في كتاب «القرآن والنساء: قراءة للتحرر»، تحاولين العودة إلى النص القرآني للبرهنة على سوء الفهم التاريخي التقليدي للوضع الاعتباري للمرأة، هل المشكل في نظرك كان يعود للفقهاء التقليديين والمفسرين، أمْ أنّ الأمر يتعلق بتأويلك الخاص؟ لا، الموضوع لا يرجع إلى تأويلي الخاص. فمنذ عهد النهضة، رأى العديد من المفكرين والعلماء المصلحين وجود سوء فهم عميق بين ما يقره القرآن صراحة من جهة، والتفاسير والنصوص الفقهية المتداولة من جهة أخرى. فالرجوع إلى الأصل، أي القرآن والسنة الصحيحة، ليس نهجا جديدا، لأننا نجد في كل العصور ثلة من المفكرين والعلماء الذين رفضوا «التقليد» ورجعوا إلى النصوص الأصلية، وهو ما يعكس مفهوم الاجتهاد الذي ورد في القرآن وأقره النبي محمد (ص) ليتجدد فهم الدين مع التطور الذي يُصاحب كل عصر وتغيراته. الجديد في عصرنا هو التطورات العميقة التي عرفها والحاجة إلى فكر إسلامي جديد إصلاحي ومتنور يتجاوز حتى فكر النهضة والتجديد الذي جاء به. فهو لم يستطع أن يطبق جل ما أتى به من إصلاح، وبقي محصورا في نطاق «قضية المرأة في الإسلام» التي تُعد اليوم مفهوما متجاوزا أمام إصلاحات عميقة كقوانين مدونة الأسرة والدستور الذي يقر بالمساواة التامة بين الجنسين. فالمسألة لا تتعلق بقضية المرأة وإنما بقضية الرجال والنساء التي لا بد أن يكون الإطار المرجعي فيها هو الفكر الإسلامي المتجدد والمتنور والإطار الحقوقي الإنساني العالمي. كيف تنظرين إلى تزايد ولوج المرأة مجالا كان حكرا على الذكور وهو مجال الخطاب الديني والفقهي؟ تزايُدُ ولوج المرأة مجالات كانت حكرا على الذكور في الخطاب الديني والفقهي هو أمر طبيعي يواكب تطور المجتمع وولوج النساء إلى التعليم وحصولهن على الشهادات العليا وخروجهن إلى العمل في الفضاء الاجتماعي والسياسي، وهذا هو الأصل في جوهر الدين الإسلامي الذي أكد على طلب العلم في جميع التخصصات الذي يُعتبر فريضة على كل مسلم ومسلمة. ولم يمنع الدين في أي نص من نصوصه المرأة من ولوج الخطاب الديني والفقهي ولا حتى المراكز العليا في هذا المجال. فلا يوجد نص واحد يمنع المرأة من ذلك، وإنما هي تأويلات فقهية ما زالت تقر بدونية المرأة ومنعتها من ولوج ذلك المجال. ولكن المهم هنا ليس فقط ولوج العديد من النساء إلى الخطاب الديني- الذي يعد غير كاف رغم كونه أمرا محمودا على المستوى الرمزي - وإنما أيضا نوع الخطاب الذي ستتداوله هؤلاء النساء والذي يجب أن يكون محط تساؤل. فغالبا ما يكون هذا الخطاب الذي تردده نساء مقتنعات بهذه التأويلات التي أصبحت مقدسة، تكرارا للخطاب الديني التقليدي الذي يكرس للتمييز ضد النساء، إلى درجة استيعابهن فكرة «سلطة الرجال على النساء» على جميع المستويات. هل صحيح أنكِ تحاولين في أبحاثكِ شقّ طريق جديد حول القضية النسائية الإسلامية يكون وسَطا بين تطرفين، تطرف إسلامي متزمت وتطرف حداثي متفسخ. نعم، أرى أن ما أسميه الطريق الثالث، ما بين فكر إسلامي تقليدي متجمد وحداثة مجردة مهيمنة، هو طريق قادر على أن يخرجنا من مأزقنا السوسيوثقافي الراهن وحالة انفصام الشخصية المجتمعي الحالي، لكي نأخذ من الدين قيمه الأخلاقية ومقاصده، ومن الحداثة قيمها الكونية الإنسانية التي نتقاسمها مع الإنسانية جمعاء. هل يمكن اعتبارك عالمة دين تتحدثين من داخل المنظومة الفقهية، أمْ أنّك تنتمين إلى خانة المفكرين والدارسين الحداثيين للإسلام؟ أنا لست «عالمة» دين ولا أتحدث من داخل أي منظومة فقهية، بل أحاول كإنسانة مواطنة ومهتمة بمجال الفكر الديني ومفاهيمه أن أبلور فكرا نقديا معاصرا حول كل هذه الإشكاليات. ولا أريد أن أُنعت بأي من هذه الصفات ولا أن أُصنف من «الحداثيين» لأن لدي فكرا يعارض الكثير مما جاءت به الحداثة كمفهوم غربي مهيمن، رغم أنني أتقاسم المفاهيم الكونية الإنسانية. فمعارضتي تصب فيما يسمى الآن بالفكر المناهض لهيمنة التسلط الفكري الحداثي، وأرفض في نفس الوقت النظرة الدينية التقليدية، ولهذا أفضل الطريق الثالث الذي أعتبره طريقا صعبا لأنه لا ينحاز إلى أي إيديولوجية معينة. إنه طريق الفكر الحر والمتحرر من كل الحسابات السياسية والإيديولوجية والذي يؤمن بحرية الإنسان -امرأة ورجلا- في سياق أخلاقي وروحي راق ومتطور. حصلتِ على جائزة المرأة العربية في العلوم الاجتماعية سنة 2013، هل نعتبر هذا التتويج نتيجة أنّكِ وطئتِ أرضا يخشاها كبار الدكاترة والباحثين لأنها تلامس مجالات حساسة في الفكر العربي الإسلامي ( العلاقة بين الإسلام والمرأة والمرأة والقرآن والمساواة.. ). لم أكن بصراحة أنتظر هذه الجائزة خاصة وأن كتابي هذا الحاصل على الجائزة هو باللغة الفرنسية، ولكنني أظنه يعطي بعض الأجوبة بشأن إشكالية أصبحت بمثابة عقدة في مجتمعاتنا الإسلامية. كما أن الحاجة ماسة للتطرق لهذه المواضيع، فربما لهذا نلت هذه الجائزة... ما هو المغزى اليوم من تخصيصك كتابا عن عائشة زوجة الرسول؟ وكيف نعيد قراءة تاريخنا العربي الإسلامي؟ المغزى من كتابي عن عائشة هو، أولا، إعطاء صورة جديدة عن المرأة التي كانت بعد النبي (ص) قدوة في التفقه في الدين، وعالمة ومفتية وسياسية. فعادة ما يُحصر دورها في تبليغ الأحاديث النبوية، في الوقت الذي كانت توثق فيه هذه الأحاديث وتستدرك عن صحابة كبار. ثانيا، أردت أن أستحضر شجاعتها الأدبية والسياسية وأن أظهر تمكنها كامرأة في ذلك العصر من أن تكون حاضرة في الفضاء العام والسياسي بقوة شخصيتها ودينها. وهي صورة بعيدة كل البعد عن تلك الصورة النمطية التي بلورها الفكر الإسلامي عن النساء كزوجات مطيعات وقارات في بيوتهن... فرغم نزول آية تلزم أمنا عائشة «بالحجاب»، أي أن تقر في بيتها، خرجت في حشد كبير من الصحابة والمؤيدين لها لمواجهة أمير المؤمنين آنذاك وهو علي رضي الله عنه. فبغض النظر عن صحة موقفها السياسي من عدمه، إلا أن الذي يهمني هنا هو أن هذا التاريخ السياسي للنساء والرجال أصبح محظورا على مستوى الثقافة والمقررات الدراسية وجامعاتنا ومؤسساتنا. وهنا مكمن الخلل، لأن ترويج هذا النموذج لنساء قويات مؤمنات بتعاليم الدين ومدركات لحقوقهن ومسؤوليتهن لا يناسب العقلية التقليدية المتكرسة في مجتمعنا للأسف الشديد. هل صحيح أن مشكلتنا في العالم العربي توجد في التأويلات الفقهية والتفسيرية وليس في النّصّ القرآني؟ ومن بين الأمثلة ما تقولينه بصدد ظاهرة الحجاب، باعتبارها ظاهرة إيديولوجية؟ نعم مشكلتنا لا تكمن أبدا في النص القرآني، بل في التأويلات التفسيرية والفقهية، لأن النص القرآني هو نص إلهي يضم قيما وأخلاقا وأحكاما تصب كلها في مصلحة الإنسان وتروم حفظ كرامته؛ أما التأويلات فتبقى «بشرية» مترسخة في سياق ومجتمع له مكوناته ومعاييره الثقافية. والعالِم أو الفقيه لا يفكر أو يأول من «العدم» بل ينطلق من واقعه، وبالتالي فواقعه ينعكس حتما على تفسيره للنص، ولهذا من العلماء والفقهاء الأوائل من تنبهوا لهذا الأمر ولم يعتبروا قط أن أفكارهم وأحكامهم مقدسة وصالحة لكل زمان ومكان، وإنما هي مقاصد القرآن التي تبقى ثابتة لا تتغير. وتبقى تأويلاتهم بشرية ومتغيرة يحكمها تغير الزمان والمكان. وبهذا فقد حدث خلط في مسألة أو ظاهرة «الحجاب» من حيث المفهوم والتسمية، إذ إن الحجاب هو «ساتر» وحاجز يفصل بين أمرين (وليس بلباس)، والقرآن يتحدث في سورة النور عن «الخمار» كغطاء للرأس. فالنص القرآني لم يتطرق إلى تفاصيل هذه القضية التي أصبحت تمثل وتشكل «القضية الكبرى» في الخطاب الديني المعاصر، وتلخص تدين المرأة وهذا غلط كبير. فالقرآن تكلم عن الخمار والجلباب في آيتين وجعلهما ضمن أخلاقيات المعاملات، لكي تستطيع المؤمنة أن تتسم بما يسمى بالأخلاق العالية من حياء واحترام، وتواكب مستلزمات العصر. وفي هذا السياق يقول القرآن مخاطبا بني آدم من رجال ونساء: «ولباس التقوى ذلك خير»(الأعراف:26) المتأمّل في كتاباتكِ ومقالاتكِ وتصريحاتكِ يلاحظ إلحاحكِ الدائم على أنّ القرآن والسنة النبوية هما الإطار المرجعي والمعرفي الذي لا بد من اعتماده كركيزة في مختلف السياقات، لإيجاد الحلول الملائمة لمختلف قضايا المرأة وغيرها من القضايا. هل هذا صحيح؟ وكيف؟ أركز على القرآن والسنة النبوية كإطار مرجعي لأنني أحاول أن أفكك هذه الإشكالية من داخل تلك المنظومة. وهذه الإشكالية صعبة ومنغرسة في جذور المفاهيم الدينية، والدين مرجعية ذات أهمية كبيرة في مجتمعنا. فإذا بدأنا بإصلاح الفكر الإسلامي وتفكيك التأويلات المغلوطة والرجوع إلى مصادر الوحي وجوهر القرآن، فسنعود إلى تلك الأخلاقيات والروحانيات والمفاهيم الإنسانية الكبرى التي تتقاسمها الإنسانية جمعاء. فهذا هو المقصود دون إغفال الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يجب أخذه بعين الاعتبار في هذه المراجعات. فلا بد اليوم من فهم وتأويل المنظومة الدينية من ثلاثة أبعاد: المنظومة النصية والمنظومة السياقية الاجتماعية ومنظومة حقوق الإنسان. فهذا هو الإطار المرجعي العام الذي لا بد من أخذه بعين الاعتبار بشكل شمولي لكي نواكب العصر دون أن ننسلخ عن مرجعيتنا ونبتعد عن واقعنا. ما هو رأيك في ظاهرة تزايد فتاوى تهمّ المرأة، وفتاوى التكفير والمسّ بالفكر الحرّ؟ هذه كلها فتاوى يمكن تسميتها بفتاوى «الخوف»، الخوف من المرأة ومن الحرية ومن الارتقاء بالإنسان إلى الكرامة والانفتاح على العالم. وأظن أن الدافع هو الارتباك الهوياتي crispation identitaireوالجهل بمقاصد الدين الكلية وبثقافة الكراهية التي يروجها بعض المتطرفين في ظل «الفراغ الثقافي والفكري» الذي يعيشه للأسف أغلبية شباب هذا المجتمع. عن موضوع القوامة والولاية في الإسلام، تقولين أنه لابد من الاعتراف بوجود «مأزق تأويلي بين تفاسير وتأويلات ظلت رهينة سياقها التاريخي وبين خطاب ديني يرفض الواقع ويرفض الإقرار بالتحولات الاجتماعية العميقة «، فما هو الحلّ في نظركِ؟ ليس لدي «حل جاهز» ولكن لا بد من «اجتهاد جماعي» حول هذه القضية (وقضايا أخرى) مع عقلاء (من الرجال والنساء) من جميع التخصصات، لأن علماء الدين لا يحيطون علما بالواقع الاجتماعي، كما أن علماء الاجتماع ليست لهم دراية بنصوص الدين، الخ. وبالتالي لا بد أن يتم النقاش حول هذه المفاهيم بهدوء وتعقل وعقلانية وتكون هناك إرادة سياسية قوية ترغب في الحزم في هذه الأمور التي لا بد من وجود حلول لها لأنها مصدر إشكاليات كثيرة تراكمت مع الزمن. ولا يمكن لثقافة الديمقراطية والحرية والمساواة أن تكون إذا لم نعط حلولا واقعية لهذه الإشكالية الصعبة في إطار مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار الدين في مفهومه الإصلاحي المنفتح والمنظومة الحقوقية وتطور سياقنا الاجتماعي.