انضبط الشيء: أي أصبح محكما متقنا.. ...ومن معاني الانضباط أنه يشمل « ضبط النفس وانضباطها بحبسها عن الشر وإلزامها بالخير مع الصبر عليها والحزم معها . والانضباط هو تنفيذ المطلوب بتطابق مع مضمون التكليف والالتزام الشرعي والوضعي . ففي الجانب الشرعي لا تصح العقيدة ولا العبادات ولا المعاملات إن انزلت خارج جوهر الواجب.. وفي هذا السياق نسوق مثالا بحديث شريف قال فيه النبي (ص) « صلوا كما رأيتموني أصلي ..خذوا عني مناسككم «.. وقال تعالى « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ..» وقد قال الخالق سبحانه وتعالى بصيغة القسم في سورة الشمس متحدثا عن مكانة النفس وما ألهمها من فجور وتقوى ومسؤوليتها في الاختيار بينهما فقال :» والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» . إنّ الإسلام جاء ليعقلن ويُنظّم حياة الناس فكرا وسلوكا وممارسات وأخلاقا بدءا بالفرد ومرورا من الاسرة الى الحي والقرية والمدينة، وصولا الى مجتمع الدولة والناس كافة في علاقاتهم ببعضهم. جاء ليتبنى ويحسن ويتمم إبداعات واجتهادات الفكر البشري عبر التاريخ في جميع المجالات اجتماعيا واقتصاديا ومعرفيا و.. وسياسيا على مستوى الحكم المحلي أو الحكم بمفهومه العام ...وجعل للعقل البشري القدرة على الاستنتاج و الاستنباط من محيطه الطبيعي والكوني بالتأمل والملاحظة، وأحيانا التجريب بأن كل شيء يخضع لقوانين وضوابط وآليات دقيقة انتظم بها الليل والنهار والزمن والافلاك والعوالم التي ندركها بالرؤية أو ندركها بالعلوم الحقة .. لهذا تجدد المجتمعات والامم والدول قوانينها وأعرافها لتتلاءم مع حاجياتها وتطورها حتى تضمن لنفسها انضباطا وتوازنا وتكاملا وسيرا يحقق التراكم المبتغى على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وانطلاقا من التفاضل بين آليات التشريع الملزمة بقوة الدين أو الدولة توضع آليات مماثلة تضبط النظام الداخلي للأسرة باختلاف ثقافاتها وانتماءاتها القبلية أو الفكرية أو المذهبية أو الدينية ...فنجد أن ما يعتبر ضابطا في أسر شمال المغرب يتقاطع أو يتكامل أو يختلف كلا أو بعضا مع الضابط بأسر الجنوب أو أسر تركيا أو أفغانستان ، مع العلم أنهم مسلمون . كما أن التجمعات السكانية كانت قبيلة أو حزبا تضع لنفسها قوانين وأنظمة يتوافقون عليها في مجلس القبيلة أو هيئات الاحزاب فيسنون حدودا ومسارات آليات لعمل كل فرد بالقبيلة أو الحزب أو المنظمة لتحقيق الحد المعقول من الانسجام المحقق للتكامل والتعاون مع وضع الخطوط الحمراء التي لا يجب المساس بها، سواء في الشق الديني أو الاجتماعي أو الفكري ...ومن هنا وباختلاف جوهر الاخلاق ومضامينها لدى الافراد والجماعات، تعتبر تلك الضوابط التزامات فردية وعامة وعهودا ومواثيق ينبني عليها الحكم بالانتماء للمجموعة من عدمه ، لهذا ذهب البعض الى تكفير من لا يحترم دين الجماعة الواحدة أيا كان الدين ..كما ذهب البعض الآخر الى الحكم على المخالف لنظام الجماعة بأنه خارج عنها بفعله ذاك .. ولنا في التاريخ البشري والاسلامي أمثلة لاتعد ولا تحصى... ... يقول تعالى: «وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً». ... وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد». إن سلوك الإنسان يرتبط بفكره وعقيدته ومذهبه وبيئته . وهو مرآة لما يؤمن به الشخص ويضبط توجهاته وممارساته وفي مثل هذا قال سقراط لاحدهم حسن الهيئة والهندام « تكلم حتى أراك..» وقال ابو حنيفة «.. الآن يمد أبو حنيفة رجليه ..»-بعد أن جمعهما احتراما لرجل وقور- إن الانضباط هو السمة الأولى التي تقوم عليها حياة الانسان العملية، فبدونه لا يمكن للمرء أن يحقق أي تقدم أو نجاح في مسيرته لا يستقر على حال ولا يكون محل ثقة، ويصبح نتيجة لذلك في حكم فاقد الأهلية والهوية، تتحكم فيه أهواؤه ونزواته ومزاجه المتقلب بتقلب الاحوال والظروف. فلا هو يندرج ضمن من يؤمن بالقيم والمثل الانسانية ولا من يؤمن بالدين ولا من يؤمن بهما معا . فهو بناء على ذلك يبعد نفسه عن أي التزام أو تعهد ويضع نفسه خارج عن كل نظام أو ضوابط. ولقد وصف رب العزة هؤلاء بقوله « قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا..الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».. « الكهف ونختصر قولة للراحل الدكتور ابراهيم الفقي التي جاء فيها « ... من السهل على الشخص أن يقوم بإضاعة الوقت في الاشياء غير المجدية وربما يكون من السهل عليه أن يداوم على عادات سيئة وسلبية التي قد تعطيه متعة لمدى قصير وهي في نفس الوقت تعطيه الألم والمعاناة على المدى المتوسط والطويل ...» ونستأنس هنا بما كتبه الامام المجدد والمتنور محمد عبده في الموضوع وهو يتحدث عن الحقل الدعوي فقال «..فمن صور الانضباط التنظيمي أن يتقبل كل فرد داخل فريق العمل الدعوي موضع الجندية بنفس الروح والهمة العالية التي يستقبل بها وضع المسؤولية والقيادة، وألا يتبرم أو يخرج على الصف أو يضيق صدره أو يتغير وجهه، وألا يقل عطاؤه وإتقانه للعمل إذا تغيرت مهمته وتحوَّل من موضع المسؤولية إلى الجندية، فإن ذلك من صميم العمل التنظيمي، وغضبه أو تذمره أو خروجه على الصف يكشف خللاً واضحًا في نيته وصدق توجهه في العمل الدعوي. ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام باللوائح والقوانين المنظمة للعمل الدعوي التي وضعتها الجماعة لتحقيق ذلك، وألا يطلب أي فرد فيها استثناءً لنفسه يراه واجب التنفيذ لعطائه المتميز في إنجاح الأنشطة التي كُلف بها، أو لإمكاناته العالية في الإدارة والإبداع، أو لثقته الزائدة في نفسه التي تجعله يرى أن مصلحة العمل تستوجب ذلك وغيره. ومن صور الانضباط التنظيمي الالتزام بعرض رأي الجماعة في الموضوعات التي تُطرَح على الساحة، خاصة على المنابر الإعلامية أو التصريحات الصحفية، ممن لهم صفة قيادية داخل الصف، أو ممن يعتبرهم الإعلاميون قياديين وإن لم يكونوا كذلك؛ حتى لا يُحدث بلبلة في الصف، أو يختلط الأمر على المتلقي، وتظهر الجماعة أمام الناس وكأنهم متناحرون مختلفون. ومن صور الانضباط التنظيمي ألا تُحل الخلافات ومشاكل العمل الدعوي على الملأ وفي جو من التشاحن أو التلاسن، بل يجب أن تُحل الخلافات وفق الأطر العامة للعمل ومن خلال القنوات الشرعية لذلك، لا اعتلاء المنابر الإعلامية والصحفية وعرض وجهات النظر الشخصية وازدراء وجهة النظر الأخرى، بل يجب النزول والاحتكام إلى نظم الجماعة ولوائحها والرضا بما تحكم به اللجنة الموكول إليها البت في هذا الخلاف....ومن صور فقه الانضباط التنظيمي أن يعلم الأخ أن هناك دوائر مختلفة للشورى وليس من الضروري أن يتم تداول كل الأمور في كل المستويات الشورية، حتى تصل لأقل وحدة تنظيمية، بل إن هناك قضايا تتم مدارستها وتقليبها على كل الأوجه والاحتمالات وتمحيص عواقبها ونتائجها، الإيجابية منها والسلبية في مستوى أعلى، ثم تنزل إلى المستويات الأدنى للتنفيذ، فيجب هنالك السمع والطاعة وعدم إضاعة الوقت والجهد في مدارستها مرة أخرى، مع كفالة الحق لأي فرد أن يبدي ملاحظاته وآراءه حولها، ويتقدم بذلك رسميًّا إن أراد، فإن جاء الجواب بالسلب أو الإيجاب طويت الصفحة وانخرط الجميع في التنفيذ الموافقون والمعارضون...» لهذا وجب شرعا ووضعا الانضباط عند الحديث عن البناء والالتزام .. اذ لأشيء يستقيم ويكمل بدونهما .. فالصفة الدالة على أي إنسان كالمسلم أو النصراني مثلا أو المهندس والطبيب أو الفقيه والعالم لا تكون حقيقية وصادقة إلا إذا تجسدت مكونات ومقومات الصفة في الفكر والسلوك والعلاقات العامة وخلفيات ونتائج الاعمال، وتنعدم ولو كان الشخص مثلا طبيبا حقا إلا أنه لا يشفى على يديه الناس بل يزداد مرضهم . إن الإسلام يريد للفرد أن ينجح في حياته باستقامة أموره وتزكية نفسه وصقلها مع الأخذ بالأسباب الموصلة للنجاح والفوز في الدنيا بتدبير الخاص والعام والمشترك مع الغير ، وخاصة ما يعرف بسياسة أمور الناس .فتنظيم الشؤون العامة وحسن تدبيرها وإدارتها يكون بالاستفادة من كل القدرات التي منحها الله للإنسان بتوظيفها إيجابا بالارتكاز على الإيمان الصادق والتطبيق الحسن والانضباط الامثل .. فالالتزام بالوفاء بالعهود ضروري تحقيقها مع الناس كافة وحتى مع خصومك وأعدائك . وفي هذا قال أمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله عنه في كتابه لمالك الأشتر، بقوله: «وإنْ عَقَدْتَ بينَكَ وبينَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أوأ َلبستَهُ منكَ ذِمةً فحُط عَهدَكَ بالوفاء وارعَ ذمتك بالأمانة» وقال «وَأَشْعِرْ قلبَكَ الرحْمَةَ لِلرعِيةِ والمَحَبةَ لهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ، ولَا تكُونَن عليهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغتَنِمُ أَكلَهُمْ، فَإِنهُم صِنْفَانِ: إما أخٌ لكَ في الدين، وإما نَظيرٌ لكَ في الخَلقِ». ونختم هذه الإطلالة على بعض دلالات الالتزام والانضباط بالتأمل العميق في قوله تعالى « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم « سورة الرعد وقال تعالى «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا» الاحزاب.