شكل اكتشاف الزراعة، بعد النار، منعطفا حاسما في تاريخ البشرية، ليس فقط لأنه مكن من تغيير جذري في نظم الأكل (وإخراجها من البدائي إلى المنظم)، بل إنه فتح الباب هائلة للملكية. أي ملكية الأرض. من حينها، انتقل الصراع من صراع بين الإنسان والطبيعة، إلى صراع بين الإنسان والإنسان، من أجل حيازة سلطة تملك الأرض، وتملك الإنتاج. وفي خضم ذلك، بدأت تتحدد حتى طبيعة أدوار الرجل والمرأة، وميلاد شكل جديد لسلطة كل واحد منهما (المرأة تهييئ الطعام. الرجل البحث عن مصدر للأكل)، بكل ما صاحب ذلك من صراع سلطة بينهما، وأيضا من إعادة تحديد غير مسبوقة لمعنى العائلة، ومعنى النسب ودور الإنجاب. ومنطق هذا الصراع حول الأرض، بعد اكتشاف الزراعة، هو الذي بقي ساريا إلى اليوم (الأرض ومعنى العرض والشرف). لكن، الأساسي هنا، هو إعادة تمثل معنى القيم في حياة البشرية، ومدى التراوح بين التوحش وبين احترام قيم حامية لآدمية الإنسان في تلك الصيرورة منذ الزمن البكر للوجود البشري فوق أديم الأرض. والقصد بالتحديد، هو إشكال تمثل الفرد العربي المسلم لذلك اليوم. لأنه أمام الهمجية التي وقعت في شاطئ مدينة نيس الفرنسية الأسبوع الماضي، يتساءل المرء جديا، حول معنى شكل تمثل الفرد العربي المسلم لدوره القيمي في الوجود، ضمن منطق الصراع هذا الذي انطلق منذ اكتشاف الزراعة ومنذ ميلاد فكرة تملك الأرض. ومعنى تملك الأرض هنا، ليس فقط حيازتها، بل كل ما تبلور من أشكال تدبيرية وتنظيمية لتحقيق ذلك. وهنا فقد قطعت البشرية مسارا هائلا من الإجتهادات التي راكمت، بالتواتر، منظومة قيم منتصرة للحق في حماية الحياة، وعدم إراقة الدم بدون وجه حق. لأن غير ذلك، نكون فقط ضمن منطق الغاب المتوحش. وذلك هو الذي وقع في نيس الفرنسية. المنفذ ليس شخصا مريضا، مختلا، بل هو شخص فكر ونفذ. والسؤال الذي علينا جديا امتلاك جرأة طرحه والجواب عنه، هو: لماذا دوما الفرد العربي المسلم، هو الذي ينزع أكثر (ضمن منظومة البشرية اليوم، التي راكمت تقدما هائلا في أشكال التعبير والفعل) إلى هذه الأشكال من "الوحشية"؟. هل الأمر كامن في طبيعة الفرد ذاته، أي في بقاء وعيه مسكونا بالمنطق الفطري البدائي للتوحش في التعبير عن الحاجات والمصالح، أم إنه كامن في شكل المنظومة المربية المؤطرة له سلوكيا ورؤيويا؟. ولعل المقلق أكثر، أن الأمر كان سيكون عملا معزولا، لو أنه كان موقفا لفرد، بل المشكل اليوم أنه يتبنى من قبل تيار وجماعة، وينسب للأسف لمنظومة قيم ولجماعة بشرية، هي الإسلام والمسلمون، ضمن باقي المجموعات الحضارية بالعالم. قد يقول قائل إن ذلك مجرد تطرف لفئة ضالة، وأن له أشباه في كل المجموعات البشرية في العالم، ليس أقلها التيارات المتطرفة في اليابان كمثال، تلك التي كانت تزرع الموت في محطات الميترو في التسعينات بالمدن اليابانية. لكن، المشكلة هنا، هي أن التجربة اليابانية تلك، مثلها مثل عدد من التجارب الإنغلاقية في الثقافية السلوكية المسيحية الأمريكية (جماعات الإنتحار الجماعي)، هي ذات تعبير وجودي في العلاقة مع الموت، وليست تعبيرا عن موقف سياسي يبشر بشكل للتدبير العام للجماعة البشرية. أي أنه محصور في نزوع انتحاري جماعي، تعبيرا عن يأس من الحياة، وليست غايتها ترسيخ نموذج تدبيري سياسي، لشكل تملك الأرض وشكل تملك أدوات الإنتاج. هنا الفرق هائل وشاسع. إن البشاعة التي وقعت باسمنا كعرب ومسلمين في نيس الفرنسية، تفضح في العمق مدى أزمة الهوية وأزمة الوعي بالذات، التي نحن غارقون فيها كعرب ومسلمين. وأن مكمن تلك الأزمة محدد في مدى تحررنا من أشكال التعبير العمومية البدائية (منطق الغاب) لتحقيق المصلحة السياسية. ها هنا يكمن عنوان عطبنا الأكبر المخيف، على مستوى التربية السلوكية. إنه العنوان عن فشل معنى فكرة الدولة، والمدنية، في الثقافة العربية الإسلامية، التي هي في خصومة حتى مع منظومة القيم السامية التي بلورها الإسلام، المنتصرة للعقل ولتكريم بني آدم، ولحرمة الحياة. إن الفرد العربي، فرد قلق جدا، متعب جدا، متوتر جدا، تائه بلا ضفاف.. ولذلك هو عنيف جدا اليوم، لأنه لم ينتصر في ذاته، على البدائية العتيقة للبشرية، الكامنة فيه سلوكيا، ولم يرتقي (بسبب عطب في تراكب لأزمة تربوية سلوكية، ولمنظومة إقصائية لمكرمة إشراكه في تقاسم الثروات) إلى مستوى التصالح مع القيم الكونية للمدنية.