رغم كوني لست محللا سياسيا ولا دارسا لظاهرة الهجرة ومشاكلها، فإنني لم أقو على تجاهل رغبة صديق مقيم بإيطاليا، يهتم، إعلاميا، بشؤون الهجرة والمهاجرين، حين طلب مني تقديم قراءة استشرافية لأوضاع الجالية المغربية على ضوء نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة. وإذ أستسمح المتخصصين في المجال وألتمس، عند صديقي المهاجر، العذر على السطحية والتبسيطية التي يمكن أن تتسم بها هذه القراءة في كثير من جوانبها، أبادر إلى القول بأن أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، قد حققت، حسب النتائج العامة للانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، تقدما ملموسا؛ بل إن البعض منها قد أحرز انتصارا ساحقا. وهو ما يعني تزايد المد العنصري، وبشكل مخيف، في القارة العجوز. سوف لن نبحث في أسباب هذا المد العنصري؛ ولن نقف عند محدداته الإيديولوجية والثقافية والفكرية ولا عند مبرراته الاقتصادية والاجتماعية؛ كما سوف لن نخوض في تفريعاته وامتداداته الأوروبية؛ بل سوف نكتفي بمحاولة استقراء آثار هذا المد العنصري، من خلال نتائج الاستحقاقات الأوروبية الأخيرة، على أوضاع الجالية المغربية. ورغم علمنا بوجود جالية مغربية مهمة منتشرة على مستوى كل البلدان الصناعية في القارة الأوروبية (وإن كان حجمها يختلف من بلد أوروبي لآخر)، فإن اهتمامنا، في هذا المقال المتواضع، سينصب، بشكل أساسي، على فوز الجبهة الوطنية العنصرية بفرنسا؛ وذلك للاعتبارات التالية: أولا: لكون الحزب اليميني المتطرف بزعامة «مارين لوبين»، قد تصدر النتائج بأزيد من 25 /100 من الأصوات، متقدما على أكبر حزب يميني معارض بفرنسا (وهو الاتحاد من أجل الحركة الشعبية UMP : 20 /100) وعلى الحزب الاشتراكي الحاكم الذي لم يتجاوز نسبة 14 /100. وبهذا، أصبحت الجبهة الوطنية في مقدمة الأحزاب اليمينية المتطرفة على مستوى القارة الأوروبية كلها. ثانيا: لقد خلف هذا التقدم الكبير الذي حققه اليمين المتطرف صدمة كبيرة لدى الطبقة السياسية ولدى المثقفين والمهتمين بحقوق الإنسان وشؤون الهجرة وغيرهم. ولم تقتصر آثار هذه الصدمة على فرنسا، بل امتدت إلى باقي البلدان الأوروبية؛ وهذا سبب كاف، في اعتقادنا، لتركيز اهتمامنا على النتائج التي حصلت عليها الجبهة الوطنية في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة. ثالثا: تعتبر باريس، إلى جانب ألمانيا، من المؤسسين للاتحاد الأوروبي. ويشكل فوز حزب الجبهة الوطنية، المعادي لوحدة أوروبا ولعملتها الموحدة، تهديدا حقيقيا لمسلسل البناء الأوروبي الذي لا يزال يعاني من عدة مشاكل. وبهذا الفوز لليمين المتطرف، الذي وصفه رئيس الوزراء الفرنسي الحالي السيد «مانويل فالس» ب»الزلزال السياسي»، سوف يضعف دور فرنسا الريادي في المجموعة الأوروبية. وليس عبثا ولا صدفة أن توجه زعيمة الجبهة الوطنية، «مارين لوبين»، سهامها ضد ألمانيا، الحليف الأساسي لفرنسا في بناء أوروبا الموحدة. ففي مقابلة صحفية مع مجلة ألمانية، هاجمت «مارين لوبين» المستشارة الألمانية، «أنجيلا ميركيل»، وعبرت عن عزمها العمل على تقويض الوحدة الأوروبية. رابعا: أما الاعتبار الرابع والأخير الذي جعلني أقتصر على فرنسا في هذا المقال، فهو شخصي؛ إذ، موضوعيا، فأنا أعرف فرنسا أفضل من أي بلد أوروبي آخر (رغم أن هذه المعرفة تبقى نسبية في كثير من جوانبها)؛ وذلك بحكم الدراسة والمهنة. وقد كانت لغة موليير سببا للارتباط بهذا البلد ثقافيا وفكريا وعلميا وحتى سياحيا. وإذا كانت لي بعض المعرفة بالثقافة الفرنسية واهتمام بالحياة السياسية بهذا البلد، فإني أعترف بجهلي شبه الكلي بالبلدان الأوروبية الأخرى. لذلك، لن أسمح لنفسي بالحديث عن البلدان التي أجهل لغاتها وثقافاتها وأنظمتها السياسية؛ إلا ما كان من إشارات مقتضبة يفرضها السياق (وقد تحيل على معلومات يعرفها الخاص والعام(. تهدف هذه السطور إلى استشراف أوضاع الجالية المغربية على ضوء الوضعية الجديدة التي خلقتها الانتخابات الأوروبية الأخيرة. وبما أن هذه الانتخابات قد كشفت عن تزايد المد العنصري بأوروبا، فإنه لا يمكن إلا أن نقلق على أوضاع جاليتنا بها؛ وبالأخص في البلدان التي بها جالية مغربية مهمة جدا مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها. ومصدر التخوف نابع من كون الأحزاب اليمينية المتطرفة تشترك في كراهيتها للأجانب ومعاداتها لثقافتهم ومعتقداتهم، خاصة حين يتعلق الأمر بالجالية المغاربية والعربية المسلمة. فهذه الأحزاب هي عنصرية بطبعها. ولذلك، فهي ترفض الآخر (الأجنبي) وتناصب له العداء، فتنشر في حقه ثقافة الحقد والكراهية والضغينة؛ وذلك بترويج صور نمطية عن المهاجر، تجعل منه المسؤول عن المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع الأوروبي: فالمهاجر متهم ب»سرقة» فرصة عمل المواطن الأوروبي؛ ومتهم بالضلوع في انتشار الجريمة؛ وقس على ذلك. وإذا كانت بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة (خاصة الصغيرة منها، ك»عصبة الشمال» الإيطالية، مثلا)، قد أعلنت عن نواياها في التموقع إلى جانب الجبهة الوطنية الفرنسية لتشكيل فريق داخل البرلمان الأوروبي، فإن ذلك يعطي الدليل على الجاذبية السياسية التي أحدثها ويحدثها حزب «مارين لوبين» لدى التنظيمات اليمينية المتطرفة في أوروبا. وهو ما سوف يعطيه الإمكانية في تشكيل جبهة لتمرير القوانين المعادية للمهجرين؛ الشيء الذي سوف يساعد على تفاقم العنصرية ضدهم. ولا تخفي زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية رغبتها، بل مشروعها المتمثل في ردم وهدم الوحدة الأوروبية والعودة بشعوبها إلى الانغلاق في كيانات قومية شوفينية. وهكذا، ختمت الحديث الصحفي الذي أشرنا إليه آنفا بالقول بأن ما يحدث بفرنسا اليوم (حدث فوز الجبهة الوطنية) «ينبئ بما سوف يحدث بباقي أوروبا: أي العودة الكبرى للقوميات التي أرادوا محوها». ولا يحتاج المرء لكبير عناء لكي يدرك خطورة هذه النظرة الإيديولوجية الضيقة وانعكاساتها الوخيمة على أوضاع الجالية الأجنبية، ومن بينها الجالية المغربية. وبإطلالة سريعة على برنامج الجبهة الوطنية، وبالأخص النقطة المتعلقة بالهجرة، ندرك هذه الحقيقة المرة. فالجبهة الوطنية تجعل من ضرب كل المكتسبات التي تتمتع بها الجالية الأجنبية، إحدى أسبقيات برنامجها السياسي. فهي تريد، من بين ما تريده، إلغاء التجمع العائلي وإلغاء الانتقال الحر للأشخاص على مستوى أوروبا (معاهدات «شنكن») وإلغاء الحصول على الجنسية الفرنسية للمولودين على الأرض الفرنسية من أبوين أجنبيين (droit du sol) وإلغاء المساعدة الطبية التي تقدمها الدولة الفرنسية للمهاجرين السريين وإلغاء إمكانية تسوية الوضعية بالنسبة للمهجرين غير الشرعيين، مع منع كل المظاهرات المؤيدة لهم والمطالبة بتسوية وضعيتهم... وغير ذلك من الإجراءات التي سوف يتضرر منها المهاجرون بشكل كبير. وفي ارتباط بنفس الموضوع، أي الهجرة، فإنه من بين أهداف الجبهة الوطنية مراجعة الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان الذي تعتبره مسؤولا عن تدفق المهاجرين إلى فرنسا. كما تعتزم التخلص من كل مهاجر شرعي يمكث بدون عمل لمدة سنة، مهما كانت مدة إقامته؛ بالإضافة إلى حرمان المهاجرين من الامتيازات الاجتماعية مثل السكن الاجتماعي والتعويضات العائلية؛ وهكذا، تشترط الجبهة الوطنية أن يكون أحد الأبوين إما فرنسيا وإما أوربيا للحصول على التعويضات العائلية. وما هذا إلا غيض من فيض في برنامج هذا الحزب اليميني المتطرف. ونتصور أن هذا الحزب سيعمل، مع باقي الأحزاب اليمينية (المتطرف منها وغير المتطرف)، على مستوى البرلمان الأوروبي، في اتجاه اتخاذ تدابير دستورية وتشريعية وتنظيمية ترمي إلى تضييق الخناق على المهاجرين سواء كانوا شرعيين أو غير شرعيين. ونرى، في هذا، الصعوبات التي تنتظر جاليتنا المغربية، على صعيد أوروبا، سواء على مستوى التنقل (إذ يعتبر إلغاء معاهدات «شينكن» من أولويات حزب «مارين لوبين») أو على مستوى المكتسبات الاجتماعية والسياسية والحقوقية. فصعود نجم اليمين المتطرف في فرنسا وفي بعض الدول الأوروبية، يجعلنا نتصور أن القادم من الأيام سكون صعبا على جزء كبير من جاليتنا التي تعاني، أصلا، الأمرين من العنصرية في بلدان المهجر. ويعتبر فوز حزب الجبهة الوطنية بالمرتبة الأولى (وبفارق كبير) في الانتخابات البرلمانية الأوروبية أمام الحزب اليميني المعرض (الاتحاد من أجل الحركة الشعبية) والحزب الاشتراكي الحاكم، تكريسا للتقدم الكبير الذي حققه هذا الحزب في الانتخابات البلدية الأخيرة، حيث تمكن من الظفر بأكثر من عشر بلديات في مدن فرنسية كبيرة. مما يعني أن خطاب الجبهة الشعبوي والعنصري يجد صداه لدى الناخب الفرنسي الذي يتخبط، بسبب الأزمة الاقتصادية، في مشاكل عدة. وما كان ل»مارين لوبين» أن تطالب الرئيس الفرنسي بحل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، لو لم تصنع الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة من حزبها القوة السياسية الأولى في فرنسا؛ وبالتالي، أكبر حزب يميني متطرف على مستوى أوروبا كلها. وتريد «مارين لوبين» أن تستثمر هذا الوضع الجديد لتحقيق المزيد من المكتسبات السياسية؛ ولم لا الظفر بالمرتبة الأولى في الجهاز التشريعي، حتى تتمكن من تنفيذ برنامجها العنصري انطلاقا من تغيير القوانين المعمول بها في مجال الهجرة! ويبقى الأمل في أن يستيقظ الضمير الفرنسي ويعود إليه الوعي بخطورة ما يمثله اليمين المتطرف ليس فقط بالنسبة للمهاجرين، بل ولفرنسا وتاريخها السياسي والفكري والثقافي أيضا. فما لم يتدارك الشعب الفرنسي الأمر (لقد بدأت بعض الجمعيات في التحرك لفضح سياسة الحقد والكراهية) ليوقف زحف الجبهة الوطنية المعادية لقيم العدل والمساواة والحرية والتسامح والانفتاح الفكري والثقافي والسياسي، ستصبح بلاد الأنوار تشكل «نموذجا» لتزايد المد العنصري الداعي إلى إغلاق الحدود الفرنسية التي ظلت، دائما، مفتوحة في وجه المضطهدين والفارين من الاستبداد السياسي.