سيظل خطاب العرش للعاهل المغربي محمد السادس، مثار نقاش لزمن طويل، بسبب تعدد مداخل مقاربته وتمثل منطوقه ولغته ومبناه. وهو خطاب، بدون تردد، يندرج ضمن معنى «الفعل السياسي»، الذي يجعل منه خطة طريق، تكتسب ميزاتها المتعددة، حين موضعتها ضمن سياقها المغاربي والعربي والإفريقي المحيط بها. وبهذا المعنى، فهو ليس خطابا يبحث عن لقب الجرأة (بالمعنى الذي قد تفيد به الجرأة هنا غاية التميز فقط)، بل هو خطاب المسؤولية. المسؤولية أمام الذات، وأمام المغاربة، وأمام التاريخ. سيظل خطاب العرش للعاهل المغربي محمد السادس، مثار نقاش لزمن طويل، بسبب تعدد مداخل مقاربته وتمثل منطوقه ولغته ومبناه. وهو خطاب، بدون تردد، يندرج ضمن معنى «الفعل السياسي»، الذي يجعل منه خطة طريق، تكتسب ميزاتها المتعددة، حين موضعتها ضمن سياقها المغاربي والعربي والإفريقي المحيط بها. وبهذا المعنى، فهو ليس خطابا يبحث عن لقب الجرأة (بالمعنى الذي قد تفيد به الجرأة هنا غاية التميز فقط)، بل هو خطاب المسؤولية. المسؤولية أمام الذات، وأمام المغاربة، وأمام التاريخ. وهو ثالث خطاب منعطف في عهد الملك المغربي، المواطن، محمد السادس، بعد أول خطاب للعرش يوم 30 يوليوز 1999، وخطاب 9 مارس 2011 . بالتالي، سيكون من غير السليم، الإعتقاد أن نتائجه ستكون آنية سريعة. لأنه ثالث خطاب تأسيسي، لن تكون نتائجه بارزة سوى بعد زمن، كونه يؤسس لأسلوب جديد في ممارسة السياسة، الغاية منه أن يصبح ثقافة عمومية تمتد على كافة مستويات البنية الإدارية التدبيرية المغربية. وتمتد أيضا على مستوى شكل ممارسة الآليات التنظيمية التي يفرزها المجتمع ضمن منطق تقاطب المصالح بين شرائحه وطبقاته (أحزاب، جمعيات، نقابات) لأدوارها التأطيرية مجتمعيا، ضمن مشروع مجتمعي لما يستحق أن يكونه المغاربة، في علاقة مع العالم، في القرن الجديد، قرن إفريقيا وقرن الحسم الهوياتي عند الفرد العربي المسلم. لنطرح هذا السؤال، من الآن: هل نحن، انطلاقا من منطوق هذا الخطاب، بإزاء ملامح مشروع «ميجي» مغربي؟، بذات الشكل الذي حققه أكبر وأهم إمبراطور في تاريخ اليابان موتسوهيثو، في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، الذي حول اليابان من دولة إقطاعية ثيوقراطية استبدادية، إلى دولة صناعية مؤسساتية مدينية. ولقد نجح ذلك الإمبراطور في مشروعه الذي سلخ منه 45 سنة كاملة، في مرحلة حاسمة من تاريخ العالم وليس فقط من تاريخ اليابان، بين 1867 و 1912 . نجح فيه بسبب أمرين حاسمين، هما: سلطته الروحية ضمن البنية الدينية البوذية اليابانية، وأيضا رهانه الأكبر على تغيير رؤية الياباني لذاته وللعالم، عبر التعليم. دون إغفال أن الجغرافية قد منحت ذلك الإمبراطور، ومنحت اليابانيين، حماية استثنائية، كونهم أرخبيلا مستقلا من الجزر، يحميهم البحر من كل جانب، ويحثهم في الآن نفسه على ارتياد الآفاق لاكتشاف العالم وربط الصلات به. وكل الجماعات البشرية المماثلة، يكون تيرمومتر الإنتباه للخصوصية الذاتية عاليا عندها حضاريا (نفس الأمر نجده عند البريطانيين). إن إعادة قراءة خطاب العاهل المغربي الجديد، من خلال موضعته في سياق علاقته بأول خطاب للعرش يوم 30 يوليوز 1999، وخطاب 9 مارس 2011، يجعلنا نتيقن أنه فعلا «الرجل هو الأسلوب»، وأن ممارسة الملك المواطن محمد السادس لأدواره الدستورية في ممارسة الحكم، لها منطقها القيمي الخاص، الذي الغاية منه، بتواتر الفعل المسجل ميدانيا، ترسيخ صورة الملك المواطن. وهذا خيار تربوي عالي الأثر في أي صيرورة مجتمعية مثل مجتمعنا المغربي، الذي يعيش أفراده انتقالا تاريخيا، بين معنى حياة ومعنى حياة، منذ أكثر من قرن من الزمان، أي منذ هزيمة إسلي وما تلاها بعد 50 سنة من صدمة الإستعمار الذي توزع الأراضي المغربية (المغرب هو البلد العربي والإفريقي الوحيد الذي اقتسمت أراضيه أكثر من دولة استعمارية). ومعنى الملك المواطن هنا، هو أن الرجل يحرص دوما على أن يرسخ في الوعي العام، أنه فرد مغربي ملك، يمارس السلطة من موقع مسؤوليته كمواطن أولا وأخيرا، يمشي بين الناس، يحترم واجبات السلوك العمومي المواطن مثل أي فرد في المجتمع بالمعنى المديني. وأنه بالتالي يمارس سلطاته بذلك المعنى السياسي الذي بلورته الثورة البورجوازية أروبيا لصفة المواطن، أي المنتمي سلوكا وثقافة لنظام المدينة. (القرب من الناس في الحياة اليومية وفي الخطاب غايته توطين حميمية تحقق تشاركية في ترجمة المشروع الإصلاحي المأمول). لقد رسخ منطوق الخطاب الأخير، الذي هو هزة حقيقية لكل مسؤول في أي موقع إداري كان (الذين ظلت تؤطرهم على امتداد أكثر من 50 سنة ثقافة لم تعودهم ولا ربتهم قط على تقديم الحساب أمام ضميرهم المهني أولا وأمام التاريخ ثانيا). لقد رسخ، ذلك الخطاب إذن، بشكل لا رجعة فيه، عناوين منهجية حكم الملك 23 من سلالة العلويين الفيلاليين الشرفاء المغاربة. وهي منهجية فيها الكثير من الثقافة السياسية المغربية، التي فيها التدرج خطوة خطوة، لكنه خطو راسخ لا رجعة فيه. لكن فيها أيضا ثقافة كونية، لمعنى الدولة كمؤسسات ضمن خيار ديمقراطي لا رجعة فيه. وهي بهذا المعنى منهجية براغماتية، لا تحركها ردود الفعل بالضرورة، بل يحركها الفعل ضمن مشروع له خطة طريقه الإستراتيجية الكبرى. هنا يجوز التساؤل: هل التحولات في مصائر المجموعات البشرية في العالم، متطابقة بالضرورة، ولها ذات الوصفة التدبيرية؟ أم إن لكل تطور منطقه الثقافي السلوكي الواجب (حتى لا نقول المتحدي الضاغط)؟ جديا، لكل تجربة جماعة بشرية منطقها التاريخي. وما تحققه الجماعة المغربية، في صيرورتها، بتفاعل مع زمنها ومحيطها، له عناوينه الخاصة التي تقدم الإضافة النوعية، ضمن سياقها الأفرو متوسطي، وضمن سياقها العربي إسلامي، التي ليس فيها أي نزوع لوهم تميز عن باقي الجماعات البشرية الأخرى ضمن محيطها هذا، بل فيه أساسا منطق التمايز، الذي يجد سنده الأكبر في ما ظل يشكل آلية إنتاج القيم مغربيا، بتعدد روافدها الثقافية، كما نصت على ذلك بذكاء فعلا، ديباجة دستور ما بعد خطاب 9 مارس 2011، أي دستور فاتح يوليوز 2011 . الذي هو ثاني دستور مغربي خالص مئة بالمئة، منذ مشروع دستور 1908 الذي أقبرته السياقات التاريخية لزمن ما قبل الحماية. وهي الديباجة التي تنص على تغدية الوعي المغربي ثقافيا وسلوكيا (وهنا عنصر الغنى الحضاري، الذي منحه لنا موقعنا بين قارتين وحضارتين وبحرين)، بروافد الإسلام والأمازيغية والعروبة والإفريقية والمتوسطية واليهودية. هل مغرب 2014، هو مغرب 1999؟. الجواب يلمسه الجميع في محيطه العام على مستوى التطور المتحقق على مستوى البنى التحتية الأساسية. بل ربما أكثر من ذلك، هل مغرب 2014 هو مغرب 1994، تاريخ بداية ملامح الإصلاح السياسي مغربيا بعد صدور العفو العام وبداية التخطيط للتناوب السياسي حكوميا؟. الجواب هو أن المغرب دشن ربيعه العربي والمغاربي باكرا، بما يجب له من توافق وتدرج وسلمية. ولعل السؤال المركزي هنا، هو هل الفرد المغربي (نخبا ومجتمعا) متساوق مع هذا التطور الذي تحقق على مستوى منظومة الإنتاج العمومي؟. أي هل الثروة اللامادية للمغرب متصالحة مع منهجية الإصلاح التي تراكم، بهذا القدر أو ذاك من الكفاءة والجرأة الحكومية، أثرا ماديا ملموسا لها في الفضاء العام للخدمات بالمغرب؟ لأنه علينا الإعتراف أن كفاءة وجرأة حكومة عبد الرحمان اليوسفي، بل وحتى حكومة إدريس جطو، ليست هي أعطاب حكومة عباس الفاسي، ولا هي ضبابية رؤية حكومة عبد الإله بنكيران التي بدأت تتحول إلى حكومة خطاب أكثر منها حكومة إنجاز، ما عدا في بعض القطاعات التي الفضل في جرأة منجزاتها يعود لشخص الوزير مثل قطاع الصحة. في نقاش جمعني بالدكتور فتح الله ولعلو منذ شهور، بالرباط، كان موضوع التحولات المغربية في صلبه، سيقول لي جملة قفل عميقة، حيث قال ونحن في سيارته: «لقد تقدم المغرب خلال السنوات 15 الأخيرة، لكن تخلف المغاربة». وهي خلاصة مقلقة حقا، تطرح جديا أن التحدي اليوم مغربيا، كامن في «الإنسان المغربي»، أي في ملمح مركزي من الثروة اللامادية لأي جماعة بشرية. هنا يصبح مشروع منظومة التربية في صلب المعادلة. وحين نقول «منظومة التربية» فلأنها أكبر من «منظومة التعليم». ذلك أن مهام التربية تقوم بها مؤسسات عدة، ليست المدرسة سوى واحدة منها، إلى جانب الأسرة والإعلام ومجالات إنتاج القيم الفنية وكل المؤسسات ذات التأطير العمومي الجمعوي. هنا نكون بإزاء مشروع مجتمعي متكامل، بذات الشكل الذي تحقق مع مشروع «ميجي» باليابان. هل سينجح المغاربة في هذا التحدي التربوي؟. لا خيار لنا غير ذلك، لأن منطق التطرفات للأسف هو الذي أصبح يربح جغرافيات في يومينا المغربي، بشكل متواتر خلال العشرين سنة الأخيرة. وهي تطرفات إما ماضوية إنغلاقية أو تتوهم شكلا للحداثة لا علاقة له أبدا بالمعنى الحقيقي للحداثة كخيار منتج للتقدم والتطور والنماء، لأن الحداثة فلسفيا، هي في اكتساب القدرة العلمية وفي التصالح مع القيم الكونية الإنسانية كسلوك تربوي يومي لممارسة الحياة بكرامة. وفي التطرفين معا، يسقط حساب السقف الوطني للأسف عند الفرد المغربي الجديد، الذي يصبح ولاؤه إما للمشرق (في أكثر أشكاله انغلاقا وإقصائية وتطرفا) أو لمنطق تغريبي ليس متصالحا بالضرورة مع مصالحنا الإستراتيجية كأمة وكجماعة بشرية. ومن هنا الرهان الهائل على إصلاح منظومة التعليم وإصلاح منظومة العدالة وإصلاح منظومة الصحة وإصلاح منظومة الأمن كقطاعات استراتيجية لتحقيق استقلال القرار السياسي الذي هو الترجمان الأعلى للحداثة. في هذا الأفق، يكتسب خطاب العرش الجديد، معنى فارقا، كونه فعليا خطاب مسؤولية تاريخية. قوته العميقة كامنة في أنه خطاب نقدي، غايته توطين ثقافة سياسية محاسبة، ضمن سؤال أفق مشروع استراتيجي لاستحقاق المستقبل، أي مشروع مجتمعي يحقق فعليا بصمة المغاربة في تاريخهم الحدث أمام أنفسهم وأمام باقي العالم. خاصة إذا ما استحضرنا أهمية ذلك، في محيط عربي متوتر، محبط، انتكاسي ومتطرف. هنا يقدم المغرب والمغاربة طريقا ثالثة، هي العنوان الأبرز، ربما خلال القرن الجديد كله، لمشروع «ميجا» مغربي. هل ذلك ممكن فعلا؟. هو صعب أكيد، لكنه ليس مستحيلا أبدا.