ما يهمنا نحن في هذه «الحلقات الرمضانية» هو إلقاء بعض الضوء على «حياة محمد قبل النبوة»، وتحديدا على الفترة الممتدة ما بين زواجه من خديجة بنت خويلد ونزول الوحي؛ وهي مرحلة «مظلمة» تستغرق 15 سنة وتدخل بالمستطلع، حسب ما يراه الباحث سعيد السراج، «ظلاماً دامساً إلى حيث لايدري كيف يسير وإلى أين يمضي وماذا يلاقي، فهو لا يحس إلا بخشونة الريب إذا مد يده لامساً، ولا يسمع إلا زمجرة الشكوك إذا مد عنقه مصغياً». والسبب في ذلك أن محمدا لم يكن، عموما، قبل النبوة وقبل أن يشتهر أمره «إلا واحداً من قومه وعشيرته، فلا يهم الناس أمره ولا يعنيهم نقل أخباره ولا التحدث بها في بيوتهم ونواديهم، وقد قال محمد ما قال زيد بن عمرو، لأن زيداً وكل واحد من الحنفاء قال إنهم يبحثون عن «دين إبراهيم» غير أن زيداً قال إنه أدرك غايته، وهي أنه وجد هذا الدين، وأن محمداً قال إن غايته هي دعوة الناس إلى دين إبراهيم بواسطته. وكثيراً ما أطلق القرآن على إبراهيم أنه حنيف مثل زيد وأصحابه، وإن كان إطلاقه هذا اللقب في القرآن على إبراهيم يفيد ذلك بطريق الالتزام. وحض القرآن أصحاب محمد على قبول ملة إبراهيم، لأن من قبل ملة إبراهيم كان من عداد الحنفاء. وأصل كلمة «حنيف» في اللغة العبرية والسريانية تعني «نجس أو مرتد» لأن عبَدة الأصنام من العرب أطلقوا على زيد وأصحابه لقب «الحنفاء» ليصفوهم بالارتداد، لأنهم تركوا ديانة أسلافهم عبدَة الأصنام. فاستحسن محمد والعرب الحنفاء أن يختصوا بهذا اللقب، وفسَّروا هذه اللقب تفسيراً حسناً وصبغوه بمعنى مناسب. ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم لم يروا فرقاً بين التحنُّف والتحنُّث. ولا ننسى أن هؤلاء الأشخاص الأربعة الذين دُعوا حنفاء كانوا من أقرباء محمد لأنهم تناسلوا جميعهم من لؤي. كما أن عبيد الله كان ابن خالة محمد، وتزوج محمد أم حبيبة أرملة عبيد الله. وذكر ابن هشام أن ورقة وعثمان ابني عم خديجة كانا من الحنفاء، فمن المستحيل أن آراء زيد وغيره من الحنفاء ومذاهبهم وأقوالهم وتعاليمهم لا تُحدِث في أفكار محمد أثراً مهماً جداً. ومع أنه لم يؤذن لمحمد أن يستغفر لآمنة والدته، إلا أنه استغفر لزيد بن عمرو، فقال إنه سيُبعث أمة وحده في يوم القيامة، وهذا تصديقُ محمد لمبادئ زيد بن عمرو. وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم كانوا على دين ابراهيم، ولم يكونوا يهودأَ ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحداً. سفهوا عيادة الأصنام، وسفهوا رأي القائلين بها. وقد أشير إلى »الحنيفية« و»الحنفاء« في كتب الحديث. وقد بحث عنها شرّاح هذه الكتب. ومما نسب اليه حديث: «لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة». وحديث: «بعثتُ بالحنيفية السمحة السهلة». وحديث »أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة«. ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعاً كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعيّ على دين ابراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فلما جاء عمرو بن لحيّ، أفسد العرب، ونشر يينهم أضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثنيي بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الاصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الاوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين ابراهيم حنيفاً، وما كان ابراهيم من المشركين. وقد وردت لفظة »حنيفاً« في عشر مواضع من القرآن الكريم. ووردت لفظة »حنفاء« في موضعين منه. وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقد نص في بعض منها على ابراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة «حنفاء» في سورتين فقط، هما: سورة الحج وسورة البينة، وهما من السور المدنية. لقد أقرّ هذا التيّار (الأحناف)- يقول الباحث جمال علي الحلاق في مقال له بعنوان "المؤتمر التأسيسي الأول لتيار الأحناف في مكة قبل الإسلام"- بموت الآلهة الوثنية، أي توصّل الى إدراك رتبة (لا إله) فقط، ولم يتم البت (بإلا) الاستثنائية، أي أنّهم أقرّوا نصف (لا إله إلا الله)، وأنّه - المؤتمر- دفع المؤتمِرين إلى السعي بحثاً عن معرفة (الله) في الأديان الأخرى، كما أنّهم كتيّار اجتماعي إصلاحي بدأوا يمارسون وعيهم الجديد كسلوك حياتي يومي في مكة بدءاً، ثمّ في القرى المجاورة كالطائف ويثرب، حدث كلّ ذلك بعقد- على أقل تقدير - قبل إعلان محمد بن عبد الله نبوّته في مكة . وقد انتهى المؤتمر التأسيسيّ الأول للأحناف في مكّة، يقول الباحث نفسه، برفع شعارين: 1- كانت جملة (لا إله) تحدّد الشعار الأوّل. 2- التماس الدين بالسير في الأرض، والدخول في حوار مع الأديان والملل السابقة. أما الشعار الأول فكان إعلاناً بموت الألوهية الوثنية، وكان موجّها ضدّ عبادة الأوثان بالدرجة الأساس، لقد تمّ حسم قضية الأصنام والأوثان بإقرار جميع من حضر المؤتمر بأنّها «لا تبصر ولا تسمع، ولا تضر ولا تنفع». ولم يتم التركيز على عبادة إله واحد، بل إنّ الشعار الثاني يكشف بوضوح أنّهم اتّفقوا على السير في الأرض، والبحث عن إله أو دين، عبر الدخول في محاورات مع أصحاب الأديان والملل الأخرى.