بيني وبين نفسي ، تساءلت على الدوام والفضول بين أضلاعي خافق : ترى ، ماذا يحمل صديقي حسن بحراوي في تلك الحقيبة ، حائلة اللون مهلهلة الجلد ، التي لايني يلقيها ، في الغدو والرواح ، على عاتق كتفه الأيمن؟ . الحقيبة ذاتها ، التي أتصور بأنه يخصها بشغف وولع خاصين لأسباب عاطفية وجيهة على الأرجح ، كما أشهد بأنه يمحضها وفاء منقطع النظير وعشرة لا انفراط فيها . إذ كلما التقينا كانت لباسا له وكان لباسا لها ، لدرجة تهيأ لي بأنه مثل ملازمة العين للحاجب لا يطيق عنها فراقا ، وهي بصنو قطرة العطر للزهر لا تبغي عنه نأيا . حقيبة حسن بحراوي تلك ، سوف أكتشف في ما بعد بأنها واحدة من لقياته العجيبة المدهشة بين ثنايا سوق » سيدي بطاش « الأسبوعي . وكذا بأنها صاحبة » بركة «وفي ركابها » الفرج « لأنها سليلة غير خديج » للسادات « و الأولياء و الصلحاء . حدث ذلك قبل هذا التاريخ بثلاثة عقود كاملة ، ذات يوم اثنين بعيد له رجع في الذاكرة . وبحكم أصولهما البدوية الأصيلة المشتركة وكلفهما الغريزي بما هو في طور التلاشي والبدد ، تفاهما على الحلوة والمرة بلمح البصر ، ونشبت بينهما صداقة وثقى ، ملؤها استقصاء شتى ضروب المعرفة من منابعها ، وديدنها مسيرة علمية وإبداعية طاعنة في الثراء و الألق . ومن يومها ، ما أنكرتها المآقي ولامات الهوى منها ولا انصرف الفؤاد إلى غيرها . تبصر الحقيبة ، فتبصر حسن بحراوي ، ثم تبصر حسن بحراوي فتبصرهما . فهي رفيقة الطريق إلى الكلية والمقهى ، ومؤنسة الرحلات والأسفار ، وصديقة اللقاءات والندوات ، بل قد يذهب بك الظن إلى أقاصيه ، فتحسبها فردا من أفراد العائلة له موضع مخصوص ومكانة معتبرة بين حنايا البيت . أصدقكم القول بأنني لم أجرؤ يوما على اقتحام مجاهلها أو أتجاسر على فض ختمها ، لكني صرت بالمقابل مهووسا بما يمكن أن تنطوي عليه من أشتات وأسرار . أليست الحقائب بمثابة المرايا الدفينة التي تنطبع على سطوحها صور الأشخاص الحاملين لها ؟ ألا يمكن عدها الهوية البديلة والمستعارة لذواتنا النزاعة إلى تمويه وتضليل الآثار الدالة علينا ؟ وإذا ما غاب شخص ما عن الأنظار على حين غفلة و لم يخلف لنا سوى حقيبة ، أليست » علبته السوداء « التي تجلي سريرته وتشرح أسباب اختفائه ؟ . وبلا ريب ، حقيبة حسن بحراوي ، قياسا إلى قيمة الرجل ووزنه وتجاربه ، خيال في الماء وسفينة كنوز غارقة ، تغري أيما إغراء بالغوص لسبر محتوياتها وكشف مكنوناتها . ما العمل إذن لاستغوار زوادة الجراب ؟ وكيف السبيل للتسلل إلى هذا الشطر اللامرئي وغير المنظور ، حيث كل شيء غير مؤكد ولكنه حقيقي ، من روح كاتب موسوعي ، ومؤرخ حصيف ، ومترجم فذ ، وباحث رصين ، وناقد حجة ، ومترجم جهبذ ، ومناضل شريف ، ونديم صنديد ، وخل بديع ، وفاعل جمعوي جلد ، وقاص اعتزل الحكي مبكرا في فتاء العمر ، وروائي ضعنا فيه ، وشاعر رقيق الحاشية بيد أنه مستنكف فرط التواضع عن نشر القريض؟ . وكيما أدني مهجتي وأشفي غليل رغبتي ، رأيتني في منامة صيفية رائقة هي خير وسلام ، أستيقظ في قلب الحلم وألفيني في مواجهة حقيبة حسن بحراوي . امتدت يدي خفافا إلى جوفها ، وطفقت أخرج منها تباعا دفاتر وكنانيش وكراريس لا حصر لها من مختلف الأشكال والأحجام والألوان . واظبت لساعات طوال لا أدري عددها على هذا الدأب ، ليتبين لي بعد أن نال مني التعب أشده ، أن الحقيبة لا قعر لها ، وبأن الكامن فيها غير قابل لأن ينضب على الإطلاق . و لاحقا ، لما شرعت في تصفح بعض من أوراق تلك الدفاتر والكنانيش والكراريس التي صارت بقدرة قادر متناهية الصغر ، وجدتها سطورا بيضاء ممحوة كأنما هي- كما قال الشاعر - » وداد كالسحاب منتقل وعهد كالسراب غرّار «. وعند هذا الحد ، مسني كالفجاءة صحو الغريق في بحر متلاطم من ورق ، فرأيت حسن بحراوي يقف فوق هامتي مثل طائر » الخضر « الأبيض ، ثم ينحني على أذني هامسا : الحقيبة يا صاحبي مليئة بقبعات الصوف وقمصان لها في » البال « أغنية ، مليئة بالأحجار والتماثيل والتحف واللوحات والسينما ، مليئة بالبوهيمية الراقية و بالتيه الخلاق ، مليئة بإرهاق الزمن عن طريق نسيانه وتصعير الخد له باللامبالاة ، مليئة بأقنعة الأكاديمي الزائفة التي تسّاقط مني كل يوم كأطراف المجذوم وأنا في طريقي إلى المدرج ، مليئة باختراق الهوامش والدهاليز التحتية للوجود ، مليئة بذاكرة اللغة والموسيقى والفلكلور والطقوس والفرجة والسخرية واليومي ، مليئة بمحبة الناس ورمي القلوب بقوس لها وتر لا بمرير اللسان ، مليئة ? » ماكاين باس «، مليئة بأصابع تتبادل معي الربح والخسارة من نفس الكأس التي من أجلها » أبي آدم باع الجنان بحبة وبعت أنا الدنيا بجرعة ماء « ، الحقيبة يا صاحبي مليئة بالحياة ...مليئة بالحياة فقط !.