات والأقوال والحجاج بالكتب وليس بالعقول و بالرجال. قد ينعت هذا القول بمعيارية تريد جر الحال نحو مآل مرجو، نعم هي كذلك بوضع قيم الذات أمام قيم ذوات سبقتنا وانعتقت بالعلم والمعرفة والتواضع والكشف عن الجراح أي جراح. هي معيارية إذا مبررة بالمسؤولية والوجدان حتى. ليس بالصراع وحده تتشكل الجماعات والمجتمعات، وجه آخر للعملة ضروري أن يذكر به في عالم الثقافات، وجه التعاون والأخذ باليد كريع آخر يربو هو أيضا مثل ما تربو المزروعات بالعناية، أولا كضرورة انسانية وثانيا ككمال بتبادل المنافع لحمل ثقل الوجود، تكامل الشيخ مع الشاب والمرأة مع الرجل، والدولة مع المواطن. غير أن الأمر ليس بالبساطة التي نظن، لأن الريعان متداخلان وأحيانا مكملان. إن مناقشة ريع الخير وريع الشر ليس أمرا نظريا بقدر ما هو أمر مناضلة عملية، لكن للنظر دوما أدوار التنوير والتحفيز والتحريض نحو التحسين المستمر للحقيقة وفق ثنائية حالة الطبيعة وحالة المدنية.