هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الحوار في ضوء سنة التدافع
نشر في أزيلال أون لاين يوم 07 - 08 - 2010


مقدمة :
الاختلاف بين البشر حقيقة فطرية ، وقضاء إلهي أزلي مرتبط بالابتلاء والتكليف الذي تقوم عليه خلافة الإنسان في الأرض قال تعالى : \"وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ \" [المائدة:48] ، \"ولا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ \" [النحل:92-93] ؛ فالاختلاف والتعددية بين البشر قضية واقعية ، وآلية تعامل الإنسان مع هذه القضية هي الحوار الذي يتم من خلاله توظيف الاختلاف وترشيده .
المحورالاول : منهج الحوار في القرآن :
أولا : قواعد الحوار :
تنطلق رحلة المنهج الحواري في القرآن من بداياته الأولى ، فيما يلي :
1- امتلاك الحرية الفكرية :
لابد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافه حرية الحركة الفكرية التي يرافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة.
لذلك أمر الله رسوله أن يحقق ذلك ويوفره لمحاوريه :] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ \"[الكهف:110] ، \"قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ \" [الأعراف:188] .
2- مناقشة منهج التفكير :
فإذا امتلك أطراف الحوار الحرية الكاملة فأول ما يُناقش فيه هو المنهج الفكري في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها ؛ وهي أن القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية ، فلكل مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتد إليها : \"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَ نَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ\" [البقرة:170] .
3- الابتعاد عن الأجواء الانفعالية :
من عوامل نجاح الحوار أن يتم في الأجواء الهادئة ؛ ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير ، قال تعالى :\"قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ \" [سبأ:46] ، فاعتبر القرآن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه.
4- الانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف :
فإذا تم الالتزام بهذه الأسس فإنَّ الحوار ينطلق معتمداً على قواعد العقل والمنطق والعلم والحجة والبرهان ، والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: \"هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ\" [البقرة:111 ، الأنبياء:24 ، النمل:64 ، القصص:75] ، وقال تعالى مرشداً إلى اعتماد العلم والحجة في الحوار : \"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ\" [الحج:8 ، لقمان:20] ، \"هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ \" ، [آل عمران:66] ، \"إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ\" [غافر:56] ، \"أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ \" [ [الصافات:156-157] .
وفي اتباع اللين والحكمة والموعظة الحسنة يأمر الله موسى عليه السلام:\"اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فقولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ، [طه:42-44] ، ويأمر بإتباع الحكمة في الدعوة : ] وَمَنْ أَحْسَنُ قولاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، [فصلت:33-34] ؛ وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن إتباع أساليب السفهاء ، ومجاراتهم في السبِّ والتسفيه لمعتقدات الآخر: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَعَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] .
5- ختم الحوار بهدوء مهما كانت النتائج :
إذا سار الحوار جادَّاً وفق هذا المنهج من قبل جميع الأطراف ؛ فلا بد أن يصلوا جميعاً إلى ما التزموا به في بداية الحوار من الرجوع إلى الحق وتأييد الصواب ، وفي هذه الحالة ينتهي الحوار بهدوء كما بدأ دون حاجة إلى التوتر والانفعال :\"أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ\" [هود:35] .
6- التأكيد على استقلالية كل من المتحاورين ومسؤوليته عن فكره :
قبل الانفصال بين المتحاورين يتم التأكيد على استقلالية كل ومسئوليته عن نفسه ومصيره : \"إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ، قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، [الأنعام:134-135] .
7- الإشهاد على المبدأ وعدم تتبع الأخطاء الناتجة عن الانفعال أثناء الحوار :
وفي آخر الحوار يتم إشهادهم على المبدأ والتمسك به : \"فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ\" [آل عمران:64] ، وليكن العفو والصبر أساساً وخلقاً في التعامل مع الجاهلين :] خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ\" [الأعراف:199] .
ثانيا : ضبط مفهوم الحوار:
وهكذا لا يمكننا أن نسلم بصدقية الدخول مع الغرب في حوار ليس انكارا منا للحوار ولكن لأن الحوار في الرؤية التوحيدية ينتظم معرفيا ومنهجيا تحت سنة التنوع، ويعمل حضاريا وفقا لسنة التدافع وكلا السنتين تستندان إلى مرجعية واحدة تختلف أنساقها ومنظوماتها جذريا عن الرؤية العلمانية الوضعية، مما يفضي بالتفاعل بيننا وبين الغرب إلى نهايات مأساوية على مستوى أجيالنا وأمتنا.
فالحوار في الرؤية العلمانية الوضعية آلية يتوسل بها إلى إلغاء الآخر وطمسه حضاريا؛ والحوار في الرؤية التوحيدية آلية يتوسل بها إلى التفاعل الإيجابي البيني المستمر والمتواصل بحثا عن سعادة الإنسان دنيا ونجاته في الآخرة.
المحور الثاني : المفهوم القرآني لسنة التدافع :
اولا : سنة التدافع :
التدافع هو سنة إلهية غايتها ضمان استمرار توازن الكون والنجاة في الآخرة، وليس هو مبدأ وضعي مفرغ من غاياته الخيرية والإنسانية والغيبية، كما هو مصور في الرؤية العلمانية الوضعية حيث تستعمل مضمونا صداميا قهريا استئصاليا تطلق عليه لفظ \"الصراع\"؛ ومن هنا جاءت الكتابات حول \"نهاية التاريخ\" لفوكو ياما وَ\"صدام الحضارات\" لصامويل هينتينقتون، وغيرها من الكتبات الغربية التأصيلية المعرفية.
والهدف الثاني من سنة التدافع هو: توجيه علاقات الناس وضمان تفاعلاتها الإجابية بما يحقق الصلاح والاستمرار في الدنيا والتمتع الكبير بخيراتها والفوز برضى الله في الآخرة.. وهي علاقات مبنية على العدل الإنساني والإحسان الإنساني والتواصل الإنساني والتضامن الإنساني في دفع كل ما يضر الإنسان وجلب كل ما من شأنه أن ينفعه... ففكرة تفاعل الإنسانية في الرؤية الوجودية التوحيدية مبنية على منظومة الخيرية للبشرية جمعاء، بخلاف تفاعل الإنسانية في الرؤية العلمانية الوضعية، فهي مبنية على منظومة البراغماتية والفردانية، والقهرية والقوة.
فالحوار كآلية هو ضمن نسق سنة التنوع تحكمه سنة التنوع لا سنة التدافع؛ وفي دائرة غير المسلمين تحكمه سنة التدافع؛ إذ يفترض أن لا يقع الخلاف أصلا في المرجعية الرؤيوية الواحدة، وإنما ننبه على هذا للخلط الذي يقع كما أسلفنا في الممارسات والمداولات بين أبناء الرؤية التوحيدية؛ الا ان سنة التنوع رغم استقلال نسقها المعرفي فهي متداخلة مع سنة التدافع.
ثانيا : المفهوم القرآني للتدافع واسبابه :
أ – المفهوم :
ان الأصل في العلاقات الإنسانية، بل الخلائق عامة وفق سنن الله الكونية فهو التدافع: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118-119].
والتدافع بالمفهوم القرآني ، فإنه يباين مطلق الصراع والصدام في طبيعته وأغراضه وأهدافه. وذلك من حيث كونه نوعاً من التنافس المنضبط بسنن الشرع والأخلاق الفطرية الطبيعية، وهو العنصر المفقود في العولمة حتى الآن [يحاول هانتنغتون التخفيف من حدة لغته في (صدام الحضارات) بقوله: الاختلاف لا يعني التنازع، والتنازع لا يعني العنف بالضرورة ، ولكن من حيث الواقع كل ذلك مخالف لفلسفة الحضارة التي ينطلق منها].
ب- أسباب التدافع ومصادره:
يقوم التدافع أساساً على حكمة الله في اختلاف الناس كما تشير إليه الآية السابقة وهي قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود(118)، حيث يبيّن القرآن أن الاختلاف بين البشر، وهو أهم عنصر به يتحقق الغرض من وجود الإنسان، ليس مناقضاً لطبيعته الإنسانية ولكنه معارض لوجوده في المجتمع مع ضرورته، لأنه يفضي إلى التنازع والتدافع، فيقتضي تهذيبه بالضوابط.
المحورالثالث : صور التدافع وغاياته :
أ- صور التدافع :
صور التدافع كثيرة لا يكاد يحصيها العد، ولكن تتجلى سنة التدافع الإنساني في ثلاثة مستوياته رئيسة:
المستوى الأول : التدافع في إطار النفس الإنسانية، وهذا هو الأساس والمصدر، كما تمت الإشارة إليه، وينشأ بسببه صراع داخلي في النفس بين نوازع الخير التي يباركها الله تعالى ونوازع الشر التي يولّدها الشيطان. وقد عبّر القرآن . عن ذلك في قوله تعالى فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (الشمس: 8-10.).
المستوى الثاني: التدافع في ظل المجتمع الواحد (Nation State)، وهذا المستوى تابع للأول، وبه ينشأ صراع بين الناس ولو كانوا تحت مظلة الإيمان، ولذلك ينظمه الشرع ببيان الحقوق ووضع الحدود. ويضع القرآن مبادئ مختلفة حلاً لهذا المستوى من التدافع، بوصفه مبدأً للشورى، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن أجمع هذه المبادئ هو مبدأ تحقيق العدل.
المستوى الثالث: التدافع الحضاري بين الأمم أو الشعوب المختلفة، والذي يشار إليه عادة ب(الصراع) أو (صدام الحضارات).
ويتخذ هذا المستوى من التدافع صوراً مختلفاً وله تجليات متعددة مثل: الكفر والإيمان، الحق والباطل، القوي والضعيف، العدل والظلم، الاستكبار والاستضعاف ..إلخ. وهو تابع بصورة أساسية للمبدأ الأول من التدافع، أي اختلاف الناس الذي يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) (يونس: 99).
الأصل في التدافع الحضاري هو أن يكون بالحسنى، كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(فصلت: 34) ، وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ )(المؤمنون: 96). وقد يكون التدافع بالمواجهة بالسنان لدفع الظلم والطغيان، ليحق الله الحق ويبطل الباطل، ويحصل النصر والتمكين (راجع أنواع التمكين من الوجهة القرآنية، وشروطه وأسبابه، ومراحله وأهدافه: على محمد الصلابي، فقه التمكين في القرآن (المنصورة: دار الوفاء، ط1، 2001م) وهو ما يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )(الحج: 40)
فمن أهم المبادئ لتحقيق الاستقرار والسلام الدولي في نظر القرآن تحريم البدء بالعدوان كما يقرره قوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]. ومن المبادئ المهمة هنا أيضاً الوفاء بالعهد، كما قال تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )(النحل91).
ب- غاية التدافع :
إن غاية التدافع في القرآن هو الاتّجاه نحو التوازن بإحداث التغيير، لذلك فهو تابع لسنة الحركة الشاملة للوجود كله. فالكون كله خاضع لسنة التغيير بطريقة أو أخرى، قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ )القصص: 88). وقال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ )الرحمن: 26-27)
فصور التدافع متعددة ولكن غايتها واحدة هي إيجاد توازن بشكل ما، مثل إظهار الحق الذي هو غاية التدافع بين الحق والباطل، ومثله التدافع بين القوة والضعف، والغنى والفقر، والسالب والموجب.. إلخ.
خا تمة
يمكننا أن نصل في خاتمة الموضوع إلى صوغ مفهوم الحوار فنقول: الحوار هو آلية من أهم الآليات في التفاعل مع الوجود بأكمله أخذا وعطاءً من غير إكراه ولا قهر، ضمن سنتي التنوع والتدافع من أجل تحقيق التوازن الكوني، والفوز بالجنة ومرضاة الله في الآخرة.
وهكذا فإن هذه الآلية تعمل وتؤتي أكلها في كل مستوى تُمارس فيه، مع مراعاة شروط كل مستوى من مستويات الوجود؛ فالحوار مع الله تسليم وعبادة، والحوار مع الكون تسخير وتمتع، والحوار مع الانسان تعاون وتضامن وليس إلغاء لله أو قل للغيب مطلقا، والدخول في صراع مستميت مع الكون والطبيعة ومحاولة تدميرها وإفساد نظمها المتناسقة بما يُذهِبُ رونقها، وممارسة الإلغاء وإفناء الإنسان كإنسان مكرَّم وفق هذه الأرض وسلبه إنسانيته وحريته وحرية تمتعه بهذا الكون الفسيح الذي سخره الله له...بل وخلقه من أجله.
إن القول المسَدَّدْ هو الحديث عن الحوار في ضوء سنة التنوع أو سنة التدافع، في إطار الأخوة الانسانية ووفقا للفطرة الانسانية بعيدا عن أي منطق صدامي ولا اندماجي تلفيقي...بل لا يصح الأمر إلى في إطار الاستقلالية الوظيفية والتكاملية الحضارية الكونية.
الكاتب الصحفي والطالب الباحث :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.