رائد الواقعية السحرية تقرر إعلان الحداد لمدة ثلاثة أيام بكولومبيا على وفاة الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز. وتوفي ماركيز، صاحب رواية «مائة عام من العزلة» والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، أول أمس الخميس في مكسيكو سيتي عن 87 عاماً. ورحل ماركيز في بيته في مكسيكو سيتي -كما قال مصدر مقرب من عائلته- بعد أسبوع من عودته إلى البيت من المستشفى حيث كان يعالج من نوبة التهاب رئوي. وكان ماركيز، الذي يعرف لدى الملايين بلقب «غابو»، يعيش برفقة زوجته مرسيديس بارشا في المكسيك منذ فترة بعيدة، في أجواء منعزلة لم تكن تخلو من مشاركات نادرة في بعض النشاطات الثقافية. ويعتبر الكاتب الكولومبي، الذي بدأ عمله مراسلا صحافيا، واحدا من الكتاب الأكثر احتراما وتأثيرا في جيله، وقدم مساهمة كبرى في إغناء فن السرد الروائي في العالم. وحقق اسمه كروائي على نحو ملفت للانتباه في روايته «مائة عام من العزلة» والتي نال شهرة كبيرة بعد نشرها مباشرة في عام 1967، وباعت أكثر من 50 مليون نسخة في أنحاء العالم وأعطت دفعاً لأدب أميركا اللاتينية. وفي الرواية، التي نال عنها جائزة نوبل للآداب، يمزج ماركيز الأحداث المعجزة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية في أميركا اللاتينية. وقال ماركيز إنه استلهم الرواية من ذكريات الطفولة عن القصص التي كانت ترويها جدته التي يغلب عليها التراث الشعبي والخرافات، لكنها قدمت أكثر الوجوه استقامة. وولد ماركيز في السادس من مارس عام 1927 في بلدة أراكاتاكا في مقاطعة (ماغدالينا) الكولومبية. أرسل غابرييل إلى مدرسة داخلية في بارانكويلا، واشتهر هناك كونه صبيًا خجولاً ويكتب قصائد ساخرة و يرسم رسومًا هزلية، ولقب حينها بين زملائه ب «العجوز» كونه كان شخصًا جادًا وقليل الاهتمام بالأنشطة الرياضية. وعلى رغم شغفه بالكتابة، إلا أن غارسيا ماركيز استمر في دراسة القانون عام 1948 إرضاءًا لوالده. وخلال زيارة لوالديه في مدينة سوكر الكولومبية، تعرف غارسيا ماركيز الى ميرسيدس بارشا، وكان حينها لا يزال طالبا، ثم تطور التعارف إلى وعد بينهما على الزواج، وهو في عمر 13 سنة، وحين أنهى دراسته في عام 1958 تزوجها وبعد عام واحد انجبا ابنهما الاول رودريغو، الذي أصبح فيما بعد مخرجًا سينمائيًا، وبعد ثلاث سنوات، انجبا ابنهما الثاني غونزالو، مصمم غرافيك مقيم في المكسيك. أحيا ماركيز، سحر أميركا اللاتينية وتناقضاتها المجنونة في أذهان الملايين، وأصبح رائداً للواقعية السحرية وأحد المدافعين الرئيسيين عنها، وهي تقوم على مزج عناصر خيالية في تصوير الحياة اليومية التي جعلت الاستثنائي يبدو روتينياً إلى حد ما. ويقول ماركيز إن هذا الأسلوب يجمع بين «الأسطورة والسحر وغيرها من الظواهر الخارقة للعادة». وقالت الأكاديمية الملكية السويدية عند منحه جائزة نوبل في عام 1982، إن «ماركيز يقودنا في رواياته وقصصه القصيرة إلى ذلك المكان الغريب الذي تلتقي فيه الأسطورة والواقع». ومن أعماله المشهورة الأخرى «خريف البطريرك» الصادرة عام 1975، و»قصة موت مُعلن» عام 1981، و»الحب في زمن الكوليرا» التي صدرت عام 1986، ومن كتبه الحديثة «عشت لأروي» و»ذاكرة غانياتي الحزينات». وترجمت معظم أعماله إلى لغات عدة منها العربية. *** ماركيز الروائي الذي لم يتجاوز عقدة الصحافة سحر غابرييال غارسيا ماركيز ليس في كتبه فحسب، بل أيضاً في مقالاته وعمله الصحافي وجلساته ومقابلاته الصحافية المتلفزة والمكتوبة التي توثق جميعها نظرة كاتب الى مفاصل الحياة بشكل يختلف عن المألوف. وتنعكس القيمة الأهم لأدب ماركيز في أفقه السرديّ، وفي نظرته البالغة الخصوصية إلى تراكمات الأشياء الغريبة المنسيّة، وحبكها في أسلوب واقعي سلس. يستمد ماركيز قدرته من خبرته في عالم الصحافة، ويرى أن «الصحافة أفضل مهنة في العالم». وتاريخ مسيرته صحافياً لا يقل إبهاراً عن تاريخه روائياً، بل إن تتويجه أديب رواية كان تتويجاً منقوصاً، كما تشي بذلك إشاراته الملحة إلى ماضيه الصحافي. فماركيز يأسف لأنّ الرواية هي التي قدّمته الى العالم حتى صحافياً. وهي المهنة التي عندما تحدث عن مزاولته لها، حرص على أن تكون شهاداته فيها على نفسه شهادات مشرّفة، وحرص على أن يؤرّخ أنه كان صحافياً فذاً ونموذجيّاً. اعتبر المؤتمر العالمي الرابع للغة الاسبانية المنعقد في 2007 رواية ماركيز «مائة عام من العزلة» ثاني أعظم إنجاز أدبي في تاريخ اللغة الإسبانية بعد ملحمة «دون كيخوتي» لسارفانتس. وحصل بفضلها على جائزة نوبل في الآداب وهو في عمر صغير نسبيا. وقد ترجمت إلى نحو 35 لغة وبيع منها أكثر من 50 مليون نسخة في مختلف أنحاء العالم. تخلى ماركيز «الشفاف» عن تأريخ أي من الأحداث التي شهدت قطف ثمار مشواره الإبداعي من خلال الإشادات والجوائز التي لا تحصى، واكتفى بتأريخ بدايات نجاحه الروائي عبر رواية «ساعة النحس» ومجموعته القصصية المعنونة «بعد السبت»، وهو يعي تماماً، أنه صاحب أسلوب واحد في جميع نصوصه. اعاد ماركيز تشكيل المشهد الأميركي اللاتيني، واشتمل إنتاجه الأدبي على العديد من القصص والروايات والبحوث، مثل «ليس للكولونيل من يكاتبه»، و»خريف البطريرك»، و»الحب في زمن الكوليرا»، وألف أيضا الكثير من القصص القصيرة، إضافة إلى خمسة أعمال صحافية وكتابات اخرى تتناول في غالبيتها مواضيع مثل البحر وتأثير ثقافة الكاريبي. كانت جدته ترانكيلينا أجواران كوتس التي أطلق عليها اسم الجدة مينا ووصفها ب»امرأة الخيال والشعوذة»، تملأ المنزل بقصص عن الأشباح والهواجس والطوالع والعلامات. وتأثر بها كثيراً مثلها مثل زوجها، فضلاً عن كونها شكلت مصدر الإلهام الأول والرئيس للكاتب. إضافة إلى أسلوبها القصصي، ألهمت الجدة مينا حفيدها شخصية أورسولا إغواران التي استخدمها لاحقاً وبعد قرابة ثلاثين عاماً من رواية جدته عن هذه الشخصية، في روايته «مائة عام من العزلة». عرف غابرييل في صباه بخجله. كان يكتب قصائد ساخرة ويرسم اشكالا هزلية. ولقب ب «العجوز» بين زملائه لانه كان جاداً وقليل الاهتمام بالنشاطات الرياضية. كان متيماً بفكرة الكتابة، ولكنها لم تكن من اجل القص التقليدي لحكايات شعبية، على نمط مماثل لقصص جدته، «حيث تتداخل الأحداث غير النمطية وغير العادية كما لو كانت مجرد جانب من جوانب الحياة اليومية». بدأ حلمه يكبر في أن يكون كاتباً بعد نشره قصة «الإذعان الثالث» في صحيفة «الإسبكتادور» في 13 أيلول (سبتمبر) العام 1947، والتي تعكس تأثره بنتاج فرانتس كافكا. في العام 1950، ترك المحاماة ليتفرغ للصحافة، وعاد من جديد إلى بارانكويلا ليصبح كاتب عمود ومراسلاً لصحيفة «إل هيرالدو». وصل ماركيز الى قمة النجاح وعرفه الجمهور عندما كان في الأربعين، وكان التغير في حياته جلياً بعد المراسلات بينه وبين محبيه والجوائز والمقابلات التي أجريت معه، وفي العام 1969، حصل على جائزة «كيانشانو» عن رواية «مائة عام من العزلة»، والتي اعُتبرت «أفضل كتاب أجنبي « في فرنسا. وفي العام 1970، نشرت الرواية باللغة الإنكليزية واختيرت كواحدة من أفضل اثني عشر كتاباً في الولاياتالمتحدة في ذلك العام. وبعد سنتين، حصل على جائزة «رومولو جايجوس» وجائزة «نيوستاد» الدوليتين للأدب، وفي العام 1971 نشر ماريو بارغاس يوسا كتاباً عن حياة ماركيز وأعماله. لم تقتصر مساهمات ماركيز على الكتب، اذ انتج للمسرح والسينما. عمله المسرحي الأول «خطبة لاذعة ضد رجل جالس» انتهى منه في العام 1988 الذي شهد ايضا انتاج فيلم «رجل عجوز جداً بجناحين عظيمين» عن قصته التي تحمل العنوان ذاته، من إخراج فيرناندو بيريري. وإضافة إلى شهرته الواسعة التي اكتسبها من مؤلفاته، ادى موقفه من «الإمبريالية الأميركية» إلى اعتباره «مخرباً» في يات المتحدة. ورفضت سلطات الهجرة الأميركية طيلة سنوات منحه تأشيرة دخول، لكنها رفعت الحظر عنه بعد انتخاب بيل كلينتون رئيسا. وأكد كلينتون أن «مائة عام من العزلة» هي روايته المفضلة. *** أدباء وسياسيون ينعون ماركيز نعى كتاب وقادة سياسيون اليوم الأديب العالمي الراحل غابريل غارسيا ماركيز الذي ترك أعمالاً عظيمة. وأعرب الرئيس الأميركي بارك أوباما عن أسفه إزاء وفاة الأديب الكولومبي، قائلاً إنه أحد كتّابه المفضلين. وقال أوباما في بيان: «بوفاته فقد العالم أحد أعظم كتابه وأحد المفضلين لي أثناء شبابي»، ونقل الرئيس الأميركي تعازيه لعائلة الكاتب وأقاربه. وأوضح أوباما أنه التقى ماركيز في نيسان (أبريل) 2009 في مكسيكو سيتي أثناء مأدبة عشاء أقيمت على شرفه من جانب الرئيس المكسيكي السابق فيليبي كالديرون، أهدى ماركيز خلالها أوباما نسخة موقعة من رواية «مئة عام من العزلة». وأعربت الرئيسة البرازيلية ديلما روسيف عن أسفها لوفاة ماركيز، موضحةً أنه سيظل في قلب الملايين من قرائه وذاكرتهم. ورأت في تغريدة على «تويتر» أنه «صاحب النص الرائع والشخصية الفريدة». واعتبر الرئيس الكولومبي السابق ألبارو أوريبي (2002-2010) أن ماركيز جعل ملايين سكان العالم يعشقون كولومبيا. ورأى الرئيس المكسيكي أنريكي نييتو أن ماركيز «أحد أعظم كتاب عصورنا، إذ جعل الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية تحمل طابعاً عالمياً». بينما قال الرئيس البيرواني أويانتا اومالا: «أميركا اللاتينية والعالم بأسره سيشعران بفقد هذا الحالم». وقال الرئيس الإكوادوري رافائيل كوريا:«رحل غابو. سيكون لنا مائة عام من العزلة، لكن تتبقى أعماله وحبه للوطن الكبير». وقال الرئيس التشيلي السابق سباستيان بنييرا: «ترك لنا أعمال ملهمة ستواصل إثراء خيالنا». بينما أعرب الكاتب البيرواني الحائز على جائزة «نوبل» في الآداب عام 2010 ماريو يوسا عن حزنه الشديد لوفاة ماركيز، باعثاً تعازيه لعائلته. وقال يوسا في مقابلة تلفزيونية: «توفي كاتب كبير منحت أعماله الأدب بلغتنا مكانة عظيمة»، موضحاً أن روايات ماركيز ستجعله خالداً ويواصل كسب القراء من أنحاء العالم. كما نعت المغنية الكولومبية شاكيرا مواطنها ماركيز، ووصفته بأنه كان «هدية فريدة لن تتكرر». ونشرت في صفحتها على «فايسبوك» صورة تجمعها به، وكتبت: «عزيزي غابو، قلت ذات مرة إن الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه، وسنتذكر حياتك كهدية فريدة لن تتكرر». وتوفى ماركيز أمس في المكسيك عن عمر يناهز 87 عاماً، بعدما كان يتلقى العلاج في مستشفى في مكسيكو سيتي، قضى فيها 8 أيام لإصابته بالتهاب رئوي وفي المسالك البولية. وانتشر نبأ وفاة ماركيز كالنار في الهشيم في وسائل الإعلام في أميركا اللاتينية، بعدما أكده الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس على حسابه على شبكة «تويتر» الاجتماعية. *** الوصية الأخيرة لغابرييل غارسيا ماركيز كتب الروائي غابرييل غارسيا ماركيز رسالة وداع الى القراء ووضع فيها وصيتة إلى الناس حين ادرك أن الموت قريب بعدما علم أنه مصاب بالسرطان، وهنا نص الرسالة: «لو شاء الله أن يهبني شيئا من حياة أخرى، فإنني سأستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتما سأفكر في كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سأسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الجميع نيام. لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، من دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفل سأمنحه الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلم التحليق وحده. وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة، بل بفعل النسيان. تعلمت منكم الكثير أيها البشر. تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلقه. تعلمت أن المولود الجديد حين يشد على أصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة، لكن قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضع في حقيبتي أكون أودع الحياة. قل دائماً ما تشعر به، وافعل ما تفكر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التي أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعي ولتضرعت إلى الله ليجعلني حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التي أراك فيها، لقلت «أحبك» ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوما يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبداً. لأن الغد ليس مضموناً، سواء لشاب أو مسن، ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم، فلا تنتظر أكثر. تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على من تحب، أهمس في أذنهم أنك في حاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات، مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفها، لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الرب القوة والحكمة للتعبير عنها وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك. قل ما تشعر به وافعل ما تفكر فيه. الحياة تمنحنا الفرصة دائماً أن نفعل الافضل. يجب أن تندم على الوقت الذي لم تجد فيه فرصة لابتسامة».