كل ملعب لكرة القدم فضاء مفتوح للمسرحة والإبداع. بل إن الطقوس المصاحبة لأي مباراة، عبارة عن فرصة لتأمل لحظات إبداع ينسجها تجمع بشري ما، تعكس في النهاية ثقافة سلوكية وتربوية ووجودية لذلك التجمع البشري. بل إنها تكون ترجمانا لتلك الثقافة السلوكية، في لحظة معينة من الزمن تسمح بالتأريخ لتطور القيم في أي مجتمع. بهذا المعنى، فإنه من خلال طقس مباراة في كرة القدم، بمرموزاتها ومنطق تعبيراتها المتراكبة، المتعددة، نستطيع رسم خط بياني لمسار تلك القيم. وهنا يحق لنا التساؤل مثلا: هل مغاربة الأربعينات، حين كانت الرياضة عندهم أداة للتربية على روح الوطنية والفداء، ومجالا لفرض الذات أمام المستعمر، هم مغاربة الألفية الجديدة، الذين يرون في أي مباراة كرة فرصة لممارسة عنف ضد الذات وضد الجماعة، كنوع من التفريغ عن ضغط سوسيو ? نفسي، وهو عنف كامن في اللغة وفي التعبير والسلوك؟. بل أكثر من ذلك، أليست مباراة كرة قدم، مجالا لإدراك الهوية الثقافية والتربوية والسلوكية للمجتمعات عبر العالم. بمعنى أنها فرصة لتلمس خصوصية هذا التجمع البشري أو ذاك. فالبرازيليون، أو الأمريكو - لاتينيون عموما، ليسوا هم الإنجليز. ولا الإيطاليون والإسبان، بثقافتهم المتوسطية، هم الألمان والروس. ولا الشمال إفريقيون هم الجنوب إفريقيون. ولا المغاربة هم الخليجيون وباقي العرب. إن الجميل في كل مباراة كرة قدم، أنها تقدم لحظة لفعل إنساني، لا يتكرر قط بذات التفاصيل والخصوصية. وفي مجالنا الصحفي، كم تكون كل مباراة رياضية، فرصة هائلة ومثالية لجنس الروبورتاج. من حيث هو جنس يحضر فيه التفاعل الذاتي للصحفي مع الحدث، ومطلوب فيه التعبير عن موقف، انطلاقا من ذلك التفاعل. وليس اعتباطا، أن حددت كل مدارس الصحافة في العالم تعريفا واحدا لجنس الروبورتاج، يقول في جملة واحدة: "الروبرتاج هو أذن وعين وقلب مرتبطان بقلم". أي أن التفاعل الوجداني والروحي مطلوب. وفي مباراة كرة قدم، فإن الطبق يكون غنيا جدا، على كافة مستويات الفعل الإنساني، الذي تحركه قيم ما، وتؤطره حالات تعبير نفسية. بل، إن الجميل، في تلك المباريات، أنها تكون طقسا عموميا يحقق فكرة "القوة البشرية في التعبير الجماعي". القوة التي تحول الفرد إلى أن يكون هو وأن يكون آخر في نفس الوقت. إن الصرخة الجماعية أمام تفصيل في اللعبة الملعوبة فوق المستطيل الأخضر (قد تكون إبداعا في التمرير، أو إصابة للهدف)، هي طقس غريزي يعيد الفرد المتفرج إلى أن يكون نقطة ضمن قوة جماعة ما، ويتحرر من ذاته كي يكون منتميا لعصبة ما. وهنا يكون للإنتماء ذاك لذته. إن مباراة كرة قدم، بكل ما يتداخل فيها من معنى وجود ومن إحساس بالإنتماء، هو الذي يجعلها مجالا خصبا للتعبير الحقيقي عن الذات. وكلما كان المتفرج فرحا في وجوده، متصالحا مع محيطه، هنيا في كينونته الإجتماعية العامة (أي منتم لجماعة بشرية توفر لها أسباب الأمان المادي والروحي)، كلما كانت لحظة الفرح الجماعي الرياضية مناسبة للفرح بالذات. وهذا حقيقة ما يتحقق في أغلب الملاعب الغربية والآسيوية، حيث يتحول ملعب كرة قدم إلى قاعة مفتوحة على السماء للفرجة وممارسة متعة جماعية ترفه عن الذات من تعب طريق الحياة. وفي مقابل ذلك، كلما كان المتفرج مثقلا بأسباب العطب في علاقته مع ذاته ومع الجماعة التي ينتمي إليها، وكانت تلك العلاقة علاقة توتر، كلما كان الملعب كمسرح مفتوح، مجالا للتعبير عن ذلك العنف في اللفظ وفي السلوك. وهذا هو المتحقق عندنا في ملاعبنا المغربية. بمعنى أن عنف الخطاب والممارسة في ملاعبنا، هو نتيجة لمقدمات توجد خارج الملعب، وأن تلك الفضاءات إنما هي مسرح مفتوح للتعبير لا غير. بمعنى أن الحل كامن في المجتمع وطريقة ممارسته لوجوده اليومي، على كافة قنوات التأطير والتربية (العائلة، المدرسة، الشارع، الإعلام). المثير، هو أنه على عكس ما قد نعتقده من إسفاف في أشكال التعبير الجماهيرية في ملاعبنا المغربية (كلام نابي ساقط، عنف في المدرجات، تعابير عنصرية حاطة من الكرامة، شعارات تحرض على العنف وعلى الكراهية... إلخ)، فإن ذلك إنما يترجم ذلك التقليد الإنساني العتيق في تاريخ كل أشكال التعبير الجماعية، التي توصف عادة ب "المقابلات". والمثير هو الكلمة هذه نفسها (المقابلات)، ففي تاريخ الشعر العالمي، وضمنه الشعر العربي والشعر المغربي بما فيه الأمازيغي والعروبي البدوي والصحراوي والمديني، هناك تقنية أدبية توصف ب "المقابلات الشعرية"، أي ذلك النوع من القصائد التي تكون عفو الخاطر والتي يبحث فيها كل شاعر عن أخطاء منافسه ليبرزها بشكل كاريكاتوري بروح رياضية. إن الشعارات التي ترفع في ملاعبنا المغربية، على قدر ما فيها من عنف، وعلى قدر ما تترجم من مستوى سلوكي، ودرجة الوعي العام، فإنها في الحقيقة لحظة للتفكه أمام مقابلات لفظية إبداعية في نهاية المطاف. والمثير فيها، أنها تبقى داخل رقعة الملعب ولا تغادرها قط إلى الشارع العام، أي أنها لم تكن قط سببا لحروب مثل حروب داحس والغبراء بين أفراد ذلك الجمهور، بل هي تبقى لحظة للكاريكاتور اللفظي، حتى وهي ترجمان لمستوى ثقافي نازل قيميا. في التعبير السلوكي للجماهير الرياضية، مغربيا، حقيقة لا يمكن الإغفال عن أنواع من الجمهور تعكس ثقافة خاصة بكل جهة. مثلما تعكس تطور درجة الإبداعية عند هذا الجمهور المغربي أو ذاك. ولعل في تقنية التيفوات التي أصبح يبدعها باحترافية محبو فريقي الدارالبيضاء الكبيرين (الرجاء والوداد ? الوداد والرجاء) ما يترجم تسامي احترافية ذلك الإبداع في التعبير، واللغة المتضمنة فيها كشعارات، هي رسائل عمومية عن وعي جماعي، رياضي وسياسي واجتماعي وتاريخي، جعلت العالم كله ينتبه لمنجز مغربي مختلف عن باقي المنجزات المماثلة في العالم. وهي أيضا ترجمان عن تبدل في الوعي المدني للأجيال الجديدة للمغاربة، هو مديني أكثر، عقلاني أكثر، احترافي أكثر. ويقدم فرصة لنقاش عمومي بين كل المتعالقين مع فضاء ملعب كرة القدم، بعد أن يغادر الجميع أبواب الملاعب، حيث يكون النقاش في مختلف فضاءات المدينة تواصلا لما قدم من إبداعية ومن خطاب ورسائل، وما وقع من أحداث في فضاء الملعب في لحظة زمنية محددة هي لحظة مباراة كرة قدم. لكن، الإشكال هو: هل ذلك النقاش مؤطر أم لا؟. الحقيقة أنه نقاش نكاد نسميه "متوحشا" (ليس بالمعنى القدحي للكلمة)، أي إنه مثل نبتة تخرج من الأرض طبيعيا وتنمو دون أن يشذبها أحد. دائما، في التعبير السلوكي للجماهير الرياضية، مغربيا، لا يمكن التجاوز عن تجربة جمهور مثل جمهور مدينة القنيطرة، الذي يراكم فعلا منظما، يعكس وعيا تأطيريا وسلوكيا عاليا في أشكاله الحضارية. وعلامات بروزه كامنة في الشعارات التي ترفع، في اللافتات التي تكتب، ثم في أشكال التعبير الجماعية (مثل إدارة الظهر للملعب، أو الدخول بكثافة ثم المغادرة احتجاجا لنصف ساعة والعودة إلى المدرجات بعد ذلك). وهذا كله يعكس وعيا في التنظيم عاليا، ويترجم ثقافة سلوكية في التعبير عن الموقف. بل إن هذا ربما، يحملنا إلى الإنتباه، أن كل المدن التي بها طبقة عمالية كبيرة ووازنة، لها جمهور رياضي مختلف. هذا ما يسجل في القنيطرة والمحمدية والدارالبيضاء وخريبكة وأكادير وطنجة وآسفي والجديدة. بينما المدن ذات التراكم التاريخي، مثل مراكش، فاس، الرباط، وتطوان، لها جمهور مختلف تكوينا وسلوكا وثقافة. وحتى على مستوى الإبداعية والخطاب ومضمون الخطاب، فإن اللغة تختلف عنفا ومباشرية بين هذا الجمهور وذاك. وأيضا على مستوى الجرس الموسيقي، فالدقة المراكشية شئ، والأثر الأندلسي والملحون والموسيقى الجبلية في فاس شئ، وأثر التجربة الإسبانية والأندلسية في تطوان شئ آخر. بينما في المدن العمالية، فإن موسيقى ونغم الشعارات التي ترفع في فاتح ماي العمالي والنقابي، وفي غيرها من المناسبات العمومية العمالية والطلابية، حاضرة بقوة. مثلما يحضر أثر موسيقى البوب والراي والهيب أكثر فيها، وهو ما يسجل مثلا، في مدرجات الدارالبيضاء وآسفي والمحمدية والقنيطرة. إن ما يجب ربما علينا الإحتياط منه، هو إصدار أحكام قيمة حول شعارات الملاعب. بل إنه علينا قراءتها كتعبير عن واقع مجتمعي وعن مستوى للوعي وأنها رسالة أيضا تعنينا جميعا. ولربما علينا الإنتباه أنه حتى المريض حين يئن فهو إنما يوجه لنا نداء استغاثة. بهذا المعنى أتأمل بشغف معرفي خاص شعارات الملاعب الرياضية، لأنها فرصة تدعونا إلى أن ننتبه أن تمة عطبا ما في التربية العمومية للمغاربة وأنه علينا معالجته في شمولية دورة التربية العمومية للفرد المغربي (المدرسة، العائلة، الإعلام، الشارع). وعنوان ذلك كله، هو مصالحة المغربي مع ذاته ومع الجماعة التي هو منها وإليها.