البعض يطلق عليه "الإسثتناء المغربي" والبعض الآخر يفضل توصيف "الخصوصية المغربية"، ولا نعدم من لا يتفق مع التوصيفين معا، أحيانا من باب الموقف المسبق سلبا (أو يأسا) من كل ما هو متعالق مع تطورات المغرب والمغاربة، حتى والحقيقة التاريخية والمجتمعية، ومنطق "العمران" (بالمعنى الخلدوني)، يقدم الكثير من الأدلة الدامغة على قوة هذه الخصوصية وذاك الإسثتناء. ما يهمنا هنا، هو التعالق بين التطورات المتراكمة في محيطنا العربي والإسلامي ، هذه الشهور، وحركيتنا المغربية للإصلاح والتغيير. الحركية التي تتبدى اليوم، من خلال الرسائل المتبادلة، مواقف ونتائج ورمزيات، بين حركة الشارع المغربي (حراك 20 فبراير ليس سوى جزء جديد ومؤثر منه) والدولة. وهي المواقف والنتائج والرمزيات، التي يمكننا تلخيصها في مطالب المجتمع (إسقاط الفساد، إبعاد رموز الفساد، الإصلاح الدستوري، الملكية البرلمانية، انتخابات جديدة، حكومة جديدة، مطالب خدماتية ملحة ضمن ما يوفره نظام المدينة الحديث التي تترجم المعنى الكامل للمواطنة)، وجواب الدولة (خطاب 9 مارس التاريخي، دستور جديد، انتخابات سابقة لأوانها يوم 25 نونبر الجاري، حكومة جديدة منتظرة لتنزيل روح الدستور الجديد، الذي سجل نسبة مشاركة كبيرة، وقبل ذلك كله إحداث عدد من المؤسسات الضامنة للعدالة الإقتصادية والثقافية والسياسية). ولعل ما يمكن تسجيله، هو أن الحركية المغربية، كما تتم، وكما تفرز من تطورات ونتائج، ميزتها الكبرى، أنها "بين بين". أي أنها، على عادة التطورات السياسية في بلادنا، لا تقدم كل المطلوب والمنتظر، ولا تسد الباب أمام أي تطور أوإصلاح. ولعل في نص الدستور الجديد المصادق عليه بنسب عالية، ما يقدم الدليل على ذلك. فهو أكثر الدساتير مغربية مئة بالمئة، منذ مشروع الدستور المجهض لسنة 1908، مما يجعله اجتهادا مغربيا خالصا. مثلما أنه أكثر النصوص الدستورية المغربية تقدما (بل إنه جد متقدم على كل الدساتير العربية، في انتظار النتيجة الدستورية التونسية، ثم النتيجة المصرية بدرجة أقل)، مقارنة مع الدساتير التي توالت منذ 1962. لكنه لا يرتقي كلية إلى المطلب السياسي للشارع المغربي ولجزء من الأحزاب المغربية، المتمثل في الملكية البرلمانية. لكن، روحه، روح إصلاحية واضحة غير مسبوقة، ومتقدمة على مستوى ترجمته لمنطق حقوق الإنسان في معانيها الكونية، أي في أبعادها الإقتصادية والسياسية والثقافية والجهوية. من خلال تنصيصه على الإستقلال الدستوري لعدد من المؤسسات (خاصة القضاء)، وتقوية التشريع (من خلال ترسيم دور البرلمان في ذلك)، ومأسسة دور الحكومة (اختيار رئيس الحكومة من الحزب الغالب انتخابيا، واختياره الولاة والعمال وموظفي الدولة السامين)، جعل الأمازيغية لغة رسمية للدولة بعد العربية، التنصيص على أن روافد الهوية المغربية متعددة، تتغدى من العمق العروبي والإسلامي والأمازيغي والحساني واليهودي، إسقاط تأويل القدسية، تحديد الدور المدني للملك كرئيس للدولة، وتحديد دوره الموازي كأمير للمؤمنين. ثم، وهذا واحد من عناوين الخصوصية المغربية المقصودة ضمن عمقه العربي والإسلامي، التنصيص على إسلامية الدولة (ليس دولة مسلمة، بل دولة إسلامية). لأنه يغلق الباب، أمام أي عائلة سياسية حزبية أن تحتكر الدين، أو تدعي التحدث باسمه، كما يحدث في سماوات عربية وإسلامية أخرى (كما حاولنا تبيان ملامحه في الورقة السابقة حول فكرة بداية زمن "الأحزاب الديمقراطية الإسلامية" ما بعد الحراك العربي المنطلق منذ أحد عشر شهرا). حلم الإصلاح.. قصة مغربية قديمة إن ما يترجمه، الحراك المغربي، كعنوان عن خصوصية في كل العالمين والعربي والإسلامي، وأن هناك آلية لهذا الحراك، روضها تراكم في الفعل والتجربة السياسية للمجتمع والدولة، منذ عقود عديدة. وأن لتلك الآلية شجرة أنسابها الخاصة، التي تجعل فكرة الإصلاح فكرة قديمة عند المغربي، لسبب مركزي حاسم، هو أن واقع وفكرة الدولة، كتنظيم سياسي إجتماعي فوق جغرافية محددة، هو واقع متحقق منذ قرون عند المغاربة. ومعنى الإصلاح، كمفهوم سياسي حديث، مرتبط بالدولة الحديثة، التي ولدت من رحم نظام المدينة الجديد، كما بلورته البوزجوازية بأروبا، منذ بدايات القرن 16، الذي يحدد دور الدولة في تنظيم الخدمات العمومية وتوفيرها ورعايتها، وخلق آلية للتداول على السلطة، تسمح بترجمة التدافع بين المصالح في المجتمع بشكل سلمي، عبر الآلية الإنتخابية، التي تعتبر الترجمان الأسمى لإرادة الأغلبية من أفراد المجتمع. إن هذا المعنى للإصلاح قد بدأ يتبلور مغربيا، كمشروع نخبة منذ أواسط القرن 19، وبالتحديد، منذ عهد السلطان العلوي، مولاي عبد الرحمان الذي امتد حكمه ما بين 1822 و 1859، بسبب عامل خارجي ضاغط، هو الإحتلال الفرنسي للجزائر المجاورة منذ 1830، والدور المغربي في مقاومة ذلك الإحتلال. الدور الذي تجلى في دعم المقاومة الجزائرية التي يتزعمها آنذاك الأمير التلمساني، عبد القادر الجزائري، الذي تعود بعض المصادر بأصوله إلى الأندلس، والذي بايع مع أهل تلمسان وكل شريط الغرب الجزائري، سلطان المغرب، سلطانا عليهم أيضا في وثيقة رسمية مكتوبة. ولقد تصاعد ذلك الدعم المغربي الرسمي، إلى مستوى بعث جيش مغربي كامل، بقيادة ابن السلطان مولاي عبد الرحمان، سيدي محمد بن عبد الرحمان (الذي سيتولى الملك بعد وفاة والده سنة 1859)، لمحاربة الفرنسيين سنة 1844، في الموقع الذي عرفت المعركة باسمه وهو وادي إسلي (وادي الحجر الصلد، بالأمازيغية)، بالأراضي الجزائرية. فكان أن هزم الجيش المغربي يوم 14 غشت 1844، هو المتكون من 60 ألف فارس مسلح، أمام جيش فرنسي منظم تنظيما عسكريا حديثا، ومسلحا تسليحا مدفعيا متطورا، ولم يكن عدد جنوده يتجاوز 11 ألف عسكريا. كانت تلك الهزيمة، أول الصدمة المغربية (حكما ومجتمع)، فبدأ السؤال يكبر عن السبب. ومع ميلاد السؤال، بدأت ملامح الأجوبة تتعدد وتتباين، وتتوزع بين التأويل الشعبي الخرافي (انتقام السماء من الإبتعاد عن الطريق القويم) وبين تأويل الفقهاء المتوازي مع هذا التأويل الشعبي العمومي، وبين انتباه جزء من النخبة الحاكمة في المغرب، أن الأمر يستوجب شكلا جديدا للإصلاح، يبدأ بالجيش وتجهيزه، ويمتد إلى باقي أشكال التدبير العمومية للدولة. هنا ولد ذلك السؤال القلق مغربيا، الذي لا يزال يؤرق الوعي العربي والإسلامي، وضمنه الوعي المغربي: لماذا تقدم الآخر؟ ولماذا تخلفنا نحن؟. والمشكلة هنا، هي أن هذا الآخر في الذهنية تلك، مخالف حضاريا وخصم مصلحيا في ضفة البحر الأبيض المتوسط الشاسعة، من مضيق جبل طارق بالمغرب، حتى ممر البوسفور بتركيا. فولد أول الحراك الإصلاحي بالمغرب، على مستوى الدولة المغربية (الحقيقة ولد ضمن جزء من النخبة الحاكمة)، بعد هزيمة 1844، وما تلاها من اتفاقية "للا مغنية" لرسم الحدود بين الدولة المغربية والجزائر المحتلة من قبل الفرنسيين، يوم 18 مارس 1845. ولقد تواصل هم الإصلاح في عهد السلاطين سيدي محمد بن عبد الرحمان (محمد الرابع) الذي حكم، بين سنتي 1859 و 1873، ومولاي الحسن الأول الذي حكم بين سنتي 1873 و 1894، ومولاي عبد العزيز الذي حكم بين 1894 و 1908. ولقد واجه المغرب حينها حربا أخرى جارحة، بعد هزيمة إسلي، هي حرب تطوان ضد الإسبان سنة 1860، التي كان للتدخل الإنجليزي الدور الحاسم في توقيفها والتقليل من النفوذ الإسباني مؤقتا في الشمال المغربي. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن الدور الإنجليزي كان دوما دورا حاسما ومؤثرا في المغرب خلال القرون الثلاثة التي سبقت إعلان الحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب سنة 1912. فقد كانت لندن هي الشريك الإقتصادي والعسكري والديبلوماسي الأول للمغرب، تليها هولندة، ثم صقلية، ثم إسبانيا، ثم تركيا، وكانت باريس اقتصاديا وعسكريا وديبلوماسيا في مراتب متأخرة، حتى بداية القرن العشرين. بل إن المؤتمرات الدولية، التي عقدت حول ما عرف ب "القضية المغربية"، منذ أواخر القرن 19، في مدريد مرتين، ثم في الجزيرة الخضراء سنة 1906، كان للندن فيها الكلمة الفاصلة، اعتبارا لقوة حضورها في الموانئ المغربية اقتصاديا، وكذا حضورها السياسي والديبلوماسي والعسكري في البلاط السلطاني (وهذا موضوع يضيق المجال هنا لتفصيل القول فيه بالتواريخ والأسماء والمهام. يكفي فقط تسجيل أن البلد العربي الوحيد الذي كانت لندن تعين فيها سفيرا برتبة لورد ملكي، ووزير، هو المغرب. وفي العالم الإسلامي كنا نشترك مع الباب العالي العثماني بإسطنبول في ذلك). كان هم الإصلاح، إذن، قد بدأ يتعاظم مع توالي حكم هؤلاء السلاطين، ليسجل تطورا ملحوظا في عهد السلطان مولاي الحسن الأول، الذي اختطفه الموت بسبب مرض في الكبد، ببلاد الرحامنة، وهو في طريقه إلى فاس قادما من مراكش، قبل أن يحقق كل مشروعه الإصلاحي، الذي ابتدأه بالجيش والتصنيع الحربي (دار البارود بفاس التي بناها الإيطاليون)، وكان له خبراء عسكريون إنجليز وألمان. ثم بالإصلاح الضريبي، من خلال محاولة تنظيم الضرائب والمالية العامة للدولة (ضريبة الترتيب الموحدة)، ثم تنظيم خدمة البريد وتحديثها (لإعادة تنظيم انتقال المعلومة والأخبار، أي التواصل مع كل مناطق البلاد)، ثم تجفيف أسباب العصيان على السلطة المركزية، من خلال محاولة تطويع ما يعرف ببلاد السيبة، باستعمال مدفع حربي جديد بالمغرب آنذاك، مستقدم من ألمانيا (وهنا تأتي زيارته إلى أعالي جبال الأطلس الكبير، وعبوره ممر تيشكا الصعب، في طريق عودته من تافيلالت. ثم اهتمامه بالصحراء الغربية، من خلال المماطلة في قبول نتائج اتفاقية ما بعد حرب تطوان، التي فيها تنازل عن بعض النقط البحرية بالصحراء تلك لصالح الإسبان. ثم الدفاع عن مناطق توات في الصحراء الشرقية، التي تضم ملتقى تندوف الإقتصادي السنوي "موسم أموكار" التي تعني بالأمازيغية التلاقي). ثم تعزيز الإصلاح البحري (موانئ وأساطيل) الذي شرع فيه منذ عهد سيدي محمد بن عبد الله العلوي. وبالموازاة مع ذلك، حرص على إرسال بعثات طلابية مغربية إلى أروبا، من أجل جلب التقنيات الجديدة في مجال تدبير الدولة الحديثة، على كافة المستويات الخدماتية. وهي البعثات الطلابية التي سيحول تكتل المصالح بين الفقهاء والقواد، ضمن النظام التقليدي للدولة (المخزن القديم)، دون ترجمة أثرها على الواقع المغربي، بل وبلغ الأمر حد تكفير أولئك الطلاب لأنهم يلبسون اللباس الأروبي وتمت تصفيتهم. وهو نفس التكتل الذي سيصدر في ما بعد فتاوى دينية تحرم شق السكة الحديدية، التي كانوا يسمونها "بابور البر"، وكذا تحريم ربط المغرب عبر طنجة بالتلغراف لأنه رجس. لتنضاف تلك الفتاوى إلى أخرى سابقة، كانت قد حرمت الشاي والقهوة. ذات الروح الإصلاحية، ستتواصل في عهد السلطان مولاي عبد العزيز (هذا السلطان لم ينصف تاريخيا بعد، لأن أغلب ما يعتمد في التأريخ له فرنسي فقط، رسم عنه صورة سلطان متصابي منبهر بالمنتجات التقنية الغربية. بينما الحقيقة أنه كان خصما لذوذا لفرنسا، وكان حليفا لإنجلترا وميالا لتركيا بسبب أن الترك هم أخواله. لأن والدته "للا رقية" زوجة السلطان مولاي الحسن الأول من أصل تركي، وكانت سيدة متعلمة وذات دربة سياسية، وهي التي رعته بعد أن أقنعت الصدر الأعظم باحماد بضرورة اختياره سلطانا على المغرب حتى وهو في الرابعة عشر من عمره ومن أصغر إخوته). ولعل من أهم ملامح ذلك الإصلاح العزيزي، محاولته عصرنة النظام الضريبي، من خلال جعله نظاما مدنيا من خلال محاولة تنظيم وتوحيد الضريبة وتجاوز النظام التقليدي للزكاة كمصدر وحيد للضريبة على المنتجات. أي محاولته تعزيز ضريبة الترتيب التي استحدثها والده، وكانت النتيجة فشلا كبيرا، لأن قوة المقاومة الداخلية، قد نجحت في تقويض ذلك المشروع، فاختنقت مالية الدولة التي دفعت للقروض الخارجية، فتم إغراق المغرب بالديون، التي مهدت عمليا للحماية في سنة 1912 . مثلما أنه شجع فكرة الدستور، التي ستتبلور من خلال مشروع الدستور المجهض لسنة 1908، الذي وضع حدا له عمليا، السلطان مولاي حفيظ، لأن قوة الفقهاء والقواد كانت قوية ونافذة، ولأن المصلحة الأجنبية المهتمة ب "القضية المغربية"، لم تكن لتقبل بذلك التطور التدبيري الهام، بسبب أنه سيعرقل كل مخططاتها لتقسيم الكعكة المغربية بينها كدول استعمارية. صدمة الإستعمار.. التحول في مشروع الإصلاح المغربي إن ما حدث بعد توقيع اتفاقية الحماية يوم 30 مارس 1912، هو أنه لأول مرة ستنتقل فكرة الإصلاح، من هم للنخبة بالمغرب (حتى وهي نخبة حاكمة على مستوى رأس الدولة، لكن الأداة الإدارية التقليدية لم تكن مستجيبة بالسرعة واليقين والإنضباط الكاملين)، إلى هم للمجتمع المغربي بكل أفراده. لأن السؤال الذي طرح على النخبة المغربية بعد هزيمتي معركتي إيسلي أمام فرنساوتطوان أمام إسبانيا، قد أصبح سؤالا عموميا بالمغرب بعد الحماية واحتلال الأجنبي للأرض وبداية استغلاله لثرواتها. وأصبح الهم العمومي بعدها، هو تحرير الأرض وتحرير الإنسان، من خلال بروز نخبة مدينية جديدة بالمغرب، ابتدأت سلفية مغربية وطنية متنورة، وتطورت لتصبح سياسية حزبية كانت الحجر الأساس لما عرف بالحركة الوطنية المغربية. هنا ولد مغرب جديد، تبلورت ملامحه على مدى ثلاثة عقود من الزمن (من 1930 إلى 1961)، أنضج جيلا من القادة المغاربة على المستوى المجتمعي، صعب أن يعاد إنتاجهم بذات القوة والتأثير، بعد ذلك، إلى اليوم (جيل شيخ الإسلام بلعربي العلوي، أبى شعيب الدكالي، المختار السوسي، عبد الله كنون، علال الفاسي، أحمد اليزيدي، أحمد بلافريج، المهدي بنبركة، عبد الرحيم بوعبيد، محمد بلحسن الوزاني، عبد الخالق الطريس، امحمد بنونة، عبد الرحمان اليوسفي، الفقيه البصري، محمد الزرقطوني، أحمد زياد، عبد الكبير الفاسي، الدكتور الخطيب، المحجوب بن الصديق، عبد الهادي بوطالب، أحمد بنسودة... وغيرهم كثير). كان هم ذلك الجيل، الإصلاحي العام، هو تحرير الأرض من المستعمرين الفرنسي والإسباني والدولي بطنجة، وتحرير الإنسان المغربي من التخلف. وأن لا سبيل إلى ذلك، إلا بإعادة بناء الدولة بشكل حديث. وكانت نتيجة ذلك الحراك المجتمعي غير المسبوق في تاريخ المغرب، وهو حراك للإصلاح يمتد على قرن كامل حتى الآن، أن تبلورت قوتان ناهضتان في هذا المغرب الجديد، بعد صدمة الإستعمار: أ ? قوة الدولة الفتية، التي لها هم إصلاحي، وتجر وراءها إرثا ثقيلا من الأسلوب التدبيري المخزني العتيق، وكانت غايتها إعادة تنظيم ذاتها بشكل جديد. وهنا كان الدور البارز للملك الوطني محمد الخامس، الذي فهم أن لا شرعية لذلك الإصلاح بدون التحالف مع المجتمع ومع ما أفرزه من نخب ذات شرعية شعبية واجتماعية. بل إنه تحول إلى رمز لذلك الإصلاح حين رفض الخضوع لمنطق المستعمر وخير بين البقاء في العرش أو إنزاله منه والنفي، دون أن تكون له أية ضمانة على إمكانية عودته للحكم. فاختار أن يكون رجلا، كونه فظل النفي على الإمتثال لدفتر تحملات المستعمر. ورد له المغاربة نخبة ومجتمع، التحية بأحسن منها، حين أصبح الشعار الوطني الأبرز هو: "ملكنا واحد.. بن يوسف إلى عرشه". ب ? قوة المجتمع الناهض، الذي يريد ربح الزمن الضائع في التخلف، من خلال الإنخراط الكبير في التعليم، وفي ترسيخ أنوية المجتمع المديني الحديث (إشراك المرأة في التعليم وفي الحياة العمومية، منذ أربعينات القرن الماضي. الدفاع عن دولة المؤسسات المسنودة بالشرعية الديمقراطية لصناديق الإقتراع). أي بناء الدولة الحديثة على أسس خدماتية منظمة، يؤطرها دستور وتنتج مؤسساتها آلية انتخابية حرة وعمومية، وتكون الدولة ملكية برلمانية ذات مؤسسات قوية باستقلالها وشرعيتها الشعبية العمومية. وكانت النتيجة البارزة لتدافع هاتين القوتين الناهضتين (قوة الدولة الفتية التي تريد إعادة بناء ذاتها. وقوة المجتمع الناهض الذي أيقظته صدمة الإستعمار)، هي تبلور تجربتين مهمتين، تعتبران اليوم مادة خام هائلة، تصلح موضوعا للقراءة والتأمل واستخلاص العبر: 1 ? أنه كلما وقع تكامل بين القوتين، تحدث "ثورة" في الفعل العمومي المغربي، بالمعنى الإيجابي البناء للكلمة. بدليل ما وقع على عهد الملك الوطني محمد الخامس. حيث كان هم الإصلاح هما مشتركا، منسقا بين القوتين. وكان كلاهما في خدمة الآخر، مدافعا عنه، حاميا له. وبهذا المعنى تكتسب مقولة "ثورة الملك والشعب" كل معانيها وألقها. وهي ثورة تواصلت حتى بعد خروج الإستعمارين من جزء كبير من الأراضي المغربية (كانت قد بقيت مستعمرة حينها بلاد شنقيط، أي موريتانيا الحالية. والصحراء الغربية بإقليميها الكبيرين الساقية الحمراء ووادي الذهب. ولقد خلقت باريس دولة موريتانيا، سنة 1962 ، باعتراف من أول رئيس لها المختار ولد داداه في مذكراته الهامة والغنية. واستعاد المغرب بالتتابع إقليمي سيدي إفني وطرفاية ثم الصحراء الغربية على مدى عشرين سنة بالتتابع. ولا تزال مدينتي سبتة ومليلية محتلتين وعدد من الجزر المتوسطية من قبل الإسبان). 2 - أنه كلما وقع تنافر بين القوتين، تكون المواجهة ثقيلة على مستوى فاتورتها الحقوقية والإنسانية والتنموية والأمنية. وهذا ما حدث على طول سنوات الرصاص، في عهد الملك الراحل المغفور له الحسن الثاني، التي أغرقت المغرب في جراح ومآس وجرائم حقوقية، لا تزال تبعاتها متواصلة إلى اليوم. مثلما عطلت كثيرا من ممكنات التحول المغربي في معناه التاريخي، تنمويا واقتصاديا وعلى مستوى الخدمات الواجبة ضمن نظام المدينة الحديث. وكان لا بد من أن تنقد السماء (والبركة) البلاد كلها من تبعات محاولتين انقلابيتين، كي يستيقض في الملك الراحل رجل الدولة الكامن، ويشرع في إعادة ترتيب إشكال الثقة بين "نخبة الدولة" التي أعادت تنظيم نفسها منذ الستينات، من خلال السعي لإحياء النظام المخزني المطلق، القائم على اقتصاد الريع وعلى جعل المجتمع في خدمة الدولة، بدلا من أن تكون الدولة في خدمة المجتمع (مفيد جدا هنا قراءة كتاب المفكر المغربي عبد الله العروي "المغرب والحسن الثاني"). وبين "نخبة المجتمع"، التي من حظ المغاربة التاريخي ربما، أنها نخبة وطنية، سليلة الحركة الوطنية، لم تحكم بعد الإستقلال، فاشتغلت على تأطير المجتمع لتنظيمه كقوة ناهضة، من أجل دولة المؤسسات الحديثة، مما أعلى من الوعي المدني والسياسي للغالبية العظمى من المغاربة. وهو الوعي المدني والسياسي، الذي يهب للمغربي أن يكون سياسيا، غير باقي تجارب أشقائه العرب والمسلمين، على مستوى نوعية التجربة والخطاب والممارسة. مشكلة الثقة.. والبين بين إن ما سبق استعراضه، بتلخيص تاريخي كبير، يؤكد أن خصوصية المغرب كامنة في شرعية الدولة وشرعية المجتمع الراسختين. وهي شرعية يلحمها تراكم في الرؤية للذات يوسم عادة بالأثر الحضاري. مثلما يؤكد أن الصراع مغربيا، منذ قرن ونصف من الزمان هو صراع مفتوح بين التقليدانية والحداثة. بين المحافظة والإصلاح. وأن هذا الصراع الذي يتجاذب الدولة والمجتمع، ويخترقهما معا، في هذه المرحلة التاريخية أو تلك، هو الذي جعل إشكالا للثقة قائما بين "نخبة الدولة" و "نخبة المجتمع" (بالتعدد الذي يتحقق لهذه النخبة حسب اللحظة التاريخية وميزان القوى، والموزعة بين الوطني والتقدمي اليساري والإسلامي). وتواصل إشكال الثقة، الذي اعتقد أنه تم تجاوزه مع حكومة التناوب الأولى والثانية، برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، والذي عاد قويا منذ التراجع عن المنهجية الديمقراطية سنة 2002، هو الذي يجعل روح التنافر بين قوة الدولة التي لا تزال تجدد ذاتها مؤسساتنا وتنظيميا (وللحقيقة هي المؤسسة الأكثر وضوحا في منهجية عملها الخاصة، فهي تعرف ما تريد وتتجه رأسا إليه بما يجب لذلك من تطوير في آليات العمل الإدارية وفي اقتناص الأطر الكفؤة)، وقوة المجتمع الذي يجدد ذاته تنظيميا (وحراك 20 فبراير جزء من آلية التجديد هذه وليس عنوان ذلك الحراك المغربي وحده)، يجعل روح التنافر لا تزال قائمة في مستويات معينة (خاصة في شق الفعل السياسي الحزبي)، مثلما يجعل روح التكامل قائمة في مستويات أخرى (خاصة معاني حقوق الإنسان في أبعادها الثقافية والمجتمعية والحقوقية). أي أننا مغربيا في مرحلة "بين بين". ومثل هذه المراحل تكون دقيقة وخطيرة. فإما تحول مأمول صوب رحابة الإصلاح والحداثة ودولة المؤسسات، وإما انزلاق صوب تجديد للتقليدانية، ومركزة للسلطة في "نخبة الدولة" بالقطيعة مع "نخبة المجتمع". في تاريخ حركية الإصلاح مغربيا، كثيرة هي لحظات "انتصار" التقليدانية على التطور والتحديث. والعديد من ملامح الفعل السياسي الآن (تجريب آلية الوافد الجديد، ثم تجريب التحالف الثماني)، تؤكد أن ذات منطق الصراع لايزال قائما، وأن إشكال الثقة لا يزال قائما، وأن المعركة لا تزال مفتوحة بين روح الإصلاح ومقاومة التقليدانية. لكن، علينا الإنتباه ربما، أن الورقة الحاسمة اليوم، هي صوت الناخب المغربي. وفي حال كانت نسبة المشاركة كبيرة في انتخابات 25 نونبر 2011، فإن الدرس المغربي، ليس فقط أنه سيعزز الدرس التونسي في الديمقراطية، بل إنه سيضع المغرب نهائيا في أفق نادي الدول الديمقراطية ودولة المؤسسات. لأن تلك المشاركة القوية في التصويت، هي التي ستفرز نخبة سياسية للإصلاح وحدها التي ستمتلك الجرأة السياسية لتنزيل روح الدستور الجديد فعليا في واقع المغرب والمغاربة. هل رجل الشارع المغربي سيكون في الموعد؟ هل يدرك أن لحظة 25 نونبر، ليست فقط لحظة انتخاب عابرة، بل لحظة لصناعة تحول تاريخي مغربي؟.. في مجال العلوم الإنسانية، هناك حديث دائما عن منطق "المثير الإجتماعي". فهل هو متحقق أمام المغاربة؟. أليس الإعلام العمومي هو المؤهل للعب دور "المثير الإجتماعي" المرتجى؟. لكن، أليست الروح العابرة في هذا الإعلام حتى الآن دون المستوى المطلوب؟. في الحقيقة، كم يحتاج مهندسوا الفعل السياسي المغربي، هنا والآن، تمثل الحكمة المغربية القديمة "للي كايحسب بوحدو كا يشيط ليه". والتاريخ يقدم لنا دروسا منذ 1844، أنه كلما تحقق التكامل في مسيرة المغاربة التاريخية بين قوة الدولة وقوة المجتمع، حدتث "ثورة" بالمعنى البناء والإيجابي للكلمة. وكلما حدث تنافر كنا ضمن منطق "الزمن الضائع".