المصادقة على 216 نصا قانونيا خلال سنة 2024    الغموض يحوم حول مصير اشتراكات وتعويضات 3 ملايين منخرط سيتم ترحيلهم عنوة لنظام AMO الحكومة صادقت على نسخة معدلة تضحي بمنخرطي كنوبس مقابل إنقاذ التعاضديات من الانقراض    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القوات المسلحة في المغرب الكبير بعد ثورات وتحولات الربيع العربي:الانتقال المزدوج

أكدت مرحلة «الثورات العربية» الموسومة بالربيع العربي، التي اندلعت في 2011، اختلاف أدوار جيوش الدول المعنية في التحولات التي عرفتها المنطقة. وفي المغرب العربي، تكمن أسباب هذا الاختلاف في عدة عوامل على رأسها وضع العلاقات المدنية- العسكرية في كل دولة على حدة، وتنظيم كل واحدة من قواتها العسكرية.
انطلاقا من هذه الفرضية، يحلل الباحث المغربي المتخصص في الشؤون العسكرية، سعيد حداد، الأدوار التي قامت بها، أو لم تقم بها، بدرجات متفاوتة الجيوش المغاربية في التحولات التي عاشتها كل من تونس وليبيا والجزائر والمغرب. مثلما يعتبر، في دراسته التي تضمنها العدد 91 من «المجلة الدولية والإستراتيجية» التي يصدرها «معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية» الفرنسي (مارس 2013)، أن المحيط الجهوي للدول المغاربية يؤثر بقوة على مواقف قواتها المسلحة ومدى انخراطها في الحياة السياسية الداخلية والإقليمية.
وحسب الكاتب المغربي، الذي هو أستاذ محاضر وباحث أكاديمي في العديد من المراكز العلمية ومؤسسات التكوين العسكري، ومن أبرزها مدارس سان سير الفرنسية، فإن الجيوش المغاربية ,باستثناء القوات المسلحة الليبية, مدعوة إلى الاضطلاع بدور مهم عقب «الربيع العربي» والتحولات المختلفة التي نتجت عنه، خاصة والمنطقة تعيش اليوم انتقالا مزدوجا على المستوى الداخلي الخاص بكل دولة وعلى المستوى الجهوي.
أبرزت المرحلة التاريخية التي انطلقت في بحر 2011، والتي عرفت قلب أو معارضة عدد من الأنظمة السياسية العربية، تنوع أدوار القوات المسلحة إبان التحولات السياسية. ففي المغرب العربي، عرفت تونس وليبيا تغيير النظام عقب مسلسلات مختلفة، ذلك أن دورة «التظاهر- القمع- الفرار» للقائد التونسي تلتها، بشكل دموي، الانتفاضة المسلحة والتدخل العسكري الأجنبي في ليبيا. وبينما انحاز الجيش في مجمله إلى جانب المتظاهرين في تونس، فإنه تميز بالانقسام في ليبيا. وغرب هذين البلدين، بدا أن المغرب والجزائر يعيشان مآلين مختلفين. هكذا نجد أن السلطة في المغرب ردت بسلسلة من الإصلاحات المؤسساتية التي سمحت، ولو مرحليا، بنزع فتيل أي حراك اجتماعي أو سياسي، لتظل أجندة القوات المسلحة المغربية متمحورة أساسا حول الصحراء. أما في الجزائر، فإن التداخل الاحتكاكي بين المدنيين والعسكريين وذكريات سنوات 1990 وتفسخ الأحزاب السياسية وتشوش الشبيبة والإمكانيات المالية الهائلة للنظام، عوامل ساهمت في نجاعة سياسة «كبح» المجتمع المعمول بها منذ 1999.
إن تنوع مواقف المؤسسات العسكرية هذا مؤشر على صعوبة صياغة نموذج مشترك يسمح بفهم أسباب إقدام أو إحجام جيش ما على التدخل في الحقل السياسي. ويمكن للعلاقات المدنية- العسكرية، أي العلاقات القائمة بين القوات المسلحة من جهة والدولة والمجتمع المدني من جهة ثانية، أن تساعد على إضاءة هذا المجال. وبالفعل، فإذا كان اختلاف ردود فعل الجيوش يستلزم مقاربة تستحضر التاريخ الوطني المميز لكل دولة وعلاقات المؤسسات العسكرية فيها مع الحقل السياسي، فإنه من المفيد ربط هذه المقاربة بتحليل لتنظيم الجيوش المعنية. ويبدو، في هذا السياق ومنذ الوهلة الأولى، أن القوات المسلحة المكونة أساسا من المجندين قد انحازت ? بشكل جماعي إلى هذا الحد أو ذاك- للتطلعات الشعبية (تونس وليبيا)، أما الجيوش الاحترافية أو شبه الاحترافية فإنها ظلت غير متجاوبة مع هذه التطلعات. كما أن الآثار الساحلية- الصحراوية للأزمة الليبية قد لعبت دورا أساسيا في موقف القوات المسلحة ومده انخراطها في المشهد السياسي الجهوي والمحلي.
العلاقات المدنية- العسكرية، تنظيم القوات المسلحة والثورات
إذا كانت العديد من التحليلات قد تناولت جيوش الدول النامية منذ حصول الدول المعنية على الاستقلال، فإننا سنعتمد في هذه الدراسة أساسا على النموذج التصنيفي لمهران كامرافا الذي يميز بين أربعة أصناف في العلاقات المدنية- العسكرية في بلدان الشرق الأوسط.
يسم مهران كامرافا أول صنف من هذه الأصناف بعلاقة «الضباط- السياسيين- الاستبدايين»، حيث تكون السلطة بين أيادي العسكريين حتى حين لا يحتلون الصفوف الأولى في دواليبها. في هذه الحالة، يكون الجهاز السياسي منبثقا أساسا من الحقل المدني، بينما الممسك بالسلطة الأسمى إما عسكري سابق غادر الخدمة، أو مدني يحظى بمساندة الجيش. وحسب الكاتب، فإن دولا مثل الجزائر ومصر تندرجان ضمن هذا الصنف الأول.
أما الصنف الثاني، فهو النظام العسكري «المزدوج»، حيث تجد المؤسسة العسكرية التقليدية نفسها منافسة من طرف قوة واحدة أو عدة قوات إما عسكرية موازية أو أمنية، قوة أو قوات جد مشبعة بإيديولوجية معينة وتكون في خدمة المستبدين الحاكمين. وحسب مهران كامرافا، فليبيا معمر القذافي وإيران الملالي عراق ما قبل 2003 تنتمي لهذا الصنف.
الصنف الثالث، حسب ذات الباحث، هو صنف الملكيات (ملكيات، قبائل ومرتزقة)، حيث يقف الولاء القبلي و/أو اللجوء إلى المرتزقة في وجه سلطة المؤسسة العسكرية. ولهذا الصنف تنتمي، وفق مهران كامرافا، إمارات الخليج، ومعها المغرب والسعودية. أخيرا، ورغم انتماء إسرائيل وتركيا له، فإن صنف «الديمقراطية العسكرية» يستحق التحليل نظرا لكونه أحد الآفاق التي من الممكن أن تنخرط فيها دول ما بعد الثورات العربية.
إن النماذج المقترحة من قبل مهران كامرافا توفر شبكة قراءة، وذلك بالرغم من كون بعض الدول تمتح من عدة أصناف، علما ن الأخيرة ليست جامدة ولا يلغي الواحد منها باقي الأصناف.
هياكل عسكرية ومواقف مختلفة
يتمثل أحد العوامل المفسرة لسقوط النظامين التونسي والليبي في التنظيم الداخلي للجيش، ذلك أن القوات المسلحة للبلدين تتكون من المجندين أساسا.
يضم الجيش التونسي 35800 جندي، علما أن ساكنة البلاد تتجاوز 10 ملايين نسمة.
- تتكون القوات البرية من 27 ألف عسكري، حوالي 23 ألفا من بينهم مجندون،
- تضم كل من القوات الجوية والبحرية 700 مجند، علما أن العدد الإجمالي في صفوف الأولى يبلغ 4 ألاف جندي وفي صفوف الثانية 4800 عسكري.
- يبلغ عدد أفراد الحرس الوطني والشرطة 12 ألف رجل بالنسبة لكل واحدة من المؤسستين، وهما مكلفتان بالأمن الداخلي .
أما ليبيا، الدولة ذات «النظام العسكري المزدوج» خلال حكم القذافي، فقواتها العسكرية النظامية كانت تتكون من 76 ألف عسكري من المجندين والمتطوعين، وكان هذا العدد الإجمالي موزعا كما يلي:
45 ألف جندي في صفوف القوات البرية،
8 آلاف في القوات البحرية،
23 ألفا في صفوف القوات الجوية.
وإلى جانب هذا الجيش النظامي، كانت توجد في ليبيا قوات شبه عسكرية استند عليها النظام البائد، بالإضافة إلى فيالق خاصة من الجيش مدربة ومجهزة أفضل من بقية القوات النظامية، تحصل على أجور أكثر منها وموضوعة تحت قيادة أقارب الزعيم الليبي الراحل.
ومع ذلك، فسقوط النظامين تم وفق مسارين مختلفين، فبينما اصطف الجيش التونسي برمته خلف قائد أركانه العامة حين رفض هذا الأخير إطلاق النار على متظاهري يناير 2100، نجد أن الجيش الليبي انقسم على نفسه وفق اصطفافات سابقة، قبلية أو جهوية، وفي نفس الوقت حسب انتماءات متعلقة بتنظيمه الداخلي المشكل من قوات الصفوة والحرس والقوات النظامية.
وبالمقابل، ونظرا لأن قواتهما العسكرية سلكت نهج الاحترافية الكاملة أو الجزئية وبفعل الارتفاع الذي تعرفه ميزانية هذه القوات، فإن المغرب والجزائر لم يعرفا تغييرات مثيلة، رغم أن البلدين لم ينجيا من الانتفاضات والمظاهرات خلال شتاء 2010- 2011.
في سنة 2010، وبينما عدد سكان الجزائر يبلغ 36 مليون نسمة، كانت القوات المسلحة للبلاد تضم 147 ألف عسكري، حوالي 80 ألفا من ضمنهم مجندون يؤدون الخدمة العسكرية التي تدوم 18 شهرا. كما كان الجيش الجزائري يتوفر على 150 ألفا من الجنود الاحتياطيين. كانت القوات البرية تتشكل من 127 ألف جندي، والجوية من 14 ألفا والبحرية من 6 آلاف. أما القوات المسلحة الموازية، فهي تضم الحرس الجمهوري، وهو قوة من جنود الصفوة يبلغ عدد رجاله حوالي 1200، والدرك الوطني المشكل من 20 ألفا، وقوات الأمن الوطني المتوفرة على حوالي 16 ألف شرطي. مثلما كانت قوات الدفاع الذاتي، التي قاتلت إلى جانب الجيش النظامي خلال الحرب الأهلية، فتضم في صفوفها حوالي 150 ألف شخص.
إن الجيش الجزائري «جيش احترافي، لكنه ليس جيشا مهنيا، أي أنه جيش مختلط يهيمن ضمن صفوفه الجنود النظاميون» (انظر موقع وزارة الدفاع الجزائرية)، وقد حافظ على التجنيد الإجباري منذ 1969، وذلك رغم الأحاديث عن تحويله إلى جيش مهني الرائجة انطلاقا من 2000.
منذ إلغاء التجنيد الإجباري بواسطة ظهير 31 غشت 2006، يعتبر الجيش المغربي المؤسسة العسكرية الوحيدة المهنية في المغرب العربي، وكانت تتألف في 2010 من 198 ألف عسكريا، علما أن ساكنة البلاد كانت تصل حينها إلى 32 مليون نسمة. وتتشكل القوات المسلحة الملكية من الجيش الملكي، أي القوات البرية (175 ألف عسكري)، والبحرية الملكية (7800)، والقوات الملكية الجوية (13 ألف)، والحرس الملكي (23 ألف) والدرك الملكي (3 آلاف دركي)، وينضاف إلى هذه الأعداد 150 ألف جندي احتياطي. أما القوات المساعدة فتضطلع أساسا بمهمة دعم القوات المسلحة الملكية في مواجهتها لجبهة البوليساريو، وهي تابعة لوزارة الداخلية رغم وضعها القانوني العسكري، وتتكون من 30 ألف فرد.
أهمية التماسك
رغم أنها مثيرة للإعجاب، فالفرضية السابقة تشكو من بعض النقائص، خاصة في ظل غياب المعطيات المبنية على الملاحظة العينية. أجل، إن الربط بين التجنيد الإجباري والانخراط في خندق الثوار يفترض إنجاز دراسة سوسيولوجية دقيقة للجيوش المعنية، ولدرجة تسييس الضباط وضباط الصف والجنود. وبإمكان تحليل تطلعات هؤلاء وأسباب مساندتهم للمتظاهرين أو المنتفضين المسلحين، أن تبرز نقط الالتقاء الممكنة بين المجتمعين المدني والعسكري في البلدان المعنية، وتقدم تفسيرات لأنماط التقارب بين المجتمعين. ومن جهة أخرى، ورغم أن مهران كامرافا يورد العديد من الأمثلة من العالم العربي، بل ومن خارجه أيضا، أمثلة تخص الترابط بين التجنيد الإجباري ومساندة الحشود الشعبية المتظاهرة، فإن الطابع الميكانيكي لهذا الترابط ليس معطى محسوما في صحته. إن انتفاضات أكتوبر 1988، التي أطلق خلالها الجيش الجزائري النار على المتظاهرين ضد غلاء المعيشة والمحسوبية والرشوة، تعتبر نموذجية في هذا السياق. وبالفعل، فقد كلف جيش من المجندين بعمليات القمع في غياب قوات مختصة في الحفاظ على الأمن، عمليات قمع أحدثت قطيعة في الروابط بين الجيش الوطني الشعبي، وريث جيش التحرير الوطني، والشعب الجزائري، الروابط مثلما كانت تغذيها الميتولوجيا الوطنية.
إنه من اللازم استحضار تنظيم الجيش في التحليل، لكنه يجب أخذ عوامل أخرى بعين الاعتبار لشرح مواقف القوات المسلحة خلال الفترة التي تعنينا. وإذا كان تماسك الهيئة العسكرية ليس عاملا محددا مسبقا لاختيارات الجيش، فإن تعدد الولاءات والتمايزات داخل الجيش المعني قد تضرب وحدته. وهذا ما حصل بالذات للجيش الليبي، ذلك الجيش الذي كان معرضا للتهميش، ومحاصرا من قبل قوات شبه عسكرية ووحدات من صفوفه ظلت تنافسه، علما أن الوحدات الأخيرة كانت تحظى بالكثير من الامتيازات من قبل النظام السابق، ما جعلها تدافع عنه.
القوات العسكرية ودول المغرب العربي: بين المراقبة المتبادلة والمأسسة
إن طبيعة العلاقة بين الجيوش والدولة، ومعها المعطى البديهي المتجلي في تحكم الحكم في القوات المسلحة، معطيان مرتبطان بقوة بمسألة الدولة. توسم الدولة في المغرب الكبير بكونها دولة مورّثة جديدة، وهي تتميز في كثير من الأحيان بضعف استقلالية المؤسسات، وخوصصتها، وجعل الزبونية تسود العلاقات مع المجتمع و»اللجوء إلى صورة أبوية للعلاقة السياسية». وكذا، فإن أهم تحدي تواجهه هذه المجتمعات يتمثل في بناء جهاز دولة «قائم على القانون، من اليسير توقع قراراته ومبني على الكفاءة».
ومن الممكن اعتبار الحالة الليبية نموذجا للدولة المورَّثة الجديدة حيث الولاء مؤسس على العلاقات العائلية والقبلية والإيديولوجية، وحيث المراقبة السياسية الصارمة، ومنح الامتيازات بناء على الولاء وليس على الكفاءة، والنقل الدائم والعشوائي للضباط من مناصبهم قصد تفادي الانقلابات العسكرية، عوامل تندرج في الإطار العام لسياسة هدفها عرقلة بزوغ فئات مهنية مؤسسة ومستقلة.
إذا كانت الدول الثلاثة الأخرى تستعير بعض تجليات الدولة المورثة الجديدة، فإن مأسسة القوات المسلحة فيها ودورها الخصوصي في مشهد بلدها السياسي يحددان علاقات متميزة بين الجيش والدولة في كل واحدة من تلك البلدان. وبالفعل، ورغم إضفاء طابع الاحترافية على جيوش هذه الدول، مع اختلافات بينها بالطبع، أي رغم تحويل العسكريين إلى «فئة مهنية» عبر آليات توظيفهم وتكوينهم، بل وخلق «أخلاقيات الخدمة والمسؤولية» لديهم، رغم ذلك تظل علاقات العسكريين مع الحقل السياسي محكومة بشروط بناء دولة ما بعد الاستعمار وبالفاعلين المتواجدين في الساحة.
جيش جزائري
في قلب اللعبة دائما
ليس ما يميز الجيش الجزائري عن باقي جيوش المنطقة هو خوضه لحرب تحررية وطنية طويلة ودموية (حربا الاستقلال في المغرب وتونس كانتا أقصر مدة)، بل المكانة التي يتبوأها في المشهد السياسي منذ الحصول على الاستقلال. بفضل كونه وريثا لجيش التحرير الوطني القوي بفعل شرعيته الثورية، احتل الجيش الوطني الشعبي مكانة مركزية داخل النظام السياسي الجزائري. ونظرا لأنه أحد أعمدة النظام السياسي بمعية رئاسة الحكومة والأجهزة الأمنية، فقد أصبح صانع الرؤساء في رحم جهاز سياسي مكون أساسا من المدنيين، لكن السلطة الفعلية ضمنه في يد العسكريين رغم عدم تبوئهم الواجهة. ومع ذلك، فمركزية الجيش هذه لا تلغي الصراعات داخله وعدم ثقة السلطة السياسية به، كما يؤكد ذلك دور الأمن العسكري ,الذي سيحمل اسم مديرية المباحث والأمن في 1990. في عهد هواري بومدين (1965- 1978) ومحافظة هذا الأخير على منصب وزارة الدفاع، وهو نفس الأمر الذي سيسلكه خلفاه: ليامين زروال (1995- 1999)وعبد العزيز بوتفليقة (منذ 1999). ورغم انسحاب الجيش من كل «انتماء سياسي» المعلن عنه في أكتوبر 1988، فإنه سيلزم انتظار انتصار القوات المسلحة على الإسلاميين المسلحين، «أعداء الداخل»، وإعادة انتخاب بوتفليقة في 2004 لتصبح إعادة تركيز الجيش على مهامه الأساسية (الدفاع عن التراب الوطني وسيادة البلاد) فعلية. إعادة التركيز هذه التي تولدت أيضا عن المواجهة بين الرئيس بوتفليقة وكبار رجالات الجيش، ستتم ترجمتها خاصة عن طريق وصول ضباط لم يعيشوا حرب التحرير إلى رتبة جنرالات. ومع ذلك، فإن مركزية الجهاز العسكري تظل قائمة، وذلك ليس فقط بفعل التوافق الذي يخمنه جميع المراقبين بسبب مسألة خلافة الرئيس بوتفليقة، بل أيضا نظرا لتطور الأوضاع الأمنية داخل البلاد وفي حدودها الجنوبية. أجل، إن نتائج انهيار الجماهيرية الليبية (حرب مالي، احتجاز رهائن منشأة الغاز في عين أميناس خلال يناير 2013...) تدعم دور الجيش في الحقل السياسي الجزائري، وخاصة في مجال صياغة السياسة الخارجية للبلد، وهو ما يدل عليه ملف الصحراء الغربية واندماج الجزائر في الإجراءات الأمنية المتعلقة بمنطقة الساحل.
الجيش المغربي: الملك أولا
لا يعتبر الجيش المغربي نفسه بوتقة الدولة والأمة، ذلك أن المؤسسة الملكية هي العنصر المحوري والمهيكل في المغرب لمنظومة الدفاع، حيث «تتخذ القرارات بعيدا عن عموم المواطنين وعن النقاش العمومي» وفق إبراهيم السعيدي. وقد تدعمت مركزية المؤسسة الملكية عقب المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين ضد الملك الحسن الثاني في يوليوز 1971 وغشت 1972، حيث أصبح العاهل منذ ذاك يراكم اختصاصات وزارة الدفاع ورئاسة أركان الجيش. وينص دستور البلاد الجديد المعتمد عقب التعبئة الشعبية لعشرين فبراير 2011، في فصله 53، فالعاهل المغربي «هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. وله حق التعيين في الوظائف العسكرية، كما له أن يفوض لغيره ممارسة هذا الحق». وتتمثل آلية الضبط الأخرى في الدرك الملكي المؤسس سنة 1957 والمكلف بحماية القصر ومراقبة القوات المسلحة الملكية منذ الانقلابين السالفي الذكر. ويضم الدرك الملكي في صفوفه 23 ألف دركي، كما تصل ميزانيته إلى 22 بالمائة من ميزانية الدفاع الوطني.
ومن العوامل التي ساهمت أيضا في إبعاد القوات المسلحة قضية الصحراء التي سمحت للملك بإيجاد متنفس لها، ما جعلها تنأى عن الساحة السياسية المغربية. وبقيت معادلة مكانة العسكريين في إطار الملكية مطروحة غداة 2011، وذلك بنفس الصيغة التي طرحت بها حين جلوس محمد السادس على العرش: ما الذي يمكن فعله بالمائة وعشرين ألف عسكري المجندين في جنوب المملكة في حالة حل نزاع الصحراء؟ وإذا كان استمرار سلم ساخن مع الجارة الجزائر يوفر إمكانية تعبئة هذه الأعداد الغفيرة، فإنه يبدو أيضا أن المملكة الشريفة جد مهتمة بانعكاسات الأزمة الليبية على المنطقة. وبفعل تطورات الأزمة المالية منذ 2012 التي أدت إلى اتهام بعض عناصر البوليساريو بالتواطؤ مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، فإن المحيط الجيو-سياسي قد يوفر بديلا للقوات المسلحة الملكية المغربية، مثلما هو الحال بالنسبة للجيش الجزائري.
الجيش التونسي في رحم التوترات
مع أفول سنة 2011، وجد الجيش التونسي نفسه مكللا بهالة مشاركته في القضاء على نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وخاصة رفض الجنرال رشيد عمار، رئيس أركان القوات البرية، إطلاق النار على المتظاهرين في شهر يناير 2011. ومنذ ذاك، والمؤسسة العسكرية في واجهة الأحداث، متمتعة بصورة كونها جيشا جمهوريا، قريبا من الشعب - نظرا لحجم المجندين داخله كذلك- وضامنا للديمقراطية الوليدة. وتجسد هذه الصورة قطيعة مع تلك التي كانت سائدة منذ حصول البلاد على الاستقلال، أي صورة جيش تقني ظل مبعدا عن شؤون الدولة من قبل السلطة السياسية عقب المحاولتين الانقلابيتين ضد الحبيب بورقيبة في 1962 1987. ورغم أن زين العابدين بن علي، الوزير الأول الذي انقلب على بورقيبة، كان منبثقا من صفوف المؤسسة العسكرية، فإن قوات الأمن هي التي كانت تحمي استمرارية النظام على وجه الخصوص وتمارس ضبطا سياسيا واجتماعيا صارما. ومع ذلك، فالحكم لم يكن يتردد في دفع الجيش للتدخل لإعادة استتباب الأمن (يناير 1978 ويناير 1984) أو للانتشار في أرجاء مدينة غفسة إبان الانتفاضة في مناجمها في يونيو 2008.
لقد يسرت المشاركة الفعلية للقوات العسكرية في إسقاط النظام، ومعها تهميشها النسبي، دور الجيش وقبول السكان له في إطار تونس الانتقالية، وذلك بالإضافة إلى ضمانها لحسن إجراء انتخابات 23 أكتوبر 2011 الخاصة بالمجلس التأسيسي...
يبدو أن الأجندة المحلية والإقليمية عاملان سيقويان أكثر حضور المؤسسة العسكرية التونسية في الحقل السياسي، وذلك رغم تحفظها، بل وانسحابها خلال أزمة فبراير ومارس 2013. أما عودة العسكريين إلى ثكناتهم، فهو رهين بعدة متغيرات من بينها تطورات الوضع الليبي والوضع في الحدود المشتركة مع الجزائر وليبيا، ومحاربة الراديكاليين الإسلاميين التونسيين التي توسعت منذ نهاية أبريل 2013، والأوضاع الاقتصادية للبلاد، دون إغفال تحولات العلاقة بين المؤسسة العسكرية والقادة الإسلاميين. لكن الإعلان عن استقالة رئيس أركان الجيش في 24 يونيو 2014 يشكل مؤشرا على التوترات التي تخضع لها المؤسسة العسكرية، علما أن سهام النقد بدأت توجه لها منذ انطلاق عملية مواجهة المجموعات الجهادية في الحدود مع الجزائر.
بينما تنعتق ليبيا من براثن غياب الدولة والتجزئة التي عانت منهما طوال أربعة وأربعين سنة، وبينما يعاني جيشها كثيرا لفرض نفسه في وجه المجموعات المسلحة القوية والحاضرة في جميع أنحاء البلاد، فإن الجيش الجزائري، الذي تخلص من كل «انتماء سياسي»، يلعب دورا محوريا في البلاد. أما في تونس، فالقوات المسلحة تتدخل في الشأن السياسي، بينما تظل القوات المسلحة الملكية في موقعها على هامش السلطة والمملكة.
غداة الانتفاضات العربية إذن، وهي الانتفاضات التي عاشتها دول المغرب العربي بأشكال متفاوتة، نلاحظ أن واقع العلاقات المدنية- العسكرية تخلق أجندات محلية داخلية مختلفة، علما أن هذه العلاقات قد أصبحت تضامنية ومتداخلة بفعل المحيط الجهوي وتنقل التهديدات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.