بالتزامن مع انفتاح الدولة المغربية، واستفاقة المجتمع المدني، ظهرت العديد من الدراسات التي تجعل من المجال السياسي موضوعا لها. و مع ذلك، ربّما يكون علينا توخّي شيء من الحذر حتّى لا ننتظر منها ما هي عاجزة عن تحقيقه. لا ندعي هنا تقييما لما كُتب حول المشهد السياسي المغربي، ولكننا نحاول أن نبسط أمام القارئ مجموعة من الصعوبات المرتبطة بتحليل الواقع السياسي المغربي. الصعوبة الأولى: غياب التراكم المعرفي لا تزال «المعرفة السياسية» طفلا رضيعا يحبو على أربعته، رافعا رأسه بين حين و آخر عساه يتمكن من الوقوف. فهي لم تحقق إلى الآن تراكما حقيقيا يسمح بالوقوف على حقيقة الواقع السياسي المغربي. أما السبب فواضح: قديما لم تكن الدولة المغربية بحاجة إلى «علم» يفضح استبدادها، ويعري أسسها. ومع بداية الاستقلال وإلى غاية التسعينيات من القرن الماضي، حافظت الدولة لأسباب تاريخية و سياسية، لا مجال لاستحضار تفاصيلها، على قدر غير قليل من استبدادها، و لم تبزغ تباشير ظهور علم سياسة بالمغرب إلا مؤخرا، و تحديدا مع إمكانية الحديث «العمومي» عن الديمقراطية و الانتقال الديمقراطي و التناوب السياسي...الخ. ليس غريبا إذن أن ظلّ التصور السياسي مختبئا ما يقارب أربعة عقود من استقلال المغرب داخل مجالات معرفية أخرى تهم التاريخ والقانون والفلسفة والدين والأدب، ليتخلص اليوم شيئا فشيئا من عباءتها عساه يحقق ذاته واستقلاليته. وما على القارئ إلا أن يعود لمختلف إصدارات الكتب والأطروحات الجامعية التي عرفها المغرب منذ استقلاله ليتأكد مما سبق قوله. الصعوبة الثانية: وضع سياسي في إطار التشكّل يبدو انطلاقا من التحولات السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال، أن الوضع السياسي في تغير مستمر، وأن الفاعلين السياسيين من سلطة ملكية، وأحزاب ونقابات وجمعيات ومجموعات ضغط، في تشكل دائم، كما أن آفاق الفعل السياسي، و هذا ما يزيد الأمور تعقيدا، لم تعد رهينة حصرا بالإرادة السياسية «الداخلية» لوحدها، وإنما تخضع في جوانب كثيرة إلى متطلبات المحيط الإقليمي والدولي. والنتيجة أن أكبر صعوبة تعترض «المعرفة السياسية» هي بالضبط هذه الحالة الانتقالية التي يعيشها المغرب، هذا التشكل المتغير دوما لمختلف فاعليه. و يبدو أننا في حاجة إلى علم سياسة من نوع خاص يمكنه القبض على حقيقة واقع سياسي كل شيء فيه ينتقل بدءا من الدولة إلى المواطن، مرورا بالأحزاب و النقابات والجمعيات و المؤسسات... الصعوبة الثالثة: مفارقات الزمان السياسي و الزمان الاجتماعي إذا كان الزمان السياسي والاجتماعي، متناغمين إلى هذا الحد أو ذاك في أوربا منذ تأسيسها لدولها «الوطنية»، فهل بإمكاننا أن نفسّر ما نشهده الآن من تضخم في الخطاب السياسي، المسكون بشيء غير قليل من الهذيان، بالمفارقة الحاصلة بين زماننا السياسي والاجتماعي؟ فها نحن نريد، وفي دفعة واحدة، دولة وطنية (كما تصوّرها ماكيافلي و بودان...) وديمقراطية مدنية (كما حلم بها لوك وآخرين ..) بل و حتّى اشتراكية (كما حلم بها ماركس و فوضويو القرن التاسع عشر...). و بالتزامن مع كل هذا نريد مواطنا حديثا يتحمل واجباته وينعم ب «حقوق الإنسان»... وبالتالي، ألا نكون قد أصبحنا، عن وعي أو بدونه، ضحايا نزعة «إرادوية» Volontariste ترفع الفعل السياسي إلى مركز الصدارة متوهمّة إياه، مفتاحا سحريا لكل المشاكل! والحال هذه، ألا يحق لنا أن نطرح التساؤل التالي: إلى أي حد، تبعا لزماننا السياسي القصير جدا، يمكن تحليل المشهد السياسي المغربي انطلاقا من مفاهيم «حديثة» اعتدنا عليها مثل: الدولة والحزب، والصوت الانتخابي، والمجتمع المدني، والمواطن...هل يكون للمفاهيم المذكورة محتوى اجتماعيا فعليا، أم هي نفسها مجرد طموح؟ وألا يعدو أن يكون الأمر في بعض الحالات استعمالا لأدوات حديثة من أجل تثبيت التقليد؟ الصعوبة الرابعة: الدولة و الحكومة و المعارضة، صعوبات التأسيس إذا كانت الدولة روح المجتمع، فإنّ الحكومة، (ولا أقصد بها مفهومها التقني الدستوري الضيق)، هي بالضرورة نصاب سياسي حزبي، وهي يد المجتمع والدولة على السواء. نجاحها أو فشلها تعبير عن مدى قدرات المغرب العملية والذهنية في تجاوز عوائق مساره. و هنا السؤال البديهي و العميق في آن واحد: هل يملك المغرب فعلا حكومة؟ ألا تعكس العلاقة المضطربة و المشوشة بين الحكومة والدولة شيئا من خصوصية النظام المغربي؟ وألا تعكس لعبة شد الحبل، المشوبة بشيء غير قليل من التواطؤ مع مراكز سلطة «خفية»، بقايا بنية تقليدية تحتضر، ولكنها ترفض أن تموت، وبالتالي، ألا يسري على هذه «الحكومة»، وهي تسعى لأن تتأسس حقّا و تحكم فعلا، ما سبق قوله عن «الدولة» نفسها. الإقرار بأن «الحكومة»، هي بالضرورة نصاب سياسي حزبي، يُضمر أن لها ظلا «معارضا» يعبّر عن دينامية سياسية مفتوحة نحو المستقبل، كما يعبّر عن أن «السلطة» مكان فارغ يحكمه التداول. غير أن السؤال الجوهري، مرة أخرى هو: من يضمن تداول السلطة بين الحكومة والمعارضة، بين الأغلبية والأقلية, وبعبارة واضحة: من يضمن الديمقراطية في المغرب؟ إذا كان تأسيس الديمقراطية، والتاريخ شاهد على ذلك، قد تطلب صيرورة مجتمعية واقتصادية ومؤسساتية وفكرية استغرقت ما يفوق الثلاثة قرون، فكيف لنا أن نتصور أمرها في ظل مجتمع جنيني في حداثته ولا زالت ديمقراطيته، في جزء كبير منها، رهينة النوايا؟ الصعوبة الخامسة: الحياة السياسة وظلّها تبدو الحياة السياسية المغربية، وكأنها موزعة بين حياتين: حياة ظاهرة نقرأ عنها في الصحف والكتب ونسمع عنها ونشاهدها في وسائل الإعلام، وحياة باطنة لا يعلم سرها إلا الله وأصحابها. ألا نكون، والحال هذه، في حاجة إلى «عرفان» -حتّى لا تقول سحر- سياسي يتجاوز «وضعانية» العلوم السياسية! يفترض هذا العلم آليات و ميكانزمات «وضعية» تسيّر الحياة السياسية و تتحكم فيها، ويكون بإمكانه تحليلها ورصد تفاصيلها وجزئياتها. قد لا نبالغ إن قلنا إنّ حياتنا السياسية قي كثير من مظاهرها، و حتى إشعار آخر، حياتان: حياة سياسية ظاهرة، نرى مشاهدها على شاشات التلفزة، و نسمع عن منجزاتها من أفواه الوزراء، و ما تطمح إليه من أفواه البرلمانيين وزعماء الأحزاب السياسية... و حياة سياسية باطنة حقيقية، تتحكم فيها الكواليس، وهي منبع القرار السياسي، و لا يعلم سرها إلا القيّمون عليها. ألا نكون، والأمر على ما هو عليه، في حاجة إلى علم سياسة «باطني» هو الوحيد القادر على تفكيك أسرار وضع سياسي قد تعجز العلوم السياسية بوضعانيتها على سبر أغواره؟ الصعوبة السادسة: مفارقة المفاهيم للوقائع لكل علم مفاهيمه التي يشتغل بها. و للمعرفة السياسية بدورها أدواتها المفاهيمية التي تشتغل بها. وهنا أتساءل: هل يمكن للباحث أن يستعين بالمفاهيم «الحديثة» في تحليله للوقائع السياسية المغربية؟ ألا يرتكب هذا الباحث خطأ معرفيا قاتلا باستعماله لمفاهيم يبدو أنّ علاقتها بالواقع السياسي غير مؤكّدة. و ألا يصبح استعمالنا لهذه المفاهيم ذاتها، تعبيرا منا عن طموح و رغبة في أن تتأسس، أكثر مما هي أدوات لتفسير واقع سياسي؟ فالدولة تحمل معها ماضيها السلطاني آملة في التخلص من ترسباته، والمواطن يحس بانتمائه الجماعي، القبلي و الإثني، و بعلاقة «الإرعاء» الساحقة التي تجمعه مع الحاكمين أكثر ما يحس بذاته و فردانيته و استقلاليته، و انتخاباتنا المحسوبة على رؤوس الأصابع تتماوج بين الولاء السلطوي و القبلي، و الاقتناع الفردي الحر... إذا كان التاريخ الانتخابي في التجربة الأوروبية، يبين كيف أنّ «التصويت» عمل فردي تتحقق من خلاله المواطنة، فقد يصبح، لاعتبارات عدّة، حينما يتحول إلى ولاء للعشيرة والقبيلة و العائلة و الدين و اللغة والزعيم... أفضل وسيلة لإقبار الديموقراطية، و تجدير واقع التقليد. وماذا لو حدث في المغرب أن أصبحت عوامل اللغة والدين و القبيلة (الأمازيغية- الحركات الإسلامية-.الأثنيات...) حاسمة في جني أصوات الناخبين؟ أترك للقارئ تصور ما قد يقع... الصعوبة السابعة: منزلق المناهج الكمية و القانونية هل يحق لنا أن نستعمل مناهج استقرائية وكمية و إحصائية نحلل بها واقعنا السياسي، و هل يمكن لنا أن نستخلص نتائج ذات مصداقية انطلاقا من عدد من المعطيات الظاهرة التي يحفل بها مشهدنا السياسي؟ لنتصور باحثا أجنبيا جاء إلى المغرب ليحلل واقعه السياسي. و حصل من الجهات المختصة على أدق تفاصيل النتائج الانتخابية التي عرفها المغرب منذ الاستقلال . بدأ يتصفحها و يقارن معطياتها... فلاحظ أن نسبة المشاركة تناهز % 80 ، و أنّ المشاركة النسائية في الانتخابات تفوق مشاركة الرجال، وأن نسبة المشاركة في بعض البوادي المغربية تفوق نسبة مشاركة عدد من المدن. فهل يحق لهذا الباحث الذي لا يعرف عن المغرب شيئا، أن يستخلص من هذه المعطيات الكمية أن نساء المغرب وبواديه أكثر تسيّسا من رجاله وحواضره؟ و لنتصور باحثا آخرا يعود للنصوص القانونية، الدستورية منها و المدنية، ليقول لنا إنّ المغرب دولة الحق و القانون و التعددية بدليل الدستور، و بلد حقوق الإنسان و حقوق الطفل بدليل ما وقّعه من اتفاقات و معاهدات دولية، و بلد المواطنة و حقوق المرأة بدليل ما سنته مؤسساته من قوانين تحفظ للمواطن ، كيفما كان ، كرامته و إنسانيته. ولكن من حقنا أن نسأل هذا الباحث: متى كانت القاعدة القانونية مطابقة للواقعة الاجتماعية والسياسية، وهل بجرة قلم يمكن أن نمحو الهوة و نذيب المفارقة القائمة بين ما يقوله القانون و ما ينطق به الواقع؟