داخل عنابر سجن طرة عام 1966 جلس صاحبنا الشاب الغريب الغامض أبيض الوجه غائر العينين صاحب الشعر الأسود المفروق من المنتصف يستمع إلى الشيخ الأزهري علي اسماعيل وهو يشرح الآية الكريمة من سورة الجن: »ومن يعص الله ورسوله، فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا««. كان درس الشيخ علي اسماعيل مؤثرا بليغا. بعدها انكب الشاب على دراسة فقه المعصية. استهوته أفكار الخوارج. فقد كانت الآيات التي قرأ تفسير الخوارج لها تدل على أن مرتكب المعصية الذي لا يتوب سيخلد في النار أبدا، وهاهي إحدى الآيات التي تتحدث عن الربا، أخذ الشاب يقرأ الآية على مهل (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان) أخذ الشاب يسترسل في القراءة إلى أن وصل إلى قوله: (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الفكرة الآن في طريقها للاستواء في ذهن الشاب الغامض، المسلم إذا أقرض مسلما الربا فإنه سيخلد في النار، إذن المعصية تؤدي إلى الخلود في النار! وليس الكفرفقط، ذهل الشاب، وهو يقرأ لأحد الخوارج تفسيره لايات الميراث، نهاية الاية واضحة ايضا، يقرأ الشاب قول الله : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار» حسن حسن، من يلتزم بحدود الله سيدخل جنات الله، اذن ماهو موقف من يعص الله ورسوله؟ الاية تقول «يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين». وحتى يستقيم الامر في ذهن الشاب الغامض اخذ يقرأ التفاسير، المشهورة فلم يقتنع بما ورد فيها من ان الخلود في النار هنا انما يكون لمن عصى الله معصية كفر، اي انما يكون لمن انكر ايات الله كفرا بها وكفرا بالله، فالمسلم لا يخلد في النار من معصية. عاد الشاب الغامض الى «كراسات» تسربت اليه في السجن تحتوي على تفسير استاذه سيد قطب لكثير من سور وايات القرآن الكريم، اقتطعها بعضهم من كتاب «في ظلال القرآن». ومن كتب اخرى متفرقة، نظرا صاحبنا على وجه الخصوص الى تفسير قطب في شأن ايات المواريث، فوجد انه يكفر المسلم الذي يرتكب احدى الكبائر، انتقل الشاب بعدها الي تفسير اية «ان الحكم الا لله» فقرأ قول سيد قطب: ويدخل في اطار المجتمع الجاهلي الكافر تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها انها مسلمة لا لانها تعتقد بألوهية احد غير الله ولا لانها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله، ولكنها تدخل في هذا الاطار لانها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها» ابتسم صاحبنا وهو يقول لاحد اصحابه في الزنزانة: هاهو المعنى واضح، كلمات سيد قطب لا تحتاج الى تأويل او تفسير او ابحار في علوم اللغة العربية، يكفيك ان تعلم ان المسلم لا يكون مسلما ابدا لمجرد انه يعتقد بألوهية الله ولا لمجرد انه يقيم الشعائر التعبدية لله، هذا المسلم هو في الحقيقة كافر اذا لم يدن بالعبودية لله في نظام حياته. يعود صاحبنا إلى قراءة كلمات سيد قطب فوجده يقول: لا نجاة للعصبة المسلمة في كل ارض من ان يقع عليها العذاب الا بان تنفصل عقديا وشعوريا ومنهج حياة عن اهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام داراسلام تعصم بها، والا ان تشعر شعورا كاملا بانها هي الامة المسلمة وان ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية وعلى مهل يكرر صاحبنا لنفسه هذه الكلمات، ننفصل عقديا وشعوريا عن اهل الجاهلية... حتى يأذن الله بقيام دار اسلام. نعتصم بها،هذه اذن دار حرب تلك التي نعيش فيها، دار كفر، متى يأذن الله بقيام دار اسلام في ذلك العالم الذي يتلاطمه الكفر؟ يعود صاحبنا لكراسته فيجد استاذه وشيخه سيد قطب يقول: ان هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم. »تتكرر الكلمات في ذهن صاحبنا. ليس هو المجتمع المسلم. ليس هو المجتمع المسلم». يعود للقراءة من كراسة سيد قطب: ان المسلمين الان لا يجاهدون، ذلك ان المسلمين اليوم لا يوجدون، ان قضية وجود الاسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم الى علاج« يصرخ ضميره: نعم المسلمون الان لا يجاهدون، لا لانهم نكصوا على اعقابهم ولكن لانه لا يوجد مسلمون من الاصل، انتهى عصر المسلمين، منذ اماد بعيدة،و هاهو الاستاذ سيد قطب يقول لنا »ان قضية وجود الاسلام هي التي تحتاج الى علاج عنده حق هل الاسلام، موجود! اذا كان هناك اسلام فاين هو؟ اين ا لحكم بما أنزل الله؟ بل اين المسلمون، كل الذين يعيشون على البسيطة الان ويقولون: انهم مسلمون انما يتحاكمون الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به، يعود صاحبنا الى كراسته فيقرأ فيها عبارة اعتبرها جامعة مانعة يقول قطب فيها لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين الى البشرية (بلا الاه الا الله) فقد ارتدت البشرية الى عبادة العباد والى جور الاديان، ونكصت عن لا اله الا الله وان ظل فريق منه يردد على المآذن لا اله الا الله، ونحن ندعو الي استئناف حياة اسلامية في مجتمع اسلامي تحكمه العقيدة الاسلامية والتصور الاسلامي كما تحكم الشريعة الاسلامية والنظام الاسلامي، ونحن نعلم ان الحياة الاسلامية - على هذا النحو - قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع انحاء الارض، وان وجود الاسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك«. طوى صاحبنا الكراسة وقد بلغ تأثره بكلمات سيد قطب مبلغا كبيرا، الاسلام توقف، لا يوجد اسلام. يجب ان نعيد الاسلام الى الوجود مرة أخرى، وكان صاحبنا الغامض قال وقتها: «وجدتها و جدتها» واظنه قفز فرحا من مكانه، وبعد ان حفظ ما قاله سيد قطب عن ظهر قلب اغمض عينيه في هدوء فقد اخذ الكرى يداعب اجفانه ولم تقو الفرحة على مقاومة النوم، فنام، ولكن مصر في يوم ما لن تعرف للنوم طريقا، فقد بدأ صاحبنا الشاب الغامض في طريق لن يكون له منتهى. من هؤلاء الشهداء من اختطف بمؤامرة دولية وتم قتله، ومن اختطفته المخابرات المغربية، خارج التراب المغربي وتم تخديره لينقل إلى المغرب في الصندوق الخلفي لسيارة ديبلوماسية مغربية وتم تصفيته. من هؤلاء الشهداء من جرفتهم الاعتقالات التعسفية، وتعاقبوا على الزنازن والأقبية المظلمة إلى أن زهقت أرواحهم، ومنهم من قدموا للمحاكم ظلما وتم إعدامهم ليلة عيد الأضحى، ومنهم من اختطفوا من منازلهم ببدلات نومهم، من طرف زوار الليل، وزج بهم في المعتقلات السرية إلى أن قتلوا، ورمي بهم في الأرصفة. من هؤلاء الشهداء مقاومون نفذوا أروع العمليات الفدائية ضد الإستعمار الغاشم، ومنهم مناضلون شرفاء مورست عليهم شتى أنواع التعذيب والقمع والارهاب والأحكام القاسية والاعدامات، لالشيء سوى أنهم خاضوا معارك نضالية من أجل مغرب يسوده العدل والحرية والمساواة والديموقراطية، ومن أجل دولة الحق والقانون. من هؤلاء الشهداء رموز مغاربة استشهدوا من أجل القضية الفلسطينية وانضافوا إلى رموز كثيرة صنعتها الثورة الفلسطينية. كما أن هناك شهداء آخرين أصحاب حوادث الصخيرات من العسكريين وأصحاب حادثة الطائرة الملكية وشهدائهم بمعتقل تازمامارت. في يناير سنة 2008 عرضت فرانس 2 فيلم «قضية بنبركة»، وفي 25 يناير 2008 صدر في تل أبيب كتاب للصحافي الإسرائيلي شمويل سيغيف تحت عنوان «الصلة المغربية» تضمن رواية جديدة حول اغتيال المهدي بنبركة، ويشير إلى أن الجنرال السابق الدليمي هو الذي قتل المهدي في باريس، وعمل على دفنه قرب إحدى الطرق السيارة بفرنسا. وجاء في حديث خص به الكاتب وكالة فرانس بريس أن بن بركة وصل في29 أكتوبر1965 إلى باريس، قادما من جنيف بجواز سفر دبلوماسي جزائري. وبعد أن ترك حقائبه في منزل صديقه اليهودي المغربي «جوأوحانا» توجه راجلا إلى مقهى ليب لمقابلة أحد الصحافيين الفرنسيين، أو المخرجين السينمائيين تواعد معهم هناك لبحث إنتاج فيلم عن حركات تحرير الشعوب، فجأة تقدم منه رجلا أمن فرنسيين بزي مدني وطلبا منه الإدلاء بوثائق تعريفه قبل أن يقترحا عليه مرافقتهما إلى حيث يرغب» وفد مغربي رفيع المستولى في لقائه» فركب بنبركة إلى جانب الشرطيين السيارة المستأجرة باتجاه فيلا في جنوب باريس. ويضيف الكاتب أن بن بركة كان لايزال على قيد الحياة في الأول من نونبر 1965، وعملية اختطافه لم تكن بهدف قتله، بل فقط لإجباره على الإعتراف بأنه ينوي الإطاحة بالملك الحسن الثاني. وحسب رواية الصحافي الإسرائيلي فإن بن بركة كان مقيد القدمين ومغلول اليدين إلى الظهر. وكان الدليمي يغطس رأسه في إناء مليء بالماء. وفي لحظة ما أفرط في الضغط على حلقه مما تسبب في موته اختناقا. وبعد أيام قليلة من وفاته، حل محمد أوفقير، وزير الداخلية المغربي ورئيس الاستخبارات وقتئذ، بباريس للإشراف على عملية الدفن في إحدى الورشات التي كان يتوفر فيها الاسمنت والاسمنت المسلح على جانب الطريق السيار الجنوبي. ويرصد الكتاب، الصادر باللغة العبرية، الطريقة غير المباشرة التي ساعد بها الموساد الاستخبارات المغربية من أجل رصد تحركات المعارض المغربي قبل نصب كمين له. في نفس السياق يقول محمد الحبابي عضو المكتب السياسي السابق للاتحاد الاشراكي للقوات الشعبية في استجواب مع جريدة «الحياة» عدد 21، في قضية المهدي بنبركة «... لقد ارتكب الجنرال أوفقير جريمة كبيرة وأنا متيقن بأن المهدي بنبركة تم دفنه في مقر سفارة المغرب بباريس. ولازلت أذكر أن الملك الحسن الثاني بعد انقلاب الطائرة تحدث عبر التلفزة، وقد استمعت إلى الخطاب وتابعته عبر التلفزة جيدا، وكان على وشك قول الحقيقة في قضية بنبركة، وظل يحدق في الكاميرا وسكت لحوالي عشر ثوان، وفي الأخير لم يقل شيئا. لكن تلك النظرة العميقة وملامحه وهو بصدد الحديث عن قضية بنبركة تفصح عن شئ ما.. « يضيف الحبابي «ليس هناك أي شك في أن الملك الحسن الثاني كان وراء الأمر باختطاف بنبركة فحتى وزير الداخلية الفرنسي كان يعلم بعملية الإختطاف التي شارك فيها الأمن الفرنسي، فقد كان هناك اتفاق مغربي فرنسي على اختطاف المهدي وإحضاره إلى المغرب» ويضيف «كانت هناك بالفعل مفاوضات مع المهدي حول الحكومة، لكن الملك الحسن الثاني كان لايحب أن يتفاوض وهو تحت الضغط ..» ويضيف»وقد علمنا أن أوفقير تلقى اتصالا هاتفيا من طرف لوبيز بفندق الجامعي بفاس يوم عملية الإختطاف وقد أخبرنا عمال بالفندق بأن أوفقير نهض خلال ذلك اليوم مسرعا وخرج مرتبكا من الفندق» ويضيف ما قاله في شهادته أمام هيئة الإنصاف والمصالحة «إن إدريس السلاوي أخبره بأنه يوم عملية الإختطاف دخل أوفقير على الملك الحسن الثاني، وهو في اجتماع، وكان مرتبكا واختلى به حوالي ساعة ثم غادر أوفقير إلى باريس في نفس يوم الإختطاف...» كما أن ادريس السلاوي هو من أخبرالحبابي بأن الدليمي سافر إلى فرنسا من أجل تقديم نفسه للمحكمة في قضية المهدي وأضاف «أن فرنسا أرسلت مبعوثا إلى المغرب من أجل ترتيب حضوره للمحاكمة والحكم عليه بالبراءة، وتم الإتفاق مع المغرب في هذا الشأن». وخلال محاكمة الدليمي يقول الحبابي، أن مضيفة طيران تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، ذكرت في شهادتها أن الدليمي جاء عندها وحجز تذكرتين، واحدة في إسمه والثانية تحت إسم كوهين، لكنه لم يعد ليتسلم التذكرتين.