مكر التاريخ يفرض، دوما، أحكامه.. هذا واحد من الدروس التي قليلا ما ننتبه إليها في زحمة تلاحق الأحداث وتشعبها بدنيا العرب.. ولعل مما يطرح تحديا على الفكر وعلى المثقف، أنه قليلا ما ينتبهان إلى معطى جلي، هو أن العربي اليوم قلق، قلقا وجوديا، وبشكل عنيف، في أول القرن 21، قرن التكنولوجيات الدقيقة (أو النانو تكنولوجي). وهو قلق وجودي، لن نبالغ إذا قلنا، إنه غير مسبوق في تاريخنا الممتد، منذ تحقق الدعوة المحمدية، التي غيرت قدر العربي بشكل ثوري كامل، حين أخرجته من القبيلة والعصبية إلى الدولة. ومعنى أننا لن نبالغ، كامن في أن لحظة القلق الوجودية للعربي اليوم، تكاد تكون تتويجا لتراكمات محاولات النهوض منذ ما وصف ب «عصر النهضة» في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20. إن مكر التاريخ، هنا، نتلمسه في اليقين الذي بدأ يترسخ عند كل مواطن عربي، أن الثورة ليست هي فقط إسقاط أنظمة شمولية ورؤوس استبداد وإنهاء أسلوب حكم فردي، بل إن الثورة هي في ما بعد النجاح في ذلك. حينها تبدأ المعركة الكبرى التي يكون موضوعها ذلك السؤال الرهيب: والآن، أي طريق نتبع؟ وكيف ننتصر على غواية التسابق نحو السلطة والحكم والغنائم؟.. هاهنا، في تصوري، يكمن مكر التاريخ. بدليل أن ما يعيشه العربي منذ ثورة الياسمين التونسية، حتى فظاعات الجرائم التي ترتكب في سوريا بسبب ممانعة طائفة الأأسد للبقاء في الحكم، إنما يعكس ملامح القلق الآخدة بنا، من التحول الذي يطال القيم. وأبرز تلك القيم، الآن، قيم شكل تنظيم الجماعة البشرية وصناعة القرار السياسي التدبيري. ولقائل أن يقول، لإن هذا أمر طبيعي في كل لحظة للتحول، كبرى، في تاريخ البشر. لكن، في تجربة مثل تجربة أمتنا العربية، في ما أتصور، فإن التحول السوسيولوجي من مجتمع قروي إلى مجتمع مديني، هو الذي يمنح لمعنى قلق الفرد العربي على منظومة قيمه، معنى خاصا أكثر حدة. فالعربي اليوم، يريد بشكل جارف أن يحوز حق التمتع بخدمات المدينة (أمنا/ تعليما/ صحة/ سكنا/ ترفيها/ وبيئة سليمة...)، لكنه في الآن نفسه خائف من الإنسلاخ من منظومة قيم سلزكية تقليدية أطرت وجوده على امتداد عقود، إن لم يكن على امتداد قرون. إن التحول العربي، كامن هنا بالضبط، وأن الثورة الحقيقية كامنة في معنى التحول في سؤال الفرد عربيا.. لأنه كما لو انطلقت أخيرا، المعركة الكبرى للجواب عن ذلك السؤال المعرفي والتاريخي الكبير: كيف نفكر، اليوم، في الفرد عربيا وإسلاميا؟ وكيف يفكر هو في نفسه؟. ومعنى طرح سؤال الفرد هنا، هو طرح لسؤال حريته في ذاته كقيمة سامية عليا، وكيف تجب علينا صناعة هذا الفرد، تربية وتكوينا ومعنى وجود. هل نريد فردا منتجا، عقلانيا، محاسبا، نقديا ومسالما؟، أم نريد فردا سالبا، غوغائيا، هوائيا وعنيفا؟. إن قراءة ممحصة لتاريخ أمة العرب، منذ الدعوة المحمدية، بصفتها ثورة غيرت زمانها وبنت لحظتها التاريخية، يسمح لنا بأن نخلص إلأى أن ملامح معنى ثورة اجتماعية في الوجود الجماعي للمنتمين للثقافة العربية والإسلامية، قد بدأ في التبلور. من خلال ملامح الإنتقال من آلية الوصاية إلى آلية الحرية، كممارسة للمسؤولية مع الذات ومع الجماعة. ونكاد نجزم، أن ما دخلناه كعرب، لما نزل فقط عند العتبات فيه، وعند أول الطريق، وأن ما سيقطعه العربي، في صيرورة التحول هذه، طويل، حتى يتبلور واضحا، ربما بعد جيل أو جيلين، الشكل الجديد المتكامل الملامح، لمعنى أن تكون فردا عربيا، مسلما، مدينيا، حرا، فكرا وممارسة، في زمن القرن 21، قرن «النانو تكنولوجي». وهنا، علينا الإنتباه لمعنى اشتداد الخوف على الهوية، الذي نعايشه عربيا، اليوم، بدليل التداعيات الكبرى القوية التي استتبعت تسريب ملخص لفيلم تافه، بئيس فنيا، وساقط أخلاقيا وحقوقيا، على موقع يوتوب هذه الأيام (الفيلم المسيئ لشخص الرسول). وبدليل أيضا، النقاشات الحامية حول الوثيقة الدستورية في تونس ومصر وليبيا وغدا قريب في سوريا، الذي يطرح شكل وآلية الحكم، ويطرح أيضا سؤال المرجعية.. هل هي مرجعية كونية حقوقية أم مرجعية دينية؟. ومعنى اشتداد الخوف على الهوية عربيا، إنما هو ترجمان لبداية تلمس الجواب التاريخي حول معنى الفرد الذي يريده العربي والعربية لذاتيهما. وحين نقول العربي والعربية، فلأن من علامات التحول أن أصبح للمرأة دور في رسم ملامح التحول عندنا، بل هي موضوعه وعنوانه أيضا. وإن بروز أسئلة قيمية وسلوكية مرتبطة بالمرأة، مرتبطة باللباس، مرتبطة باللغة، مرتبطة بأشكال التعبير الفنية، ومرتبطة بأنماط السلوك العمومية، إنما يطرح الدليل على القلق الذي يحدثه التحول في الفرد العربي وجوديا. بسبب انتقاله إلى شكل تنظيمي مديني جديد، غير مسبوق. مطلوب ومرغوب ويفرضه التقدم، لكنه مصاحب بذلك الخوف الطبيعي من الإنسلاخ من حال هوية، بدوية، جماعية، تكونت وتربت على العصبة والعائلة الممتدة والقبيلة والطائفة، إلى هوية مدينية جديدة، تتشكل بمنطق حاجة التحول المؤسساتي للدولة، التي تصبح (أي الدولة) هي عنوان العصبة الجديدة الأكبر، والعائلة الجديدة الأكبر، للفرد العربي المواطن، اليوم وغدا. كم سيدوم هذا الصراع بين العربي وذاته، قيميا، في لحظة تحوله التاريخية هذه؟.. وهل مضمون أساسا أنه سيكون تحولا حداثيا، أم إنه على العكس من ذلك، قد ينتهي تحولا نكوصيا؟. بمعنى آخر، هل سيذهب العربي من الدارالبيضاء حتى بغداد، صوب جواب طالبان الأفغاني، المتشدد، المنغلق، الإقصائي بمنطق الوصاية، الذي انتصرت فيه البداوة بقيمها على المدينة. أم صوب دولة المؤسسات الديمقراطية العلمانية كجواب متحقق في تركيا وماليزيا؟.. للتاريخ مكره أكيد. وسنرى من سيسود على الآخر، هل قيم البداوة الشمولية، النكوصية، الإنغلاقية، الخائفة، أم قيم التمدن التعددية، المنفتحة، الحرة اقتصاديا؟. وهنا، فإن مكر التاريخ، لا يتعب في أن يعلمنا دوما، أن الثورة ليست مجرد إسقاط أنظمة استبداد، بل الثورة تغيير سلوكي مجتمعي شامل.