كثرت خرجات الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، أحمد الريسوني، خلال الشهور الأخيرة، التي موضوعها الإفتاء في أمور ترتبط بأدوار المؤسسة الملكية بالمغرب، على مستوى إمارة المؤمنين ومؤسسة إصدار الفتوى ثم الطقوس المرتبطة بالبروتوكول الملكي. وإذا كانت هذه الخرجات تجلب دوما على صاحبها نقمة آنية، فإنها بالمقابل تحقق له أمرين: البروز كنجم إسلامي ينافس نجوما آخرين (خاصة ضمن جماعة العدل والإحسان وضمن فريق السلفيين الجدد)، ثم توسيع رصيد رفاقه في حركة التوحيد والإصلاح وفي حزب العدالة والتنمية على مستوى الرصيد الإيديولوجي بالعلاقة مع رجل الشارع. مما يترجم توزيعا للأدوار، يجعل الرجل يقوم بدور الرافع من النقاش. وهناك من لا يتردد في وصفه بعبارة أنه «فزاعة رفاق بنكيران» في العلاقة مع السلطة. في هذه المقالة التحليلية، يقارب الزميل لحسن العسبي، موضوعة فتوى الريسوني الأخيرة حول حفل الولاء وحول شكل التحية والسلام المخصصين للملك. وهي مقاربة تحاول الربط بين ثقافة سلوكية مغربية بمقاربة سوسيو ? أنثربولوجية، وبين تحدي التأسيس لدولة المؤسسات كما يمنح ذلك الدستور الجديد، والذي لا يحرص بنكيران كرئيس للحكومة كثيرا على التنزيل له. مثلما يقدم مقارنات مع تجارب أخرى، خاصة التجربة اليابانية، التي تغري كثيرا في هذا الباب. كل ينظر إليها من زاوية تحليله (مصلحته) السياسية. وكل يحكم عليها، بالتالي، من موقع حسابه، الذي يؤطره منطق للتدافع، عادي بين قوى أي تجمع بشري. إنها الخرجات الإعلامية المتلاحقة للأستاذ أحمد الريسوني، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح والرئيس الحالي لرابطة علماء أهل السنة، في علاقة بأدوار ورمزيات مؤسسة الملك، أمير المؤمنين، بالمغرب. وليس آخرها، ما رماه من حجر في بحيرة الطقوس المخزنية، المتعلقة بأمر شكل السلام والتحية التي يخص بها بعض المسؤولين والمواطنين شخص الملك، التي فيها انحناء وما يشبه السجود. بالتالي، هناك من سيرى فيها جرأة، من موقع النفور من تقاليد مخزنية عتيقة. وهناك من سيرى فيها تطاولا، وتجاوزا، عن تقاليد مرعية، تعتبر جزء من آلية الحكم تاريخيا في المغرب. إن هذه الكتابة، لا يهمها التموقع هنا أو هناك، بقدر ما يهمها قراءة هذا النوع الجديد من التدافع السياسي، مغربيا، الذي يوظف الدين في منطق للصراع على النفوذ المرجعي الذي يسعى إلى تشكيل صورة معينة لما يجب أن تكون عليه الدولة وما يجب أن يكون عليه المجتمع، أي المغاربة، كل المغاربة، في نهاية المطاف. ولعل أول السؤال الذي يطرح، هنا، هل أسئلة الراهن المغربي الذي يتحدى الجميع، هي أسئلة رمزيات تتعلق بشكل التعامل سلوكيا وفرديا، مع الجالس على العرش، أم هي أسئلة تحديات تنموية وحقوقية وعلمية وأمنية وبيئية؟. ولعل ما يفرض هذا السؤال، أنه في الدستور المغربي الجديد، كنص قانوني أسمى للدولة والأمة، ليس هناك ما يلزم بشكل معين للتعامل مع شخص رئيس الدولة (الملك)، لا على مستوى تقبيل اليد، أو الإنحناء احتراما، أو المبالغة حتى في ذلك الإنحناء من قبل بعضهم. بل إنه نص جد متقدم حين ألغى صفة القداسة عن شخص الملك، مؤكدا أن شخصه لا تنتهك حرمته ويوجب التوقير والإحترام (الفصل46 من الدستور). ألسنا هنا، أمام نوع من التحوير في الإهتمام، من إلحاحية وراهنية حماية بيضة الجماعة (بلغة فقهاءنا الاجلاء)، بكل التحديات التي يفرضها ذلك، ضمن منطق الصراعات الدولية المعقدة والمتشابكة اليوم، إلى التركيز على شخص الملك ورمزيته؟. إنه سؤال يفرضه منطق التأويل، أمام توالي مثل هذه الخرجات الإعلامية من أساتذة لهم كلمتهم المسموعة عند الناس. وهنا تكبر مسؤولية العالم، أمام مصلحة أمته وبلده، خاصة حين لا يستحضر منطق التاريخ، ودرس علم الإجتماع بمعناه الخلدوني، ولا درس علم الأنثربولوجيا، كعلم دارس للثقافات ورمزيات ودلالات السلوك العام. إن توالي خرجات الأستاذ الريسوني، التي يتحقق لها صداها الإعلامي، المرتبطة بالمعاني المحيطة (أدوارا ورمزيات) بمؤسسة أمير المؤمنين ومؤسسة الملك، المحددة دستوريا، منذ حديثه عن دور إمارة المؤمنين ومسألة الإفتاء، التي جرت عليه نقدا عنيفا حتى من رفاق حركته في التوحيد والإصلاح، وأطاحت به من على كرسي رئاستها، على عهد الدكتور عبد الكريم الخطيب، يجعل التأويل يرى في تلك الخرجات، نوعا من التجريب في علاقة العائلة السياسية ذات المرجعية الإسلامية مع مؤسسة الملك وأمير المؤمنين. وأن ذلك التجريب، يتراكم من خلال مد وجزر، صعود وهبوط في المواقف، تبعا لمنطق اللحظة، وما تخلقه من ردود الفعل. بالتالي، تمة منطق ما يحكم هذا الأسلوب، سياسيا وتواصليا، ضمن معنى لمشروع مجتمعي له مرجعياته الفكرية ومنطقه الخاص المتكامل. ولعل خطأ آشيل في هذا المنطق، كامن في «إيمانه» أن اللحظة لحظته التاريخية في الفعل مغربيا، وأن مؤسسات الدولة، التي لها تراكم خاص في التدبير (ومجرب) هي في لحظة إكراه للتحول. ويخشى أن يكون هذا المنطق أشبه بذلك المنطق الذي سكن بعض الرؤى في أوائل السبعينات من القرن الماضي، والتي كانت تؤمن أن «شرارة واحدة ستشعل النار في الحقل كله» (مقال شهير للراحل أبراهام السرفاتي). مع تسجيل الإختلاف طبعا في الفطنة السياسية والمرجعية الفكرية بين المنطقين، وكذا الإختلاف في منطق اللحظة التاريخية، لأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، دولة ومؤسسات ومجتمع. لكن، ما يجب التسطير عليه، أيضا، أن أطراف العائلة السياسية ذات المرجعية الإسلامية، من خلال نوعية هذه الملفات ذات البريق الإعلامي، والصدى العمومي، تحقق ربحا سياسيا لافتا، يؤسس لمسافة بينها وبين فريقها الذي يتحمل المسؤولية الحكومية، وتحقق من خلاله ضمان نسج العلاقة تواصليا ورمزيا وسلوكيا، أي إيديولوجيا، مع الرأي العام المغربي. وهذا أمر لم يتحقق صراحة مع تجربة التناوب الأولى لليسار المغربي، التي حكمها منطق أخلاقي خاص (كسب الثقة)، ليس فيه أي أثر للتدافع الذي يحكم طبيعيا البراغماتية السياسية النفعية. دون إغفال نقطة أخرى وازنة، أن خرجات الأستاذ الريسوني ليست معزولة أو مزاجية كما قد يتوهم البعض منا، بل هي منتمية لأفق أوسع دوليا، هو أفق الحركة الإسلامية العالمية، التي لها منطقها واستراتيجيتها ومرجعيتها الخاصة في التأويل (حتى لا نقول منطق إيديولوجيتها) ولها ميزانياتها المالية الضخمة، التي هي خليجية بالدرجة الأولى (سعودية وقطرية). بالتالي، فهي ليست معزولة أو بدون أفق وسند. لنعد لموضوعة تقبيل اليد والإنحناء احتراما، الذي حدده الأستاذ الريسوني في ما يسجل أثناء حفل الولاء بمناسبة عيد العرش كل سنة، والذي وصفه في رده لموقع هسبريس كالآتي: « .... في الدين والفطرة والذوق السليم، ذلك المشهد المشين المهين الذي يتكرر علينا كل سنة فيما يسمى حفل الولاء، حين يجبر جموع الناس على الركوع الجماعي للملك وفرسه، وكأنهم في صلاة وعبادة». وفي رده على سؤال ليومية «أخبار اليوم»، في عددها ليوم الإثنين الأخير، قال: «صحيح أنني رأيت صور العمال والولاة وهم يبالغون في انكسارهم وركوعهم. ولكنه على العموم لا جديد فيه. لكن المشكل هو أنه لا جديد. بينما الناس تنتظر الجديد منذ ثلاثة عشر عاما، وتنتظره بلهفة أكبر منذ إقرار الدستور الجديد وكثرة الحديث عن التنزيل الديمقراطي التقدمي للدستور». ويكفي هنا، تأمل لغة التصريحين ليتضح في الأول طغيان الخطاب الديني (وكأنهم في صلاة وعبادة)، بينما في الثاني تحضر السياسة والرسائل السياسية (الناس تنتظر الجديد بلهفة منذ إقرار الدستور وكثرة الحديث ? ولننتبه هنا جيدا لمنطوق الكلام ? عن التنزيل الديمقراطي التقدمي للدستور). إن التأويل الجائز هنا، هو التساؤل عن سياقات عبارة «التنزيل الديمقراطي التقدمي للدستور». أليس المعنى هنا يجوز أن الغاية هي أن تنزيل الدستور عند الأستاذ الريسوني ليس هو الصرامة في مسطرية تقوية المؤسسات التنفيذية، كما تطالب بذلك المعارضة الإتحادية في البرلمان، وتقوية مؤسسة رئيس الحكومة وسمو سلطة القانون، بل هو في الجديد البروتوكولي الخاص بشكل التعامل مع شخص الملك، رئيس الدولة. أليس ثاويا في ذلك، نوع من المزايدة السياسية؟. لندع السياسة ومزايداتها، ولنحاول الوقوف، عند ما يغيبه الأستاذ الريسوني في خرجته الجديدة هذه، من بعد متمثل في المعنى الثقافي الأنثربولوجي والتاريخي لفعل تقبيل اليد والإنحناء احتراما، مغربيا. والمثير أكثر، أن يغيب ذلك عنه هو بالذات، كونه كبر في منطق «ولد الزاوية». لأنه، مثلا، حين سبق وطرح الأستاذ محمد الساسي أمر تقبيل يد الملك، وطالب بإلغائه، في حوار شهير نشر بيومية «الإتحاد الإشتراكي» أجراه معه الزميل عبد الرحيم أريري، سنة 1999، بما جره عليهما من نقد، ومن ردود أفعال، فإن المنطق الذي حكم رؤية الساسي هو منطق حداثي لشروط المدنية، وليس له أية مرجعية لمنطق الزاوية. بينما الأستاذ الريسوني، مفروض فيه أن يكون أكثر وعيا، على المستوى التحليلي، في هذا الباب الرمزي الخاص بالضبط، من أن عادة تقبيل اليد والإنحناء احتراما في الثقافة السلوكية للغالبية العظمى من المغاربة، هو من موروث ثقافة الزاوية، وثقافة الصوفية، وثقافة تقديس الشرفاء من سلالة آل البيت ومن سلالة الرسول الكريم محمد وتقديس الشيخ. بل وأن عادة تقبيل يد الأبوين، ومن هو أكبر منك سنا وأكبر مكانة علمية ونسبا، هي مندرجة في باب رضى الله، حسب التأويل الشعبي المغربي، الذي يرى في رضى الأبوين ورضى الآباء الرمزيين، من شرفاء وشيوخ الزوايا والطرق الصوفية، بابا إلزامية لكسب رضى الخالق. وحين كان الملك الحسن الثاني، حريصا على هذا التقليد (بدليل القصة التي رويت عن ما وقع للأستاذ محمد بنسعيد آيت يدر معه، والتي نبهه فيها لواجب احترام طقوس دار المخزن أو اختيار عدم المجيئ إليها)، فلأنه رحمه الله، تأسيسا على الثقافة التي كان يؤمن بها في الحكم، كان يعتبر أمر احترام عادة تقبيل اليد ترجمانا لاحترام الأب واحترام الشريف واحترام أمير المؤمنين. أي أنه مندرج في ذات المنطق الثقافي الكلاسيكي للمغاربة. والجديد، ربما منذ رحيل الملك الحسن الثاني، هو أن الملك الجديد، محمد بن الحسن، لا يعتبر ذلك ملزما، بدليل الكثير من المواطنين العاديين وموظفي الدولة السامين الذين لا قبلوا يده ولا انحنوا له، ولم يكن ذلك سببا قط لأية ردود فعل لا من شخص الملك ولا من مسؤولي البروتوكول. ويكفي التدليل هنا، بالشكل الذي ظل دوما يسلم به الراحل ادريس بنزكري على رئيس الدولة وأمير المؤمنين، يدا بيد، ولا حتى بانحناءة رأس. وهذا أمر جديد، مادام الأستاذ الريسوني حريصا على الجديد في التنزيل الديمقراطي التقدمي للدستور، فقط في هذا الباب، وليس في الدور التأسيسي الحاسم لتجربة رئاسة الحكومة مغربيا، اليوم، بعد المصادقة على دستور 2011. المسألة في العمق، ثقافية سلوكية. والتربية الجديدة، رمزيا، يؤسسها رجالها. ومن هنا، فإن حفل الولاء، بالعبارات التي نسبها موقع هسبريس للأستاذ الريسوني، قد أصبح ربما عنوانا ثقافيا اليوم، أكثر منه طقس ديني للبيعة كما كان في الماضي البعيد والقريب، بالمنطق الذي كان يفرض على المريد الإمتثال والطاعة الكاملة للشيخ وللولي. ومعنى أنه عنوان ثقافي، أنه أصبح أداة لماركوتينغ تواصلي رمزي عنوانا عن ثقافة أمة، بذات الشكل الذي يتحقق مع الطقوس الإمبراطورية اليابانية مثلا. فالأمر هنا ينسحب على اللباس وعلى الآلية الطقوسية المصاحبة وعلى اللغة المستعملة، أي أنه «ماركة ثقافية مغربية» في نهاية المطاف. هل آدمية وحداثة الياباني تنقص من خلال الصرامة البرتوكولية في التحية الملكية؟ أليست جزء من ثقافة سلوكية عامة بين اليابانيين كافة؟ أليس الأساسي هو أن الدولة اليابانية دولة مؤسسات، يحكمها قانون ودستور، وكل مؤسسة تلعب دورها كاملا تبعا لروح ذلك الدستور؟. أليس هذا هو ما يجب أن تمتلك الطبقة السياسية المغربية، وضمنها العائلة السياسية الإسلامية، الشجاعة الكاملة لفرضه في الواقع المغربي لما فيه الإنتصار للمشترك بين الجميع، الذي هو دولة الحق والأمن والمؤسسات والعدل والقانون؟. إن الأمر مغر فعلا بالتأمل والتحليل مغربيا. أي تأمل هذه الثقافة السلوكية في شكل التعبير عن التوقير للأكبر سنا، وللأكبر قيمة رمزية. لأنه، لم لا نزال في أغلبيتنا نقبل يوميا يد أمهاتنا وآباءنا؟. لم نقبل يد كبار أهل الحي والجيرة؟. لم نقبل يد الأجداد والجدات؟. لم نقبل يد الفقيه؟. إن من الأمور التي ظلت دوما تستفز وعيي المؤطر مدينيا ومعرفيا بمرجعية فكرية منتصرة للحداثة ولمنطق نظام المدينة، أنني كنت كلما ألتقي مثلا مع العلامة عمر المتوكل الساحلي رحمه الله، لا أتردد في تقبيل يده، تقبيل الإبن ليد والده.ولا أزال ثقافيا، مثلي مثل الكثيرين، نمارس ذات التقليد مع رجال ونساء، تقبيل يدهم عنوان احترام وتوقير. وهذا أمر مستفز للتأمل الفكري جديا. ولعل السؤال الذي يطرح هنا، لم مثل هذه التقاليد السلوكية، ثقافيا، توجد أكثر في البلاد الإسلامية التي ولدت ونمت فيها الصوفية، وهي المغرب وتركيا وإيران؟. ولأن الشئ بالشئ يذكر، لي العديد من الإخوة والأصدقاء بالجزائر وتونس، يتساءلون دوما باستغراب عن هذا السر الكامن في تعابيرنا العمومية المغربية الشائعة من قبيل :»سيدي» و «لالة». وبعضهم يرى فيها خنوعا في الشخصية، يسقطه على أمة مغربية بكاملها، مما كان يتطلب دوما نقاشا معرفيا وثقافيا وتاريخيا طويلا بيننا. ولعل المثير، أن زميلا جزائريا يحب فينا كثيرا عبارة «لالة» لأنه فيها تقدير للأنثى، ويمج فينا عبارة «سيدي» الخاصة بالرجال. لابد، أخيرا، في محاولة القراءة هذه، أن لا نسقط معطى مهم، هو المرجعية الفكرية التي يصدر عنها الأستاذ الريسوني، في هذا الموضوع بالذات. فهي مرجعية إطلاقية تعميمية، تتأسس على إيديولوجيا توحيدية (ليس بالمعنى الديني، بل بالمعنى السياسي). غايتها توسيع شكل معين للتدبير العمومي للجماعة الإسلامية، امتثالا لنموذج مجتمعي نازل من علياء نظرية سياسية تتأسس على تأويل ديني سلفي مشرقي، لا علاقة له تاريخيا بالسلفية المغربية الأصيلة، التي لها شجرة أنسابها الخاصة، منذ السعديين. أي منذ حكمت المغاربة عائلات بالسند الشريف وبمنطق إمارة المؤمنين، الموحدة للبلد. ولعل من أكثر الأبواب دلالة على الخصوصية المغربية في كل العالم العربي الإسلامي، هي في هذا الباب بالضبط. أي السلوك الثقافي والرمزي لمعنى العلاقة بين الفرد والجماعة، الذي يتأسس على تراكب غنى متعدد لا يفهم فيه إخوتنا المشارقة أي شئ عن درجة تداخله وتعقده. بدليل أن السني والشيعي في المشرق، كل يعتقد أن أهل البلد من أتباعه. فحفظة القرآن تاريخيا هنا، والورد هنا، وعاشوراء وماء زمزم هنا أيضا. وأغلب آداب السفريات الحجازية وأغلب مراجع الفتاوى في فقه النوازل، التي تؤتث كبريات مكاتب جامعات الخليج ومعاهدها الدينية، هي مغربية. وحتى عند المراجع الشيعية العليا في إيران وغيرها، فهي تعتبر المغاربة «شيعة سنيون». ولعل التوصيف الأسلم هنا، تلك الجملة التي قالها أية الله خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، للراحل الفقيه البصري، يوم زاره في إطار جولته على عدد من العواصم التي ساعدته في منفاه، قبل أن يدخل نهائيا إلى المغرب سنة 1995، حيث قال له: «نحن هنا في إيران لا يمكن أن نغضب أو نعادي العائلة الملكية في المغرب، لأنهم من سلالة فاطمة وأبناء علي رضي الله عنهم. ثم إننا نعتبر المغاربة شيعة مغلفون بقشرة رقيقة من السنية».. هكذا يرانا الشرق العربي والإسلامي، وهكذا يحاول أن يتوزعنا بين سلفية الحجاز المتشددة وبين شيعية «قم» الإيرانية. لكن، لا أحد انتبه أن قوة النسيج المجتمعي المغربي تاريخيا، أنه لم يتأسس قط على الطائفية، بل إنه تأسس على تقديس آل البيت وعلى الإيمان بالإسلام دينا موحدا، وعلى تمجيد العربية لغة نص مقدس تعلي من قيمة ممتلكها اجتماعيا وقيميا عبر التاريخ. بدليل أن نواة المجتمع التي هي الأسرة، التي تتأسس من خلال الزواج، قد ظل الشرط فيها، هل أنت مسلم أم لا؟ وليس أي مسلم من أية طائفة أنت. وهنا سر قوة النسيج المجتمعي مغربيا عبر التاريخ. القوة التي جعلتهم الوحيدين، أيضا، الذين تعايشت عندهم اليهودية ثقافيا واجتماعيا، بمنطق فعلي وديني لأهل الذمة، مع الجماعة المسلمة. والذي جعل مدينة مثل الصويرة، تكون المدينة الوحيدة في كل الشساعة الإسلامية، التي كان عدد اليهود فيها، في فترة من الفترات، أكبر من عدد المسلمين، وتحقق التعايش فيها بشكل إنساني وحضاري رفيع. وبهذا المعنى، فإن تنصيص الدستور الجديد على تعدد مشارب الهوية الثقافية للمغرب (عربية، أمازيغية، صحراوية، يهودية ومتوسطية)، إنما يعتبر الترجمان الأسمى لهذا الغنى الثقافي الذي لا يفهمه إخوتنا في المشرق، وللأسف بعض من تابعيهم من إخوتنا المغاربة.