يكتسب كتاب «في نظرية الإصلاح الثقافي، مدخل لدراسة عوامل الانحطاط وبواعث النهضة» للأستاذ محمد يتيم، أهمية خاصة، لتزامن صدوره مع سياق عربي جد دينامي، فالعالم العربي عرف أول ثورة سلمية حضارية، أطاحت بأعتى الأنظمة الاستبدادية ، وقد دشن العالم العربي بذلك مرحلة فارقة في تاريخه، تمثلت على الخصوص، في تدبير الانتقال من الأنظمة التسلطية والديكتاتورية إلى أنظمة ديمقراطية تحقق العدالة والكرامة للمواطن العربي. ولاشك أن هذا الانتقال، يتطلب بلورة رؤية ناضجة لمداخل الإصلاح الممكن، فبناء الأسس الديمقراطية لشكل الدولة الحديث، يعد منطلقا حيويا لإعادة الاعتبار للمواطن وللحياة السياسية في الوطن العربي. ولهذا فقد شكلت مرحلة ما بعد الربيع العربي، مرحلة إنتاج الدساتير، وإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وبالجملة إعادة خلخلة البناء السياسي لمجموعة هذه الدول، في أفق بناء دولة حديثة تشكل إطارا لبلورة مشاريع مجتمعية للنهوض بأوضاعها. وقد وقع تحول في الرؤية الموجهة للمفكرين والزعماء والقادة، فبعدما انشغل جزء من هؤلاء المفكرين والمثقفين بتفسير ما جرى، منتجين مجموعة من الأطروحات والتصورات التي حاولت تقديم جوانب من التحليل، فإن المرحلة التي أعقبت الربيع العربي، حتمت على هذا العقل أن ينتج خطابا فكريا وتصورات علمية حول منظور الدولة الحديثة، وإشكالية البناء الديمقراطي، وعلاقة النخب الجديدة بالمجتمع، خصوصا مع تولي جزء من الحركات الإسلامية للسلطة، وهذا ما يحتم الدخول في عدة نقاشات فكرية وعلمية وسياسية وإصلاحية ومجتمعية، لتدبير علاقات السلطة في المجتمعات العربية، وكذا مداخل الإصلاح الممكنة. في هذا السياق، يندرج كتاب محمد يتيم، الذي يناقش مسألة الإصلاح من منظور ثقافي ، وهو ينخرط في هذا الحراك الفكري، الذي تتداخل فيه جدلية السياسي والثقافي، أيهما يمكن المراهنة عليه في بناء مستقبل الدولة العربية الحديثة. والكتاب الذي نقدم له، مرتبط أساسا باستئناف الإجابة عن سؤال النهضة، القديم الجديد: كيف ننهض وما هي المداخل الممكنة لتحقيق التنمية السياسية، ومن ثم النهوض الحضاري. لا يتوقف الكاتب عند حد ترجيح الخيار الإصلاحي من المدخل الثقافي، لكنه يطرح رؤية إصلاحية ذات مكونات متداخلة، تنطلق في عمقها من تثوير الثقافة كبعد حيوي لتحقيق التنمية المنشودة. يوضح الكاتب في مقدمة كتابه الزاوية التي اختار أن يعالج موضوع النهضة في ضوئها فيقول:» فإن من بين أهم المداخل لإحداث النهضة والإصلاح إذن مدخل الثقافة، فالنهضة الثقافية اليوم من أهم المداخل وآكدها في تقريب المسافة بيننا وبين النهضة الشاملة» تتجلى قيمة هذا المؤلف، في طبيعة مقاربته للموضوع، حيث أنه لا يقتصر على مرحلة تشخيص الأعطاب الثقافية التي تعتمل في جسم الأمة(القسم الأول )، لكنه يتقدم بمداخل للإصلاح تقوم على خبرة نظرية وتطبيقية، على اعتبار أن المؤلف يشكل ما يمكن تسميته ب»المثقف العضوي» الذي انخرط في العمل الدعوي والإصلاحي داخل حركة دعوية إسلامية منذ ما يزيد عن أربعة عقود(القسم الثاتي). في تحديد مفهوم الثقافة ينطلق محمد يتيم من تحديد إجرائي لمفهوم الثقافة ينسجم مع أطروحته التي يدافع عنها، من خلال استلهامه لتعريفين، الأول للفيلسوف «ميشيل توامسيلليو» الذي يعتبر أن «الثقافة هي ببساطة الموطن الملائم للتطور الفردي الذي ينفرد به ويعتبر نمطا مميزا له» إن هذا التعريف، على الرغم من محدودية تداوله في الأوساط الأكاديمية، فإنه يشكل بالنسبة للمؤلف نموذجا تفسيريا، يمكنه من تحليل الواقع الثقافي في الوطن العربي، وأيضا من تلمس مداخل الإصلاح.أما التعريف الثاني الذي استند إليه، فهو تعريف «مالك بن نبي» في كتابه «مشكلة الثقافة» الذي يعتبر فيه الثقافة « مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه». ويرى محمد يتيم أنه لا يمكن فهم هذين التعريفين في شموليتهما ، إلا إذا ستحضرنا السياقات المحايثة لتفسير السلوك الاجتماعي، فالنظر للإشكالية الثقافية يقتضي النظر إليها من «زاوية تاريخية تكوينية»، أي من حيث محاولة فهم ماهيتها وطريقة تكونها» ومن جهة أخرى فالثقافة تعد «منهجا للتحقيق» ويقصد بذلك المؤلف، «أن الثقافة تعتبر برنامجا تربويا لإعادة صياغة أسلوب الشخص في الحياة». ويوضح محمد يتيم البعد الثالث في هذا التعريف، بالإشارة إلى علاقة الثقافة بالواقع الاجتماعي، فالثقافة بهذا الاعتبار، تشكل واقعا اجتماعيا «لاشعوريا» لا تخص طبقة دون غيرها، فهي تشمل الأمي كما تشمل المتعلم، كما أنها تطبع استجابات الأفراد وسلوكاتهم إزاء مشكلات الحياة رغم تباين مستوياتهم العلمية والاجتماعية واختلاف انتماءاتهم الإيديولوجية». من خلال هذه الوقفة التعريفية، يتيبن أن الإشكالية الثقافية إشكالية مركبة ومتعددة الأبعاد، فلا يكفي لتفكيك مكوناتها، وفهم آليات اشتغالها، ولا طريقة تأثيرها على الأفراد أو الجماعات، النظر إليها من زاوية ضيقة، فالمكون الثقافي يستدعي تعميق النظر في الترسبات التاريخية التي يستبطنها الفرد والجماعة، وأيضا تجاوز الظاهر منها إلى ما هو باطن، أي الخلفيات والجذور اللاواعية التي تعتمل في «العقل الباطن». وقد ساعد هذا التحديد الكاتب على فهم وتفسير الظاهرة الثقافية في أبعادها الشمولية، بل أكثر من ذلك عندما طرح نموذجا للإصلاح يشكل رؤية نهضوية للخروج من حالة التخلف والتردي التي تعاني منها الأمة الإسلامية والوطن العربي جزء منها. أولا: واقع الوضع الثقافي بالمنطقة العربية: آليات التشخيص ومكامن النقد 1) في تحديد الإشكالية: لاشك أن أي متفحص للواقع الحضاري للأمة الإسلامية، يلحظ أن الآمة لازالت تعاني من عدة أعطاب فكرية ومنهجية وثقافية واجتماعية وسلوكية، وأن فشل مشاريع التنمية إنما يعود بالأساس إلى فقدان الأمة لمشروع مجتمعي تلتحم فيه كل المكونات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل أهم، المكون الثقافي لما له من أهمية في تجسير الفجوة بين الإصلاح السياسي والإصلاح المجتمعي. ولا يمكن الانطلاق في بلورة تصور معين للمكون الثقافي دونما الوقوف عند أهم المفارقات التي تعتمل في هذا الحقل، وهذا بالفعل ما سعى إليه الكتاب من خلال تحليله، بل تفكيكه لمكونات هذا المشهد الثقافي، ومحاولة تفسير أسباب الأعطاب، والتي ليست وليدة اللحظة الحالية، بل إنها تعود إلى تراكم تاريخي ممتد، وإلى عوامل شتى. وفي هذا الصدد يعلن المؤلف أن « الأمر يتعلق بأزمة ثقافية بالمعنى العميق لمفهوم الثقافة، أي بأزمة سلوك جمعي، وأزمة أسلوب عام مشترك في الاستجابات للمواقف التي تعرض لنا، يتميز بشموليته واختراقه لمختلف فئات المجتمع، ويزداد استعصاؤه يوما بعد يوم على الإصلاح، ويعقد أكثر فأكثر مهام الإصلاح على الواجهات السياسية والاجتماعية والقانونية وغيرها». وقد حدد الكاتب أعطاب الثقافة في ثلاثة دوائر، «فالأعطاب الثقافية التي تعاني منها شخصيتنا الحماعية مركبة ومتداخلة، هي أعطاب فكرية ومنهجية، وهي أعطاب وجدانية جماعية، وهي أعطاب سلوكية جماعية». ولعل هذه الأعطاب التي توقف عندها المؤلف، إنما تظهر في عملية الاستجابة لمجموع المواقف والسلوكات، سواء منها الفردية أو الجماعية، والتي تتجلى في ممكنات الحراك المجتمعي وهل يمكن تحقيق التغيير المطلوب أم أنه يتعثر باستمرار، ولهذا فإن «إن أي إصلاح سياسي لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم يتأسس ويصاحب بإصلاح ثقافي تحتي عميق ومتواصل. فقد يحدث أن يقع تغيير سياسي في طبيعة الدولة، وفي القيم السياسية التي تقوم عليها فوقيا، فالعديد من دول العالم العربي، بعد الثورة دخلت في مسلسل البناء الديمقراطي، بما يعنيه ذلك من إقامة دساتير وقوانين وتشريعات تحقق العدالة الاجتماعية وتشير الحرية والكرامة بين الناس، لكنها تصطدم كما يؤكد ذلك محمد يتيم «بنوعين من المقاومة، الأول: مقاومة أصحاب النفوذ والمصالح الذين جاء المشروع السياسي الجديد لتجريدهم من امتيازاتهم ومصالحهم. والثاني: المقاومة الثقافية التي يكون منطلقها المجتمع ذاته والناشئة عن سبب رئيسي وهو كون القيم الثقافية لا تساير في الغالب وبنفس السرعة والوتيرة التغيرات والتحولات السياسية الفوقية» ولهذا فليس من المستغرب أن نجد فجوات تفصل بين التغيير في القوانين والتشريعات والنظم والدساتير، وبين التغيير في العقليات والسلوكيات سواء منها الفردية، أو حتى الجماعية، كما يقع بالنسبة لعدم مسايرة بعض الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني لوثيرة التغيير السريعة والمتطورة، مما يطرح عدة تحديات في تنزيل مقتضيات هذه القوانين والتشريعات والدساتير. 2) الوضع الثقافي: مظاهر الأزمة ومداخل النقد. كثيرة هي المقاربات التشخيصية التي اعتمدت في تشريح الواقع الثقافي العربي، لكنها اتجهت إما نحو التنظير الفلسفي العالم، أو أنها تجاهلت تفاصيل الوضع الثقافي، وخصوصا ما يرتبط بمنظومة القيم الحاكمة للسلوك الفردي والجماعي. وقد طور الأستاذ محمد يتيم رؤية تفسيرية لضبط هذه القيم الثقافية الرائجة في الوطن العربي، وذلك عندما يركز على مجموعة من الظواهر «كغياب المبادرة والانتظارية والخرافية والنزعة التبريرية وضعف الفاعلية والوساطة والاعتماد والانقسامية وضعف ثقافة التضامن والنزعة التفكيكية وضعف التفكير ألسنني وضعف الفكر العملي وضعف التخصص والإتقان والمشيخة والقابلية للاختراق والتطبيع وضعف ثقافة المقاومة» وهذه الظواهر تشكل عامل كبح لقيام نهضة في الوطن العربي، ولعل تفسيرها لا يقتصر على «الوضع السياسي أو الاقتصادي فحسب، ولا في المستوى المعرفي، إذ قد نجد من مشموليها نخبا من المثقفين، كما لا يمكن تفسيرها فقط بغياب القوانين أو التشريعات، حيث لا يجدي في معالجتها القانون وحده، ولا بضعف الوازع الديني، فقد نجد من ضحاياها ناسا متدينين ورعين، بل قد يكون فهم الدين نفسه وتطبيق القانون عرضة للتحويل أو التحريف الثقافي، ومن هنا خطورة المسألة الثقافية وطابعها المعقد». إن هذه الرؤية التركيبية التي يفصح عنها المؤلف، إنما تعيد تفكيرنا في مجموعة من المسلمات والقوالب الجاهزة التي تحكم قناعات بعض المحللين، عندما يعتبرون أن العامل الديني يمكنه أن ينهض كمقوم في تحقيق التنمية والنهضة، متناسين أن البنيات العميقة التي ترسبت في سنوات يصعب عليها إحداث تغييرات جوهرية ولو كانت تمتح من العامل الديني. انطلاقا من هذه المقدمات، ينطلق الكاتب في شرح وتفسير الأسباب الكامنة التي كانت وراء انفصام نظام المعرفة عن نظام الثقافة في المجتمع الإسلامي، ويمكن اعتبار هذه المقاربة تجديدية في النبش في واحدة من أعطابنا المنهجية. 3) انفصام نظام المعرفة ونظام الثقافة في المجتمع الإسلامي. يحدد محمد يتيم في هذا الفصل الأسباب العميقة التي أدت إلى حدوث أزمة الثقافة في العالم العربي والإسلامي، وذلك عندما يتحدث عن انفصام نظام المعرفة، ويقصد به الوحي، ونظام الثقافة في المجتمع، وينتقد يتيم مجمل التفسيرات التي اعتملت في العالم العربي، بكونها بقيت قاصرة عن أن تقدم رؤية للإصلاح الثقافي، وفي هذا الصدد يورد كنماذج المشروع النقدي الذي اشتغل عليه «برهان غليون» أو «الجابري» ولهذا فتحديث العقل كما طرح هؤلاء المفكرون لم يؤد إلى تحديث الثقافة، وذلك نظرا لوجود غربة بين النخبة المثقفة والمجتمع، بل إن محمد يتيم، يوجه نقده حتى لبعض المراكز ذات التوجه الإسلامي، كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، فالبرغم من انخراطه في ما يطلق عليه «إسلامية المعرفة» لكنه لم يتحول فعليا إلى مساهم في «قضية التفعيل الاجتماعي للمعرفة الإسلامية» وبشكل خاص للمسألة الثقافية. وللوقوف عند الأسباب الكامنة وراء تعطل نظام الثقافة، فإن الكاتب يعزو ذلك إلى الانفصام الذي حدث بين: القيم المعرفية ونظام الثقافة قائلا:» يمكن القول إن العلاقة بين نظام القيم المعرفية (في هذه الحالة الحقائق التي جاء بها الوحي) ونظام القيم الثقافية السلوكية في الصدر الأول كانت علاقة صياغة. وبالابتعاد التدريجي عن ذلك العصر، ضعفت نسبيا وتدريجيا تلك القدرة على الصياغة من جهة نظام القيم المعرفية في اتجاه نظام القيم الثقافية، إذ دخلت على الخط أنظمة معرفية أخرى من جهة، ومن جهة ثانية انبعثت قيم ثقافية سابقة على مرحلة النبوة، وأصبحت تشاغب على عملية الصيغة القرآنية لنظام الثقافة، بل أصبحت نصوص القرآن والسنة تقرأ وتؤول انطلاقا من نظام الثقافة، إلى درجة كادت فيها قيم الوحي أن تفقد فاعليتها الاجتماعي». ولعل نجاح بعض التجارب الإصلاحية في العالم العربي، إنما يعود لإدراكها لطبيعة العلاقة بين نظام المعرفة ونظام الثقافة، وأيضا لتحويل النظام الثاني ليكون متماشيا مع النظام الأول، بمعنى آخر تحويل القيم المعرفية إلى قيم ثقافية تتجسد في نماذج تطبيقية. ويؤكد الكاتب يفي هذا الصدد على أن : « التاريخ يشهد أن الحركات والدعوات التي كتب لها النجاح، واستطاعت أن تترك بصمات خالدة في صفحات التاريخ: هي الحركات التي استطاعت نقل الأفكار التي بشرت بها من مجال العقل والمعرفة إلى مجال الثقافة، أي من مستوى التمثل النظري والاقتناع العقلي والتبني المعرفي إلى مستوى التمثل السلوكي والتشرب الوجداني والتشبع العاطفي» 4) في الحاجة إلى النقد الثقافي. بالنظر لثقل الإرث الثقافي واشتغاله على المخيال والوجدان البشري، فإن إعمال آلية النقد تعد أساسية، فكثيرة هي القيم الثقافية التي تتحكم فينا ولا نعرف سبيلا لمواجهتها، ولهذا فإن الكاتب يعلن أن مسألة النقد تعد مقدمة منهجية للكشف عن هذه القيم الثقافية.»تهدف آلية النقد، إلى تفعيل اشتغال ملكة النظر وآلة العقل حتى نتمكن من أخذ مسافة مع التجربة الاجتماعية والثقافية السابقة، والتمييز فيها بين ما يصلح للاصطحاب والمحافظة، وبين ما لا يصلح سوى للتجاوز والإلغاء من القيم وأنواع السلوك والاستجابات الاجتماعية المعطلة، فآلية النقد الثقافي تتوجه إلى نقد التقليد الثقافي والاجتماعي وإبراز المواطن التي تصبح فيها الثقافة آلية لتكريس العوامل الكابحة للنهضة والتقدم ومكرسة للمحافظة في جانبها السلبي». ولعل الهدف من إعمال هذه الآلية، هو الوعي بمخاطر القيم الثقافية سواء منها الميتة أو القاتلة، وأخذ المسافة الضرورية منهما، وعدم الاستسلام لسلطانهما، خصوصا من طرف النخبة المثقفة التي تشكل طليعة المجتمع. وقد استلهم الكاتب في عملية النقد هاته، مفهوم «النقد المزدوج» وهو يتوجه إلى مستويين: القيم الثقافة الميتة، التي انحدرت إلينا من عصور الانحطاط، وكذا القيم القاتلة، فماذا يقصد بهذين النظامين؟ أ) «نقد القيم الثقافية الميتة»، فيما يخص هذا المستوى، فإن الكاتب يعتبر أن طبيعة القيم الميتة، أنها تشل ملكة العقل وتحد من فاعليته، وتصيب الأفراد كما الجماعات بعجز فكري ومنهجي قاتل، وقد حدد المؤلف هذه القيم، في الثقافة الانتظارية و الثقافة الخرافية و ثقافة التبرير، و ثقافة الاحتجاج، وثقافة الاعتماد والوساطة، وثقافة الكلالة، و ثقافة الزاوية (الأتباع)، وثقافة الاستبداد وصناعة الاستبداد، وثقافة الغش، وثقافة الريع. ب) نقد القيم الثقافية القاتلة: يقصد بها «قيم الغزو الثقافي التي تسعى إلى تحقيق تبعيتنا وإلحاقنا الثقافي.» متخذة صبغة الحداثة في صورتها المنتحلة وليست الأصيلة، بمعنى آخر فرض قيم غريبة عن المجتمع، بدعوى أن هذه القيم «كونية» وأنها صالحة لكل الأمم. ولإبراز ذلك يقدم يتيم مجموعة من القيم التي بدأت تشكل خطرا على النسيج الثقافي في البلدان العربية والإسلامية، منها مشكلة «الاستتباع الثقافي» وهي «الحالة التي تنتج كل مظاهر الاستكبار الثقافي، التي تعمل على غزو وتدمير ثقافي ممنهج، وتستخدم فيه كل أسلحة الدمار الثقافي الشامل، مختلف آليات الإبادة الثقافية من خلال مفهوم «العولمة الثقافية».ولهذا فإن الكاتب يدعو إلى ضرورة الوعي بهذا التحدي والتفكير في سبل تحصين الذات ثقافيا. ومن بين أهم القيم الثقافية القاتلة التي تم استنباتها في التربة العربية والإسلامية، من طرف الغرب، الفصل بين الدين والعلم وبين الدولة والدين وبين العقل والإيمان، انطلاقا من التصور الغربي الذي مر بتجربة تاريخية، تجسدت في علاقة الكنيسة بالمجتمع وبالقيم الدينية، وقد كان من مستتبعات هذه العلاقة المتوترة، حصول انفصال وقطيعة بين الدولة والدين. ولعل هذا الطرح العلماني هو ما بدأت تسوق له نخبة من المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين، لكي يكون نموذجا يحتدى به في بلدانهم. وغير خاف على أحد أن هذا التعريف الذي يميز بين الثقافة والعلم، أي باعتبار الثقافة بديلا عن الدين واللغة. ثانيا: مداخل الإصلاح الثقافي أ) منطلقات الإصلاح: كيف يمكن تحقيق إصلاح ثقافي، خصوصا إذا علمنا أن مجال الثقافة مرتبط بالذهنيات والمواقف والسلوكات والاختيارات وعلى منظومة القيم أكثر مما هو مرتبط بالقوانين والمساطر والتشريعات؟ يعتبر المؤلف أن الإصلاح الثقافي ممكن التحقق، وأن دعوات الأنبياء والرسل والمصلحين، إنما كانت دعوة ثقافية، لأنها تتخذ منحى الثورة ليس بدلالاتها الماركسية، ولكن بمعناها العام الذي يفهم منه إحداث انقلاب جذري في كيان الفرد والجماعة بهدف الاستجابة للقيم الجديدة، القيم البانية،والقيم الحضارية التي تنهض بالأمة، وفي هذا السياق حدد «محمد يتيم» مجموعة من الشروط الأساسية الكفيلة بتحقيق الإقلاع الثقافي، من ذلك: ضرورة إصلاح نظام الفكر بإصلاح مناهجه. إعادة بناء رموز جديدة وقيم جديدة تتجاوز القيم البالية، دون السقوط في قطيعة مع القيم الأصيلة للمجتمع، وإلا فإن ذلك سيعد شرخا قيميا لا مثيل له. تقديم نماذج بشرية حية تترجم الرموز المذكورة في سلوك يومي حي تبعث على التأسي والمتابعة.