قال تعالى على لسان النبي شعيب حيث قال لقومه «يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب».... وقال تعالى: «فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» وقال تعالى «إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عمل المفسدين « .....فالإصلاح كما يقولُ أهل اللغة نقيضُ الإفساد، ويقابله في القرآن والاحاديث النبوية، الفساد ...والإصلاح يتطلب حمل فكرة أو منهج ورؤية صالحين وقدرة على فهم الفساد وتمييزه، موضوعا وأسبابا ومآلات. كما يتطلب عزيمة لتحويل المشروع الاصلاحي الى بديل بالواقع في أفق التغيير الذي يحقق المصلحة العامة...والاصلاح لا يتم على الوجه الأفضل إذا كانت نية الذي يدعيه فاسدة أو كان هو نفسه مفسدا يتدثر بزي الصلحاء والمصلحين . لهذا وجب عقلا وشرعا إصلاح النفس وتقويمها وتحصينها من الغرور والانحراف والانتهازية والأنانية حتى يكون العمل عقلا يحقق مصلحة الناس ، وشرعا يحقق اضافة الى مصلحة الناس ابتغاء مرضاة الله . وبهذا يمكن القول إن الإصلاح هو كل تغيير نتحول فيه نحو الأحسن سواء تعلق الامر بالأفراد أو الجماعات أو الأمم. ومن المسلم به أن البشرية عبر تاريخها الطويل كانت تعمل وتسعى - حسب خبراتها وفهمها - من أجل إصلاح وتغيير ظروف العيش والعمل والحياة بتطوير الافكار والمعارف بالفهم والتأصيل .ففي كل مرحلة وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها اشتغل ويشغل وسيشتغل الناس جميعا، كل حسب إدراكه ومستواه ودرجات تجربته وأفكاره من أجل إصلاح ما يرون أنه فاسد ..أو أنه صالح يحتاج الى الأصلح فيعتمد في ذلك على سياسات وفلسفات ومعتقدات وعلوم وخبرات، وقد تكون متناقضة في مرجعياتها أو متنافسة أو متكاملة ، لكن عموما توجد قواسم أخلاقية وفكرية حول الاصلاح ومتطلباته وطبيعته . فالقديم اليوم هو جديد أمس والمستجد اليوم قد يصبح متجاوزا في الغد القريب أو البعيد وذلك من حكم الله في الخلق وفي سنن التدافع والتكامل والتواصل بين الحضارات والتجارب الانسانية، وعينا بذلك أو لم نع. وفي طريقة الاصلاح والتغيير هناك من يعتقد بأنه لا يتحقق إلا بإصلاح القيادات التي تحكم الدول والمؤسسات والمنظمات ، فتختزل العملية في المنطق الانقلابي الذي يتطلب إزالة المسؤولين من مسؤولياتهم، وتعويضهم بوجوه أخرى فقط دون فهم لحالة الفساد وطبيعة الاصلاح وطبيعة البدائل، مما يؤدي الى التناوب على الفساد والافساد ليس إلا. وهناك من يتبنى للاصلاح من أجل التغيير ،التوجه للقواعد بإصلاحهم وإقناعهم وكذا إشراكهم في العملية برمتها. ونجد في هذا الصنف من يقوم بذلك إيمانا واقتناعا وصدقا، ومن يقوم به في استغلال للناس الذين طالهم ضرر الفساد لتجنيدهم من طرف نخب تدعي الصلاح حتى يستتب لهم الأمر فينكشف ما أخفوه عن الناس. بل قد يتهمونهم إن خالفوهم الرأي بأنهم ضد الاصلاح ومتآمرون وخونة ولم لا حتى مارقون ومبتدعة، وأحيانا يتهمون بالكفر والخروج على الحاكم . وما يحير العامة أن لكل فريق من هؤلاء حججهم التي يؤسسون عليها أحكامهم وسياساتهم وقراراتهم .فمرة يعتمدون من القرآن أو السنة ما يدعم رأيهم في الاصلاح، ومرة يستندون إلى نصوص تفرض الطاعة والخضوع والانصياع للحكام المفسدين. ويقوم البعض عمدا بتقسيم تعسفي سياسوي للمطالبين بالإصلاح الى مسلمين من جهة، والى علمانيين واشتراكيين وليبراليين بإيهام المتلقي بأن الصنف الثاني كلهم غير مسلمين وهذا منتهى فساد الرأي والعقل والبصيرة وجهل بسنن الله في خلقه للإنسان الذي كرمه بالعقل وما يحمله من دلالات نفسية وفكرية ومعرفية وتدبيرية و.....فالإصلاح إن تحققت ووضحت أهدافه وطرق إنجازه بخدمة الناس ومصالحهم وظروف عيشهم وتنمية قدراتهم، ما لم يخالطه حرام أو ما يناقض الشرع فهو عين المطلوب أيا كان مصدره وعقيدة منشئه . وإن كان هناك إفساد وفساد من أي كان، فلا ينفع معه إيمان ولا دين ليصبح صلاحا لمجرد إسلام صاحبه فالفساد فساد أيا كان المعتقد. إن الشريعة تتضمن ضوابط وآليات الصلاح والاصلاح لكن تجاربنا ومستوى الادراك عندنا ودرجات التشبع والاقتناع به، إضافة الى متطلبات الواقع المتجدد من أجل التكامل بين العقل والنقل إيجابا، رهين بفهمنا العميق لأهداف الاصلاح ومنظوماته آنيا ومرحليا وعلى المدى المتوسط والبعيد لتجنب السقوط في مطبات ادعاء الايمان دون الوعي به في اعتقاد أن ذلك هو المطلوب وذلك هو الهدف. إن الإصلاح والتغيير يتطلب المعرفة بالتعليم والتعلم والتربية والممارسة ،وخلق تراكم له في واقع الناس يجعلهم مقتنعين به وبمن يدعو له ويعلمه الناس لأن ادعاء الاصلاح ومحاربة الفساد من قبل المسؤولين، وتقديم الوعود بذلك للعامة وإفراز نقيضه بعد تحمل المسؤولية، قصدا أو جهلا، لاشك أنه لا يخدم لا الاجتهاد البشري الساعي الى التطور وبناء المجتمع العادل والمنصف، ولا شرع الله الذي أساسه العدل على كل المستويات ذات الصلة بالحياة اليومية للناس، سياسة واقتصادا وتعليما و.... ولقد أوضح الامام المجدد محمد عبده أن الاصلاح لا يمكن أن يتم مادامت شعوبنا جاهلة وأمية، ويستشري فيها التخلف ومتزمتة ومتعصبة ورافضة لكل ما هو مخالف لرأيها ولوكان هو الاصلح، وتهتم بالقشور والشكليات وإدمان المهاترات وإصدار التهم والاحكام الجاهزة لمواجهة كل ما هو متنور ومتجدد ولو كان من صميم العقيدة ومن روح الصلاح والاصلاح فقال: » لابد من قرون تبث فيها العلوم، وتهذب العقول، وتذلل الشهوات الخصوصية، وتوسع الأفكار الكلية، حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي العام، وبذلك نصل إلى مستوى ديموقراطي سليم كمستوى أمريكا، وعند ذلك نستحق ما تستحق أمريكا« فالضرورة الشرعية تثبت بالقرآن والاحاديث النبوية الشريفة من مثل قوله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ... والضرورة العقلية والانسانية منبعها الفطرة المهذبة التي فطر بها الله الناس ومنحهم العقل لإدراك وتمييز الصالح من الطالح والحميد من الخبيث، وما ينفع مما لا ينفع وما يؤدي الى البناء وما يؤدي الى نقيضه. فباب الصلاح والصلاح يكون بالتوبة والعودة الى النفس بالاعتراف والتعرف على الاخطاء وتصحيح ما يتطلب التصحيح وتغيير ما لا يتم الاصلاح إلا به، وممارسة محاسبة النفس والنقد الذاتي المولد للعمق المعرفي بالوضع الخاص والعام . وعند الحديث عن الإصلاح الديني فلا يجب أن يؤول أو يفهم على أنه يعني الاصلاح في مجال العقيدة الدينية ذاتها، ولكنه يعني تصحيحا للفهم وللمفاهيم الخاطئة في مجالات التفكير الديني والتي اختلطت عند البعض بما جاء الدين أصلا لتصحيحه من أمثال الخرافات والبدع الفاسدة عقلا وشرعا ، والتواكل والجمود المخالف للسنن الإلهية وكل ما يؤدي الى التخلف والتحجر والجمود والانعزالية، وأيضا تطهير الدين والممارسات الدينية من بعض البدع والخرافات والطقوس الموغلة في الجاهلية. إن الانبياء والمرسلين جاؤوا من أجل الاصلاح والتغيير بالاسترشاد بالوحي ونور العقل والعلم، جامعين بين ما هو صالح مما سبقهم من الامم وماهو أفضل لصلاح الناس في أزمنتهم ..قال تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"، كما أنهم اعتمدوا المقاربة التواصلية البناءة من أجل التربية على إصلاح النفس كما المجتمع. ولم يكونوا قط عنيفين ولا متسلطين ولا مستبدين.. قال تعالى "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" إننا ونحن في زمننا هذا نعيش وسط أمواج الفكر المتزمت والمتعصب والتكفيري، مطالبون ومدعوون إلى خوض حركة تصحيح شاملة وعلمية وممنهجة لتنوير الناس بثقافة السلم والتسامح، ونبذ كل أشكال العنف الكلامي والمادي و....، والانفتاح على كل ما هو طيب ومبارك ومفيد للناس كافة. فالقهر والقمع والترهيب ليس أسلوباً معتمدا في الايمان الديني ، ولا يصح إيمان المكره ولا يدخل الجنة كما لا يخرج من النار . .... ونختم بقوله تعالى الذي يجمل بعض حقائق واقع صنف من الناس : "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ" فالله نسأل أن ييسر لنا سبل الاصلاح ويوفقنا في مساعينا ويهدينا جميعا إلى ما فيه خير الناس، دنيا وآخرة ...