عن سنّ تُناهز 87 عاما، فارق الأديب العالمي ذو الأصل الكولومبي، "غابرييل غارسيا ماركيز"، الحاصل على جائزة "نوبل" للأدب سنة 1982 ، الحياة بمقر إقامته بمدينة "مكسيكو" تاركا وراءه أعمالا تُرجِمَت إلى أغلب لغات العالم وبِيع منها ما يربو على 50 ملين نسخة.. ولقد شاع خبر قرب موته من قبل بعد إصابته بسرطان لمفاوي في 1999، فقلق، يومها، قراءه والمعجبون بأدبه ودبّجت أغلب المنابر الإعلامية، آنذاك، مقالات خبر نعيه على عجل؛ إلاّ أن تلك المقالات بقيت حبيسة الأدراج إلى أن أزِف الموعد الحقيقي، 17 أبريل 2014 ، لرحيل الأديب المُلقب ب "?ابو ? Gabo" عبر مجموع تراب أمريكا اللاتينية؛ فشكَّلت هذه المهلة ضربة حظ لصالح الفقيد ولصالح الكل: إذ تمكَّن البريطاني "جيرالد مارتن" من نشر كتاب عن سيرة حياة "غابرييل غارسيا ماركيز" (بلومسبوري - 2008) صدرت ترجمته الفرنسية عن دار "غراسي" في 2009.. فلقد تحسنت حالة صاحب "مئة عام من العزلة" لكنه اختفي، طيلة تلك المدة، من الحياة العامة بسبب ذاكرة مترنحة أضحت تخونه.. ازداد "غابرييل خوسي دي لاكونكورديا غارسيا ماركيز" في السادس من شهر مارس 1927 بقرية نائية من قرى ساحل الكاريبي الكولومبية تُدعى "أراكاتاكا" من أب كان يشتغل عامل برق وفي أحضان أسرة ضمت أحد عشر طفلا كان "غابرييل" أكبرهم.. ولقد تحولت قرية "أراكاتاكا" في كتابات "غارسيا ماركيز" إلى مكان أسطوري، لكن واقعي، أطلق عليه الكاتب اسم "ماكوندو"، لكن في اختلاف تام مع "يوكنباتاو كانتري" ل "ويليام فولكنر" أو "المدينة الخيالية" للكاتب "سانتا ماريا دي خوان كارلوس أونيتي".. ويشرح "جيرالد مارتن" الأهمية التي تمثلها قرية "أراكاتاكا"، بالنسبة لكاتب الناشيء، "غارسيا ماركيز" وخصوصا منزل عائلته بها الذي "كان يعج بالناس من مختلف الفئات وأيضا بالأشباح، خصوصا شبح والدته الغائبة.. ففور ولادته غادر والده "أراكاتاكا" في 1929 صحبة زوجته بعد أن قرر أن يصبح صيدليا عصاميا وتكفّل الجد والجدة بتربية الصبي "غابرييل" في المنزل الذي تحول اليوم إلى متحف.. هكذا سيكون لجده "الكولونيل ماركيز" تأثير على تكوينه الفكري وعلى روح الجرأة والمغالاة لديه.. فلقد كان "الكولونيل"، ذو الفكر الحر، يكرر على مسامع حفيده باستمرار ذكرياته عن حرب الألف يوم، تلك الحرب الأهلية التي تواجه فيها ما بين 1899 و 1902، معسكر الليبرالين الذي ينتمي اليه الجد ومعسكر المحافظين الذين انتصروا في نهاية المطاف؛ كما أن الطفل "غابرييل" استفاد كثيرا من تجربة جده في بناء أسس وعيه السياسي والاجتماعي.. فالكولونيل كان من ضمن الشخصيات الكولومبية التي انتفضت ضد مجزرة مزارع الموز حيث قُتِل المئات من العمال الفلاحيين المضربين عن العمل بيد الجيش الكولومبي بإيعاز من الولاياتالمتحدة التي كانت تهدد بغزو البلد في حالة عدم تحرّك الحكومة الكولومبية لحماية مصالح شركة الفواكه الأمريكية (United Fruit) .. ولقد تطرق "غابرييل غارسيا ماركيز"، بخياله الروائي لهذه الواقعة الدامية في كتابه "مئة عام من العزلة".. عند بلوغه سن الثامنة، غادر "غابرييل" مسقط رأسه والتحق بوالديه اللذان ألحقاه بنظام تمدرس داخلي عند اليسوعيين بمدينة "بارايكييا"، ثم، بعد ذلك، بعثاه إلى "بوغوتا" لمتابعة دراسته الثانوية.. وهناك، نشر أولى كتاباته في مجلة المؤسسة وحصل في 1946 على شهادة البكالوريا واختار دراسة الحقوق.. لكنه سرعان ما تخلى عنها ليبدأ أولى خطواته كمتعاون في ميدان الصحافة؛ فكانت صفته كصحافي بمثابة الباب الذي مكنه من ولوج الحياة العامة.. انهمك "غابرييل" في قراءة الكلاسيكيات (كافكا، جويس، فرجينيا وولف، فولكنر، همنغواي ...)؛ لكن هذه التأثيرات لم يكن لها دور إلاّ على مستوى الشكل.. أما العمق، فسيشكله اللامحسوس والاعتقاد بالخوارق والأشباح عبر القصص والحكايات العجيبة التي كانت ترويها له جدته، ليلا، عن الموتى- الأحياء والساحرات وعن مناجاة الأرواح.. وهكذا سيندمج "غارسيا ماركيز"، بطبيعة الحال، في التيار الأدبي اللإسبانوي والأمريكي اللاتيني المتجسد في "ألفارو كوييرو" و "ميغيل أنخيل أستورياس" و "أليخو كاربانتيي" والمتعلق ب "الواقعية السحرية" أو "الواقع العجائبي".. في 1955، اكتشف الصحافي الشاب الحقيقة حول فاجعة المُدمِّرة "كالداس"، إحدى قطع البحرية الكولومبية التي فقدت عشرة من بحاريها في عرض بحر الكاريبي عندما تكسرت حبال ربط السلع المُهرّبة التي كانت تُثقل جسر المركب؛ ثم ادّعى الضباط أنهم واجهوا عاصفة هوجاء.. ولقد نشر "غارسيا ماركيز" سلسلة من المقالات في الموضوع (14 مقالا) مُحرّرة ومُوقعَة باسم الشخص الوحيد الذي نجا من الغرق بعد أن قضى معه ما يناهز 120 ساعة من اللقاءات الصحفية .. وأُعيد إصدار هذه المقالات في 1970 بين دفتي كتاب تحت عنوان "يوميات غريق".. إلاّ أن ادارة يومية "إيل إسبيكتادور" (El Espectador) التي نشرت القصة وتخاطف القراء أعدادها، قررت إرسال "غارسيا ماركيز" إلى أوروبا بسبب الخوف من ثأر النظام العسكري الحاكم آنذاك في كولومبيا.. لما وصل "غارسيا ماركيز" إلى باريس، وجد فرنسا في خضم حرب التحرير الجزائرية.. وبما أنه أخذ يتردد على أوساط جبهة التحرير الوطني (FLN)، نال حظه من حملات التأديب الشرسة التي كانت تقوم بها الشرطة الفرنسية ضد المنحدرين من شمال افريقيا.. وبما أنه يساري شاب ومقرب من الشيوعيين، قام بزيارات متعددة لدول أروبا الشرقية.. لكن، رغم اختياراته السياسية، فلقد تركت لديه تلك الزيارات انطباعا كارثيا دوّنه تحت عنوان "تسعون يوما وراء الستار الحديدي" (1959).. وعندما منع الدكتاتور "روخاس پينيا" يومية "إيل إسپكتادور" وجد الصحافي "غارسيا ماركيز" نفسه بلا عمل؛ فشرع يكتب ويتعيّش في انتظار المجد والمال.. وكانت رفيقته، آنذاك، تعمل خادمة في المنازل وتجمع له ما تيسر من المتلاشيات: ورق، جرائد، زجاجات فارغة... ليبيعها.. و في سنة 1961، وجدت هذه السنوات العجاف صدى لها في كتاب "لا رسائل للكولونيل".. ثم صدرت له، عاما بعد ذلك، رواية "ساعة سيئة" ومجموعة قصص تحت عنوان "جنازة الجدة" وهي عبارة عن نوع من النصوص المتوسطة الطول شكلت رسما أوليا لما سيصبح بعد خمس سنوات "مئة عام من العزلة".. في تلك الأثناء عاد "غارسيا ماركيز" إلى أمريكا اللاتينية ليتزوج، في 1958، ب"مرسيديس بارتشا" التي أحبها منذ سن المراهقه ولن يفترقا بعد ذلك ليُنجبا ولدين: "رودريغو" و"غونزالو".. في 1961، قام "ماركيز"، كصحافي وصديق لنظام "كاسترو"، بزيارة ل "كوبا" وكان يعمل، آنذاك، لحساب الوكالة الصحافية "پرينسا لاتينا"؛ ثم حل بنيويورك في انتظار تأشيرة سفر إلى كندا حيث كلفته الوكالة بفتح مكتب لها هناك.. لكن الانتظار طال ولم يتحقق المشروع فحزم الكاتب ? الصحافي أمتعته وقصد بمعية أسرته بلد المكسيك حيث سيقضي معظم حياته.. هناك، بالمكسيك، وفي بضع سنوات، سيُدرك الأديب قمّة الشهرة العالمية بشكل نهائي.. فبعد نشرها في 1967 ب "بوينوس آيريس"، ستعرف رواية "مئة عام من العزلة" (سويْ 1968 بالفرنسية) إقبالا غير عادي.. فكل من قراؤوها في أمريكا اللاتينية، يحفظون عن ظهر قلب أول جملة تستهل مطلعها.. فهي ، كما قال الشاعر التشيلي، "پابلو نيرودا"، بالإضافة إلى كونها ملحمة عائلية، تُعتبر أكبر رواية كُتبت باللغة الإسبانية منذ رواية "دون كيشوط" [للكاتب الاسباني "سيرڤانتيس"].. ولقد بسط فيها الكاتب لغته القوية والطافحة بالحيوية في سيطرة كاملة.. وبعد مرور خمس سنوات على صدورها، استطاعت هذه الرواية أن تُنشَر في ما يُناهز 23 بلدا وأن يُباع منها أكثر من مليون نسخة باللغة الاسبانية فقط.. هكذا تعرفت كل أمريكا اللاتينية على نفسها من خلال هذه الأسطورة البطولية الغريبة التي تبسط، منذ تأسيس قرية "ماكوندو"، ستة أجيال من تاريخ عائلة "بويندي" التي يرتبط مصيرها بالوقائع الأسطورية للقارة.. ومعلوم أن "غارسيا ماركيز" ذُهِل، عن صدق، لما لاقته الرواية من نجاح.. وأعزى ذلك لسهولة قراءة الكتاب مع ما يكتنفه من تسلسل للأحداث الغرائبية.. ويبقى أن أثرها الحاسم قد ساهم في الشهرة العالمية لمؤلفين آخرين من ذوي الصدى الكبير في أمريكا اللاتينية ابتداء ب "خوان رولفو" إلى "ڤارغاس يولزا" مرورا ب "خورخي لويس بورخيص و "خوليو كورتزار" و "كارلوس فوينتيس".. في 1973، رفض "غارسيا ماركيز"، لفترة من الزمن، كتابة أية روايات جديدة مُتألما ومستاء من حلول الدكتاتورية في الشيلي بعد الانقلاب الذي قاده الجنيرال "پينوتشي" في شتنبر من نفس السنة وفضل الالتزام بما أسماه "الحرب الإعلامية"، فساهم ?على مستوى بلده ? في إنشاء مجلة مستقلة ("ألتيرناتيڤاس ? Alternativas - بدائل) فندّد بالرأسمالية والإمبريالية، كما دافع عن العالم الثالث وساند، جهارا وبدون مزاجية، نظام "فيديل كاسترو".. في 1982، بعد حصوله على جائزة "نوبل" للأدب، حضر الأديب حفل التتويج ب "ستوكهولم" مرتديا الزي التقليدي الأبيض لساحل الكاريبي بدل السموكينغ الذي يستدعيه البروتوكول المعتاد وكان الخطاب الذي ألقاه بالمناسبة عبارة عن مرافعة متحمسة لفائدة أمريكا اللاتينية التي وصف "عزلتها" في مواجهة "القمع والظلم والنهب والإهمال" بينما تتكاثر الديكتاتوريات على أرضها.. فيما بعد، لم تستطع لا "الحب في زمن الكوليرا (1985) ولا "متاهة الجنيرال" (1989) ولا حتى قصته الخيالية "مذكرات مومساتي الحزينة" (2014) إحراز النجاح الذي حالف أعماله المتقدمة.. لكن الكاتب لم يُعر كثير اهتمام لذلك، فلقد أصبح "?ابو" مرجعا ووسيطا مطلوبا، ايضا، في مفاوضات السلام مع مجموعات حرب العصابات الكولومبية؛ يُستشار في كل المواضيع.. إلاّ أن "غابرييل غارسيا ماركيز" لم ينخدع إذ صرّح قائلا: "أنا كاتب روائي.. ونحن معشر الروائيين لسنا بمفكرين ومثقفين؛ بل إننا عاطفيون وانفعاليون.. ولقد أصبحنا في بلداننا، التي نعاني فيها كلاتينيين من مصائب كبرى، ضمير المجتمع، إذا صح القول .. انظروا إلى تلك النكبات التي نثيرها.. إن هذا لا يحدث في الولاياتالمتحدة.. وأنا لا أتخيّل لقاء قد يتحدث فيه "دانتي" (Dante) عن اقتصاد السوق..".. لم يكف "غارسيا ماركيز"، خارج السياسة والميثولوجيا، عن إعداد خطاب بالغ التأثير حول الموت وحول العزلة؛ سواء في "جنازة الجدَدة" أو "خريف الأب" أو "وقائع موت معلن" وبطبيعة الحال في رواية "مئة عام من العزلة" التي تنبني على نهاية سلالة أسرية وحضارة.. "إنني، بالطبع، أفكر في الموت"، كما قال، لكنني لا أفعل إلاّ لِماما، متى ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. فلكيْ أهوِّن من الخوف من الموت، تعلمت العيش على فكرة بسيطة لا تحتاج إلى كثير من الفلسفة: فجأة، سيتوقف كل شيء ويعم السواد المُطلق وتُلغَى الذاكرة.. وذلك ما يُريحني ويُحزنني؛ لأن الأمر سيتعلق بأول تجربة لن أستطيع حكايتها"..? * عن جريدة لوموند