ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، رفض الأحناف، إذن، الإقامة العقدية وراء سياج أوثان لاحظوا أنها لا تملك لنفسها نفعا أو ضرا، بل تتبول عليها الثعالب التي تومض عيونها في ليل قريش، فقاموا بتنكيسها وساحوا في الأرض بحثا عن الدين الحق. وهكذا شرع الجيل الأول من الأحناف، حسب الباحث جمال علي الحلاق، "في التجوال في المدن التي كانوا يعرفونها يومذاك، من الحبشة جنوبا إلى الموصل شمالا، ومن فلسطين غربا إلى ما وراء الحيرة شرقا، باحثين عن جدوى لوجودهم في العالم، بعد أن ثبت لديهم بالممارسة العملية أن عبادة الأصنام والأوثان التي تغلّف حياتهم لا تثبت أمام أيّ جدل عقلاني". وهو ما كان يعني خروجا واضحا عن القبيلة، وعن معتقداتها الوثنية، وبحثا عن إقامة أوسع مساحة وأكثر إنسانية يترجمها البحث عن "الإله الحنيفي". هذا البحث عن الإله كان موجودا، إذن، في مكة، وكان معروفا ومتفشيا في أوساط قريش، على الرغم من انكماش أخبارهم ومحاولات طمس أثرهم، ذلك أن "الأخباريين تقصّدوا ذلك حتى لا تثير بعض الأخبار أيّة حساسية تجاه التاريخ الحقيقي لسيرة الإسلام كدين جديد بشكل عام، أو تجاه سيرة النبي ونموّها الثقافي"، حسب ما يراه علي الحلاق وأيضا حسين مرة في كتابه المثير للجدل "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، حيث يرى أن "الحنيفية تبدو حلقة مفقودة ضمن السياق التاريخي". بل إن " إنّ أغلب الأخبار (التي تهم الأحناف) ترد بطريقة مشوّهة أو مضبّبة أو معمّاة، بل إنّها تأتي على شكل فردي لا يوحي بوجود ظاهرة اجتماعية، أو تيار اجتماعي بدأ ينمو على صعيد الحياة اليومية سواء أكان في مكة أم الجزيرة العربية". وللتدليل على أن اتساع المساحة التي منحت للرقيب على الروايات الخاصة بالمتحنفين، يذكر علي الحلاق "أنّ المؤرخين صرّحوا بحنيفية بعضهم كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت، وسكتوا عن بعض آخر كقيس بن نشبة الذي كان محمد يسميه "خير بني سليم" (المنمق: 145)، بينما جعلوا آخرين منهم إمّا نصارى كورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش، أو كفرة كشيبة بن ربيعة، يعود ذلك للعلاقة الاجتماعية أو لاقتراب كلّ حنيفي من دائرة السيرة الذاتية للنبي، فعلى سبيل المثال نجد أنّ أبا أُحيحة سعيد بن العاص يُذكر في عداد الكفرة لما له من مواقف شخصية حادة ضدّ محمد بن عبد الله، فهو الذي قال له في مكة قبل الهجرة: "إن قمت من مرضي لأخرجنك من مكة"، فتمت قراءة هذه الجملة على أنّها كفر، لم يتطرّق أحد إلى حنيفيته، أو انحرافه عن وثنية قريش يومذاك سوى أبيات من الشعر قالها (أبو قيس بن الأسلت) حنيفي من يثرب يرثيه فيها بعد موته". إن هذا الاقتراب من "السيرة" هو ما يفسر مناطق اللاتحديد الكثيرة التي تلازم تاريخ الأحناف وطبيعة تحركهم في البيئة التي ظهر فيها نبي الإسلام، خاصة أن ثمّة روايات، يقول علي الحلاق، تؤكّد أن بعض الأحناف كان يحمل كتبا معه في السفر كأمية بن أبي الصلت، دون أن يتمّ تحديد هوية تلك الكتب (وهي على الأرجح كتب الأديان السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور)، كما أن بعضهم كان يحمل كتبا محدّدة كسويد بن الصامت الذي كان يحمل "مجلة لقمان" معه في مكة (النزعات المادية: 1/372). ويستعرض ذ. جمال علي الحلاق في دراسته حول "خروج الأحناف بحثا عن الدين" جوانب مهمة من القلق العقائدي الذي كان يحرك الأحناف في بيئة كان يهيمن عليها الوثنيون، حيث تحول التجوال بين القبائل والمناطق إلى "حوار ديني" تحمل وزره الأحناف عن طيب خاطر، حيث لم يكتفوا بالجدال مع عبدة الأوثان، بل توسعت الدائرة نحو أهل الكتاب، يهودا ونصارى.. وهذا هو "الخروج" الذي استعرضه الباحث الذي انطلق من أحناف الحجاز: 1 - خروج زيد بن عمرو بن نفيل لعل أبرز من بقيت أخبار رحلاتهم من الأحناف هو زيد بن عمرو بن نفيل، وقد كان أحد الحاضرين في المؤتمر التأسيسي، بل إن المصادر الإسلامية تعاملت مع سيرته بحذر شديد في كتب الحديث (صحيح البخاري)، وبلين في كتب السيرة (ابن اسحاق)، وباعتدال في كتب التفسير (الجامع لأحكام القرآن). واعتقد أن سيرة زيد بن عمرو بن نفيل ما كان لها أن تبقى بهذا الحضور لولا حديث محمد بحقّه: "يبعث أمة وحده يوم القيامة"، إضافة إلى أنّ سعيدا ابنه كان أحد العشرة المبشّرين بالجنة. لا يمكن رسم خارطة لرحلة زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام، فالظاهر من الأخبار أنها لم تكن رحلة واحدة، وأنه رحل وحده مرة، وأخرى بصحبة ورقة بن نوفل، لكنني أحاول هنا أن أرتب المدن التي زارها زيد واحدة بعد أخرى، ولعل بعضها تم قبل الأخرى. رحلة البحث في الشام تبدأ الرحلة بالذهاب إلى يثرب ومنها إلى أحبار خيبر، ثم إلى أحبار فدك، ثم إلى أيلة، ثم إلى البلقاء، ثم إلى راهب في الموصل، ثم إلى شيخ في الجزيرة، ثم إلى شيخ في الحيرة، ثم عودته لمكة. هذا ما تمكنت من جمعه في كتب السيرة والأخبار والحديث (للتوسع ينظر في: السيرة النبوية لابن كثير:1/391، الروض الأنف: 1/ 382، صحيح البخاري : 5/50 ، سيرة ابن اسحاق: 98 -99، المنتظم: 2 / 540، الرياض النضرة: 4/ 337 - 338، مجمع الزوائد: 5 / 418، هامش جمهرة النسب: 1/ 149، المستدرك: 3/ 216 - 217). أما رحلته إلى الجنوب فلم يبق من ذكرها سوى أنه زار النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة (أول سيرة في الإسلام: 72) . وقد ورد في (السيرة النبوية لابن كثير) أن زيدا بن عمرو بن نفيل قال: "طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك" (1/215)، وهذا الخبر يشير إلى محاورته للمجوس أيضا. ولأنّ خروجه لم يكن متفقا مع خروج قوافل قريش التجارية شمالا وجنوبا، ولأن التجارة لم تكن غايته بل التماس الدين، لذا أصبح خروجه اختلافا- وخروجا بحد ذاته- عن المنظومة المعرفية التي تغلّف الوعي الاجتماعي المكي آنذاك، أو كسرا للعادة المكية في رحلتي الشتاء والصيف، لذا وُضِع تحت رقابة صارمة، بل جعلوا زوجته صفية بنت عبد الله الحضرمي مكلّفة بإبلاغ عمّه الخطّاب حال استعداده لخروج آخر (ابن هشام: 1: 244). لكنه لم يعد بشيء من كلّ رحلاته، وقد جاءه (أمية بن أبي الصلت) من الطائف يسأله: يا باغي الخير هل وصلت؟ قال: لا ( طبقات الشعراء: 66). لم يكن أمية بن أبي الصلت الحنيفي الوحيد الذي مرّ بزيد بن عمرو بن نفيل، فقد ورد أيضا أن أبا قيس بن الأسلت جاءه من يثرب وكلمه في الحنيفية، وأنه كان يقول: "ليس أحد على دين ابراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل" (هامش أسماء المغتالين: 25). وفي خبر آخر عن أسماء بنت أبي بكر أنّ زيدا كان يسند ظهره بجدار الكعبة ويقول: «اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحبّ إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته" (ابن هشام: 1/ 240).