سعيد عاهد شكلت نظرة الغربيين للمغرب، سواء كانوا فنانين تشكيليين، باحثين جغرافيين وإثنوغرافيين، رحالة، عسكريين أو معمرين، موضوعا خصبا تناولته العديد من الدراسات والمؤلفات. لكن هذا المنجز البحثي ظل يفتقر، في كثير من الأحيان، إلى مقاربة صدى أصوات النساء اللواتي جعلن من مغرب القرن التاسع عشر ومغرب الحماية تيمة للكتابة بعد زيارته أو الإقامة فيه. هذا البياض هو ما سعت الباحثة لطيفة بنجلون العروي إلى طي صفحته بإصدار مؤلف هام موسوم ب "النساء الغربيات الرحالة إلى المغرب بين 1860 و1956"، الصادر مؤخرا عن دار النشر "لا كروازي دي شومان" «ملتقى الطرق». "من هن هؤلاء النساء؟ هل كانت لهن نظرة للمغرب مختلفة عن نظرة نظرائهن الرجال؟ هل انتبهن إلى ما أغفله الرجال نظرا لوضعهن كنساء؟ وهل بالإمكان، بناء عليه، الحديث عن كتابة نسائية خاصة تناولت المغرب؟". هي ذي الأسئلة الأساسية التي تحاول الباحثة المغربية المتخصصة في مجال البيبليوغرافيا، وأول مديرة مغربية لثانوية شوقي بالبيضاء، نفض الغبار عنها ومقاربة أجوبتها في مؤلفها المكون من 265 صفحة. ينقسم الكتاب، الذي تزينه صورة فوتوغرافية اللرحالة إيزابيل إيفوري وهي في المغرب، إلى قسمين اثنين يضم كل واحد منهما ثلاثة فصول. يرصد القسم الأول من المؤلف أصناف النساء الغربيات اللواتي زرن أو أقمن بمغرب الفترة التاريخية المدروسة وكتبن عنه، وظروف السفر والتنقل التي واجهنها، مع بسط أهم ملاحظاتهن وانطباعاتهن حول البلاد. أما القسم الثاني، فتجرد ضمنه الباحثة لائحة الغربيات المعنيات، مقدمة تعريفا بهن وبكتاباتهن حول المغرب، ومشيرة إلى أهم المراجع التي درست مسارهن وإنتاجهن. وقد ارتأت تصنيف هؤلاء النساء الرحالة اللواتي يتجاوز عددهن المائة، إلى ثلاثة فئات: الرحالة بالمعنى الحصري للكلمة والصحفيات والأديبات. اختارت لطيفة بنجلون العروي الانطلاق، في بحثها، من سنة 1860، أي السنة التي عرفت انفتاح الإمبراطورية الشريفة على الغرب بفعل الضغط البريطاني خاصة ?معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة البحرية الموقعة في 1856، وذلك عقب هزيمة الجيش المغربي في إسلي 1844. وهذان الحدثان مرتبطان، تكتب المؤلفة. وقد كان المغرب، بعد احتلال شرقه، سيفقد استقلاله لولا الدعم الدبلوماسي القوي الذي ناله من طرف بريطانيا العظمى. وبالمقابل، فإن هذه الأخيرة ستفرض عليه الانفتاح على التجارة الخارجية والسماح للمسافرين والمسافرات الوافدين من كل بقاع العالم بزيارته، علما أن هؤلاء كانوا شغوفين باكتشاف بلد بقيت حدوده مغلقة في وجه الأجانب طوال قرون. واعتبرت الباحثة أن السنة الأكثر ملاءمة لتناول موضوع دراستها هي سنة حصول المغرب على استقلاله ?1956?، مميزة بين فترتين أساسيتين أثرتا كثيرا في جلب النساء الغربيات إلى البلاد، في نوعيتهن ومقاربتهن لأحوال المغاربة والمغربيات: حقبة ما قبل 1912 حيث كانت تهيمن شخصية جون درومون هاي، السفير البريطاني في طنجة، وحقبة ليوطي، المقيم العام الفرنسي ومهندس المغرب العصري. في مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توضح الكاتبة، حيث كان من الصعب على الرحالة الغربيين من الجنسين تجاوز نواحي طنجة، كانت زائرات البلد أساسا من الرحالة بالمعنى المتداول للكلمة، نساء شجاعات ومجربات، متعودات على التنقل بين البلدان. وقد كن يأتين إلى المغرب تلبية لفضولهن، وبحثا عن لذة رؤية بلد غرائبي أو زيارة أصدقاء ومعارف... هناك أيضا النساء اللواتي كن مستقرات في المغرب لمدة قد تطول وقد تقصر، وهن أساسا زوجات الدبلوماسيين الغربيين لدى السلطان. وقد كن قاطنات في طنجة المتوفرة على محاور دبلوماسي مغربي هو مندوب المخزن. وانطلاقا من سنوات 1880، ستنضاف إلى كوكبة زائرات المغرب والمستقرات فيه، المبشرات اللواتي أجبر المغرب على فتح أبواب البلد لهن، مثلما للمبشرين الرجال، وذلك رغم معارضة الأهالي والعلماء المسلمين والأحبار اليهود الشرسة. وتبين لطيفة بنجلون العروي، أنه، انطلاقا من -1908 1912، ستلتحق فئة أخرى بهذه المجموعات الثلاثة المتميزة، هي فئة الصحفيات، وخاصة الفرنسيات، اللواتي جئن لتغطية أحداث المغرب الذي كانت تهتم بشؤونه ومجرياتها اليوميات والأسبوعيات الأوربية ?الأزمات الدولية المتتالية المرتبطة بالمملكة، الاختطافات، انتفاضات القبائل، تنحية السلطان مولاي عبد العزيز، الحملات العسكرية الفرنسية والإسبانية...?. وستعمل هؤلاء النساء لاحقا على تحويل مضامين مقالاتهن الصحفية إلى مواضيع لمؤلفات سردية أو شعرية، وخاصة من طرف الصحفيات اللواتي كن تتعاطين الكتابة الأدبية. الفصل الثاني من قسم الكتاب الأول يرصد، بكثير من التفاصيل والاستشهادات، ظروف وشروط أسفار الغربيات الرحالة في مغرب الحماية وما قبلها، بينما يتوقف الفصل الثالث طويلا عند ملاحظاتهن وانطباعاتهن حول أحوال المغاربة وطباعهم، وخاصة حول أوضاع مغربيات تلك الحقبة التاريخية ومعاناتهن في رحم مجتمع ذكوري بامتياز. رغم أن الجرد الكامل والشامل لكل الغربيات اللواتي حللن بمغرب 1860-1956 وكتبن حوله يبدو مهمة هرقلية صعبة الإنجاز، إلا إذا تم ذلك في إطار عمل جماعي مؤسساتي، فإن لطيفة بنجلون العروي نجحت، إلى حد كبير، في بحثها برسم ملامح أهمهن وتقديم أهم مؤلفاتهن وكتاباتهن حول المملكة في القسم الثاني من المؤلف. الفصل الثاني من هذا الجزء يتعرض للنساء الغربيات الرحالة بالمعنى الدقيق للكلمة، أي اللواتي لا يعدمن الشجاعة ويحترفن الترحال عبر مناطق العالم، المغامرات الباحثات عن اكتشاف آفاق جغرافية جديدة ونائية، منها المغرب الذي كن تعتبرنه كذلك رغم قربه من أوربا. إلى حدود 1912، يكشف الجرد الذي قامت به الكاتبة، ظلت الأنجلو-سكسونيات، الأمريكيات والبريطانيات، مهيمنات، إذ يبلغ عددهن 16 مقابل أربع فرنسيات وإيطالية ورحالة ذات أصول روسية- ألمانية. وسينقلب هذا المعطى رأسا على عقب بعد ذلك التاريخ، لتحصد الفرنسيات نصيب الأسد ضمن الرحالة المحترفات حيث سيبلغ عددهن 12، بينما سينزل عدد الأنجلو-سكسونيات إلى 9 والناطقات بالإسبانية إلى اثنتين. ومن بين أول الغربيات اللواتي زرن المغرب وكتبن عنه، هناك الفرنسية أولمب دودوارد صاحبة كتب "الشرق وساكنته" 1867 و"الصحراء، مآسيها وواحاتها" 1867 و"رحلة عبر ذكرياتي: الذين عرفتهم والذين رايتهم" ?1884?.ولدت الرحالة هذه في مدينة إيكس-أون-بروفونس في 13 مارس 1832، وكانت مناضلة من أجل تحرير النساء خلال حكم نابوليون الثالث المستبد عبر مقالاتها وكتاباتها السجالية. سافرت أولمب كثيرا عبر أوربا وأمريكا الشمالية والمغرب العربي والشرق الأوسط،، ولم تكن ظروف التنقل الصعبة تحول بينها وبين هوايتها. وهي تقول في أحد كتبها: "تنقسم حياتي إلى مرحلتين مختلفتين جدا عن بعضهما البعض: الأولى شاحبة ومؤلمة قضيتها في فرنسا، والثانية ملؤها الشمس والفرح، وهي التي قضيتها في السفر". وقد ارتأت لطيفة بنجلون العروي أن تصنف سيمون دي بوفوار ضمن الرحالة المحترفات اللواتي يبلغ عدد المحصيات منهن في الكتاب 45 امرأة، وليس ضمن الأديبات. رفيقة جون بول سارتر حلت بالمغرب، رفقته، خلال صيف 1938، لتزور مدن الدارالبيضاء، آسفي، الصويرة، وأگادير. ورغم تعرض سارتر للمرض، فقد واصلا رحلتهما إلى كل من مراكش، الرباط، مكناس، فاس ووليلي، قبل العودة إلى البيضاء. وكانت سيمون دي بوفوار ترغب في زيارة مولاي إدريس زرهون، لكنه منع عليها ولوج المدينة، لتعتقد مخطئة أن منعها تم بأمر من ليوطي الذي كانت تكرهه. كما تجولت بحي بوسبير الشهير بالدعارة، لتروي رحلتها إلى المغرب ضمن الجزء الثاني من سيرتها الذاتية 1960. وستعود إلى البلد في سنة 1949 رفقة الكاتب الأمريكي نيلسون ألغرين، مثلما تضمنت مراسلاتها مع جاك-لوران بوست في سنوات 1937-1940 إشارات عديدة للمغرب. الصنف الثاني من الغربيات زائرات المغرب هو صنف الصحفيات، وقد قدم المؤلف 19 منهن تنتمين للعديد من الدول: فرنسا، الولاياتالمتحدة، ألمانيا... كانت الصحفيات الغربيات تبعثن من قبل مشغليهن لتغطية بعض الأحداث الفارقة في مسار البلاد، من قبيل اختطاف رعايا أوربيين من طرف الريسولي، ولوج القوات الفرنسية إلى وجدة، مجزرة العمال في الدارالبيضاء، حرب الريف، الأحداث المرافقة للظهير البربري، الجفاف الكبير الذي لحق بجنوب المغرب قبيل الحرب العالمية الثانية، الأزمة بين محمد الخامس والإقامة العامة، خلع السلطان ونفيه... وخارج تغطية هذه الأحداث الكبرى، فإن الصحفيات المبعوثات إلى المغرب كن تتعاطين للسياحة وتكتبن مقالات واصفة لطبيعة البلد ومعالمه المعمارية ونمط عيش أهله. كما أن الكثيرات من بينهن جئن تلبية لدعوة من ليوطي أيام كان مقيما عاما، لتدبجن مقالات في مديحه والإشادة ببنائه لمغرب عصري وبالتقدم المتولد عن نظام الحماية. وخلافا للصحفيات الفرنسيات، فإن زميلاتهن الأنجلو-سكسونيات أو الناطقات بالألمانية ستنقلن صدى مغايرا عن مغرب تلك المرحلة، ولن تترددن في استجواب الزعماء الوطنيين المناهضين للحضور الفرنسي. وبلغة الأرقام، فإن الصحفيات الفرنسيات تتفوقن على المنحدرات من جنسيا أخرى، إذ يبلغ عددهن إلى 11 مقابل 9، لكن ثلاثا من ضمنهن فقط تناولن في مقالاتهن الصحفية أوضاع المغرب الاجتماعية ?نزع ملكية الأراضي الفلاحية، فتح الثانويات الفرنسية في وجه التلاميذ المغاربة، الجفاف والمجاعة?، بينما تعرضت غير الفرنسيا في اغلبيتهن لقضايا البلاد السياسية 5 من ضمن 9?. أما الأديبات اللواتي يجرد الكتاب سيرة 62 منهن، فهن تتميزن بالكتابة نثرا ?رواية، قصة، حكايات، شهادات...? أو شعرا عن مغرب أثار إعجابهن بطبيعته وطباع أهله وجمال فضاءاته. لكن طبيعة هذه الكتابات تجعلها اليوم مجرد نصوص ثوتيقية، لا قيمة أدبية لها على العموم. وتوجد من ضمنهن النمساوية غريث آور التي التحقت بأخيها المستقر بمازاگان/ الجديدة والعامل في مجال تصدير المنتجات الفلاحية المغربية، وذلك في سنة 1898. وإذا كانت قد قضت ست سنوات في البلد، فإنها اشتغلت مراسلة لصحيفتين ناطقتين بالألمانية، كما نشرت كتابين تضمنا مذكراتها ويومياتها، بالإضافة إلى ترجمتها للعديد من الحكايات الشعبية المغربية ابتداء من 1904، ما يفيد أنها تعلمت الدارجة وأتقنتها، ونذكر من بين هذه الحكايات، نقلا عن المؤلف: كيف احتل الجراد مازاگان، ياقوت الأمة وسي علال: الصعود والانهيار، قصة الجميلة خديجة ورجالها الثلاث، حكاية السلطان يوسف ابن تاشفين والسلطانة خديجة، قصة يهودية...