سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الأستاذ محمد صالحي، المتخصص في الأدب المكتوب بالإسبانية أتمنى من الأوساط الثقافية المغربية ترجمة أعمال «غابو» إلى العربية، وإعادة ترجمة ما ترجم منها بشكل رديء
يعتبر الأستاذ محمد صالحي من بين المتخصصين في الأدب المكتوب باللغة الاسبانية، وخصوصا أدب أميركا اللاتينية. وله ترجمات نذكر من بينها «الرواية الأمريكية اللاتينية الجديدة» الصادر عن منشورات «حوار» سنة 1990، وأيضا مسرحية كارلوس فوينتس «المرآة» الصادرة عن منشرات وزارة الثقافة سنة 2004، و»أنطولولجيا القصة القصيرة الكولومبية» عن وزارة الثقافة سنة 1998. وأعمال أخرى من منشورات اليونسكو حول الترجمة من الإسبانية إلى العربية في العالم العربي. وإذ نحاوره اليوم فلاعتباره أحد المتخصصين القلائل في الرواية الأمريكية اللاتينية التي تعيش اليوم حالة حداد على رحيل رمزها الكبير «غابرييل غارسيا ماركيز». وهو يعمل اليوم أستاذا لمادتي تاريخ وأدب أمريكا اللاتينية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. o أستاذ صالحي نحاورك حول رحيل الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيث، ماذا يمثل رحيله بالنسبة إليك كمختص في الرواية المكتوبة باللغة الإسبانية؟ n ذ.صالحي: كما قال رئيس المكسيك، البلد الثاني حيث توفي الكاتب الكولومبي الشهير (غابرييل غ.ما.) «غابو» » GABO « كما يلقبونه أحباؤه في كل أمريكا اللاتينية، خلال حفل تأبينه يوم 21 أبريل 2014؛ لو سئلت عن الشخصية أكثر رمزية لأمريكا اللاتينية لقلت هي شخصية الكاتب «غابرييل غارثيا ماركيث». بالفعل هذا الكاتب أو هذا الرجل العظيم الكولومبي/المكسيكي هو رمز للصراع والمقاومة من أجل الحياة إذ كانت مراحل من حياته شاقة ومليئة بالمعاناة. هو رمز كذلك للصحفي البارز، وهو علم من أعلام الإبداع الأدبي العالمي منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو إلى ذلك إنسان تعلم منه قراؤه ومحبوه الشيء الكثير، وما شهادات مواطنين من كولومبيا، ومن المكسيك، ومن دول أخرى إلا دليل على ذلك. فرحيل هذا المبدع (الذي فارقنا عن سن تناهز 87 سنة)أعتبره فقدانا لكاتب لقننا من خلال كتاباته القصصية والروائية والصحفية كيف نحلم وكيف نحيا وكيف نستمتع بالإبداع الأدبي. كل واحد منا، في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وأسيا، يجد نفسه في قصص وروايات هذا الكاتب العالمي.شخوص إبداعاته مأخوذة من الواقع ومن التجربة المعاشة وهي نموذج لما يعيشه الإنسان في جميع بقاع العالم على الرغم من أنها تنطلق من فضاء كولومبي صغير ألا وهو مسقط رأس الكاتب»أراكاطاكا» الذي سيأخذ اسم «ماكوندوا» الفضاء الخيالي في كتابات غابرييل غارثيا ماركيث. لم يكن لأمريكا اللاتينية في أعين الأوروبيين وغيرهم، وجود على مستوى الإبداع الأدبي، لكن مجموعة من كتابها سيعطونها هويتها خلال القرن العشرين: الأرجنتينين خورخي لويس بورخي، خوليو كورطاثار، الكوبي أليخو كابننتير، المكسيكين خوان رولفو وأكتابيو باث وكارلوس فوينطس، البيروفي ماريو بارغاس ليوسا، الباراغوايين روما باسطوس وروبين بارايرو ساغيير. كل هؤلاء الكتاب وعلى رأسهم «غابرييل غارثيا ماركيث» الذي ترجمت كل مؤلفاته إلى عدة لغات أخرجوا أمريكا اللاتينية من عزلتها. بموته سنفتقد إنسانا، لكن إبداعاته وعطاءاته ستبقى خالدة إلى الأبد، نظرا لما تحمله من متعة القراءة ومن عمق التصور الكوني الذي تعكسه ومن إبداع في تقنيات الكتابة. o ما هو تأثير روايات ماركيث في الروايات المكتوبة بالإسبانية؟ n كما قلت قبل قليل، هناك مجموعة من الكتاب من مختلف دول أمريكا اللاتينية الذين يكتبون بالإسبانية، لكن قبلهم كان هناك كتاب مرموقون من المستعمرة إسبانيا مثل غونغورا وكيفيدو ثيربانيطيس وغيرهم. وغابرييل غارثيا ماركيث كان من بين الذين إطلعوا على إبداعات هؤلاء الإسبان وغيرهم من الإنجليز والأمريكيين والفرنسيين والألمان مثل كافكا وجويس وفولكتير وبروست وسارتر وغيرهم وعمل على أن يستفيد من كل ماكتبوه، لكنه تجاوزه لأنه انطلق في نفس الوقت من واقع بلده وقارنه وأعطى إلى جانب جيل الستينات، أي كل من شاركوه فيما يسمى بالبوم (Bomm) الأدبي مثل كورتثار وكارلوس فوينطيس ورولغو وسابطو...، نفسا جديدا لكتابته الروائية بهذه القارة. هذا الجيل من الكتاب، كل واحد طبعا بخصوصياته وبتقنياته، سيساهم في تطوير الرواية الأمريكية اللاتينية وجعلها حاضرة بقوة ليس فقط في العالم الناطق بالإسبانية، بل كذلك على المستوى العالمي. كما يلاحظ النقاد المتخصصون في أدب أمريكا اللاتينية، فإن الرواية كانت في هذه القارة نوعا من أنواع الإبداعات الأدبية التي تعكس الواقع الاجتماعي بكل تناقضاته وكل ما كانت تعيشه القارة الأمريكية اللاتينية من معاناة على مستوى الفقر والعنف واللامساواة والعنصرية اتجاه الأهالي الذين يعتبرون من السكان الأصليين للقارة مثل الهنود الكيتشواس والغوارنيييس وغيرهما. لكن بعد منتصف القرن العشرين، لم تعد الرواية الأمريكية اللاتينية تكتفي بالتطرق للمواضيع الاجتماعية، بل عملت على خلق شكل جديد للتعبير متميز وعلى خلق أداة أدبية جديدة. وهكذا بدأ جيل جديد من كتاب أمريكا اللاتينية، ومن بينهم غابرييل غارثيا ماركيث، في التأسيس لكتابة جديدة سيكون لها الأثر على المستوى القاري والعالمي. فأصبح مجموعة من كتاب هذه القارة من المدافعين عن شكل السرد أكثر من مضمونه. من هنا سيأتي اهتمام ماركيث ببنية الرواية وبتقنيات السرد وإدراج الأسطورة والعالم السحري الأمريكي اللاتيني، مما دفع بالعديد من المهتمين والنقاد الأوروبيين نعت إبداعه ب «الواقع السحري». لكن إبداع الكاتب، في رأيي،هو واقع واقعي، والسحري هو طريقة جديدة اعتمدها الكاتب في الكتابة وتقنياتها. لناخذ مثلا روايته الشهيرة مائة عام من العزلة، ففي هذه الرواية وكما يقول ماريو بارغاس ليوس فإن السرد يسير في اتجاهين: اتجاه عمودي (زمن السرد والقصة) واتجاه أفقي (المواضيع المرتبطة بالواقع). ومن خلال هذين الاتجاهين تتحول ماكوندو القرية الصغيرة الخيالية إلى فضاء منتعش يعج بالتجار وبسكان نشيطين. إلى جانب إدخال الأسطورة وعدم احترام بنية السرد التقليدية وتعدد الشخوص وإضفاء الصفة الأسطورية عليها، فإن غارثيا ماركيث أبدع كذلك على مستوى الكتابة في حد ذاتها؛ فإذا أخذنا مثل روايته القصيرة: ليس للعقيد من يراسله، فإننا نجد في هذه الرواية طريقته في الكتابة تعير الاهتمام للنقطة والفاصلة وحتى للفراغ بين الجمل أو نقط الحذف. فالكاتب يطلب من القارئ أن يكون قارئا مساهما في إعادة تركيب النص وترتيبه، بل والمشاركة في كتابته بطرق أخرى. وهكذا، وفي إطار الأخذ والعطاء، فإن كتابات هذا الروائي كان لها صدى وأثر على مستوى الإبداعات باللغة الإسبانية، بل حتى على مستوى الكتابة الإبداعية العربية. o هل يوجد في أدب أمريكا اللاتينية من هو في حجم وقيمة ماركيث؟ n ماركيث، بالنسبة إلي، هو واحد من أعلام ورواد الإبداع الأمريكي اللاتيني، وهذا يذكرني بمقالاتي الأولى التي كتبتها في نهاية السبعينيات عندما قلت في أحدها إن القارئ العربي عندما يتكلم عن الرواية الأمريكية اللاتينية فإنه يفكر على التو في مائة عام من العزلة وفي مؤلفها ويتجاهل أو يجهل رواد آخرين من جيل غارثيا أو قبله، ساهموا في نشر الإبداع الأدبي الأمريكي اللاتيني، بفضل خصوصياتهم. فقبل حصول غارثيا ماركيث على جائزة نوبل سنة 1982، كانت هناك أسماء بارزة في الساحة الأدبية العالمية مثل أليخو كارتبيير، وبابلونيرودا الذي حصل على جائزة نوبل، وقبله، من نفس بلده الشاعرة الشيلية غابرييلا ميسترال التي حصلت على جائزة نوبل أنخيل أستورياس. طبعا دون أن ننسى معاصريه مثل بورخيس، وكورطاثار، وفونطس، وباغراس ليوسا، وباث... فكلهم، وكل واحد بتقنياته الخاصة وبمضامين كتاباته المتنوعة أعطى فكرة عن غنى وتطور الإبداع الأدبي في القارة الأمريكية اللاتينية. أمريكا اللاتينية واحد ومتعددة في نفس الآن، فغارثيا ماركيث هو واحد من كبار مبدعيها، لكن هناك آخرون من قبله ومن جيله وما بعده من لهم حضور كبير على مستوى الإبداع الروائي العالمي. o ترجمت لكارلوس فوينطس كتاب: الرواية الأمريكيةالجديدة التي يتكلم فيها عن «موت الرواية» ونحن نشهد في منطقة أمريكا اللاتينية «ولادة الرواية» كيف توضح هذه المفارقة؟ n في الحقيقة من يتكلم عن موت الرواية ليس هو فوينطس، بل هو ألبيرتو مورابيا. اما فوينطصس فيتساءل فقط هل ماتت الرواية فعلا؟ ويقول فوينطس:»لقد عرض مورابيا بشكل واضح الأطروحة التالية: سيكون للرواية دائرتان كبيرتان مماستان، هما دائرة التقاليد ودائرة السيكولوجيا، فرواية التقاليد انتهت مع فلوبير أما رواية السيكولوجيا فمع بروست وجويس. فالروائي العاري وسط انحطاط فنه -المزواج لانحطاط العالم البورجوازي الذي غذاه- لا يمكن أن يكون سوى شاهدا على هذا الانحطاط، المعبر عنه في صيغته النهائية:»الجنون» والملل واللامبالات . وعندما يقوم الروائي بذلك فإنه سيكون آخر بطل للعالم البورجوازي» وهنا يتساءل فوينطس، هل بالإمكان أن نطابق كليا بين الجنس الروائي والبورجوازية، مؤكدا أن أوج الشكل الروائي يتصادف وأوج هذه الطبقة الاجتماعية. ويخلص إلى القول إن الذي مات ليس هو الرواية بل وبالضبط الشكل البورجوازي للرواية وعنصر مرجعه، أي الواقعية التي تفرض أسلوبا وصفيا وسيكولوجيا لمراقبة الأفراد في علاقاتهم الفردية والاجتماعية. ويضيف فوينطيس: مختلف الروائيين الذين عاشوا في خضم هذه الأزمة، أثبتوا على أن موت الواقعية البورجوازية لا تعلن سوى عن قيام واقع أدبي أكثر قوة... (من خلال) القدرة على إيجاد وبناء لغة تحمل في باطنها أساطير ونبوات حقبة معينة...» وهذا ما يظهر جليا في كتابات كاربينتير وبارغاس ليوسا وكورطاثار وغارثيا ماركيث. o ما هي خصوصية الرواية الأمركية اللاتينية لغويا وموضوعاتيا، وخصوصية رواية ماركيث بالتحديد؟ n قبل أن أتطرق لخصوصيات هذه الرواية لا بد من الإشارة ولو في عجالة إلى المراحل التي قطعتها. كان ظهور الكتابة الروائية في هذه القارة متأخرا، إذ أن الشعر هو الصنف الذي كان رائجا. أما الكتابة الروائية فبدأت مع مطلع القرن التاسع عشر؛ ومن بين أنواع هذه الكتابة النثرية، كانت هناك رواية التقاليد التاريخية (سارميانطو وخورخي إسحاق). ثم الرومانسية، والرواية الأهلية (ثيرو أليغريا، وخورخي إيكاثا وخوص ماريا أرغيداس...)، ثم بعدها جاءت رواية الإصلاح الاجتماعي (مونطالبو وخوصي مارتي وغونثاليث برادا)، ثم رواية الأرض(رومولو غالييغوس). بعد الاستقلال، الذي أحدث القطيعة الثقافية مع إسبانيا، بدأت تظهر تيارات ثقافية جديدة. فالكتاب الأمريكيون اللاتينيون الشباب، ابتداء من حركة الحداثة عرفوا كيف يبحثوا عن أشكال تعبيرية خاصة ومستقلة وكذا مواضيع ترتبط بخصوصيات القارة الأمريكية اللاتينية. فكان ظهور ثلاثة أجيال: الجيل الأول (منذ 1940) ومنهم غوير الديس من الأرجنتين وأثويلا من المكسيك وميغبل آنخيل استورياس من الغواطيمالا. الجيل الثاني الذي سيعير اهتماما كبيرا للشكل الروائي ومنهم: كارلوس أونيتي وساباطو وكورطاثار وليثاماليما. الجيل الثالث هو الذي ينتمي إليه كارلوس فويطيس وماريو بارغاس ليوسا وغابرييل غارثيا ماركيث. فهؤلاء الكتاب عملوا على إقامة علاقة تواصل بين العالم اللساني لبورخيس وكاربنتيير وبين العالم الغرائبي لرولفو وكورطاثار مستعملين والبناء المفكك للسرد، بالرجوع إلى الوراء في الحكي أو استعمال تقنية الاستباق. وهذا ما نجده في كتابات غابرييل غارثيا ماركيث التي تمزج بين واقعية الرواية والأرض والأسطورة والسخرية والعالم الفاطستيكي والغرائبي. وهو بذلك يمحو الحدود بين الواقع والخيال. فالتجديد عنده مثلما هو عند كتاب جيله كان على مستوى تقنية السرد، فالزمن الروائي عندهم ليس هو نفس الزمن كما في الرواية التاريخية. وفي بعض الأحيان قراءة رواياتهم وتفكيك مضامينها يتطلب من القارئ جهدا في إعادة بناء النص. o كلمة أخيرة بمناسبة حداد الروائيين في العالم على رحيل غارثيا ماركيث. n هذا الهرم، على الرغم من رحيله، يبقى، كما قلت، حاضرا معنا بكتاباته وإبداعاته. فما أتمناه من الأوساط الثقافية المغربية هو العمل على نشر أعمال هذا الكاتب مترجمة إلى العربية سيما ما لم يترجم منها، وّإعادة ترجمة بعضها الذي ترجم إلى العربية بشكل رديء. ولا شك أن هذه الترجمات سيكون لها الأثر الكبير في تطوير تقنيات وأساليب الرواية المغربية.