كوّن النقّاد المغاربة صورة مشرقة في خيالنا، وهي الصورة نفسها الموجودة في الخيال الثقافي الجمعي العربي. صورة نقد يتبنى المناهج الحديثة في الدراسة والتحليل والتدريس الجامعي. فمنذ سبعينيات القرن الماضي والنقد المغربي يُثاقف مع المناهج الجديدة في فرنسا على الخصوص، ويترجم أهم النصوص النقدية الجديدة التي تتبلور في الفضاء الأدبي والفلسفي الفرنسي. موجة صاخبة من الحركية النقدية والمنهجية ولجت إلى الجامعات المغربية، وكوّنت طلابا أصبحوا فيما بعد نقادا وباحثين ومترجمين. ماذا بقي من هذه الموجة الصاخبة؟ إصدار الحكم عن هذا الاستفهام يتطلب وقفة متأملة. لكن عناصر الجواب الأولى تفرض نفسها من خلال معاينة أولية ومعايشة قريبة. لم يعد الناقد المغربي سوى "حارس مقبرة"، حسب الوصف الذي أطلقه جان بول سارتر. وهل مازالت في المقبرة أجساد؟ وفي أحيان كثيرة يصبح الناقد مجرد معلّق عن كتب. وها هي الكتب تصدر في جميع ضروب المعرفة: في الفكر والرواية والنقد والعلم والشعر والترجمة، فمن يعلّق عليها؟ إنها مقبرة خالية من الحراس. والنُقّاد الذين كوّنوا صورة في خيالنا الجمعي ولعبوا فيها (حسب عبارة: "كوّن صورة في خيال الناس والعب فيها") اختفوا فجأة من خيالنا وذاكرتنا. الأمر إذن يحتاج إلى تفكيك. فعندما يغيب النقد، والتعليق، تصبح الحياة الأدبية مختلة ومفتقدة إلى شيء يضمن توازنها. النقد فكرٌ يُكمّل الإبداع الأدبي والفني. فكم من رواية تصدر في المغرب، كم مجموعة قصصية وشعرية، كم من ترجمة، كم من كتاب نقدي، كم من مسرحية تُعرض، كم من فيلم؟ سيل من الإنتاج الأدبي والجمالي والترجمي أمام صمت النقد والمراجعات. ليس هناك أفظع من حياة أدبية خالية من النقد. حياة يابسة، جافة وقاحلة. مقبرة بلا حرّاس ولا رُفات. كيف الخروج من هذه الأزمة؟ السؤال أكبر من احتمالات الجواب. وعنما يغيب النقد يصبح النص الأدبي غير مرئي بالنسبة للقارئ. ومن المفارقات التي ألاحظها هو الاحتفال المبالغ فيه بكتب غامضة وضعيفة، مقابل تجاهل تام لكتب فاعلة. ولعل لهذا الأمر امتداد منذ المدرسة إلى أسلاك التعليم التالية. والمشكلة الأخرى هي عدم التمكن في الوقت القريب من ملئ الفراغات والفجوات التي أحدثها تخلي النقد عن الأدب. فحتى وإن تحققت "نهضة" النقاد، فإنه من الصعب إزالة الحاجز بين النقد والنص. لقد تكرّست وترسّخت أفكار وقناعات ضئيلة حول دور النقد. إذن فسنين العمل النقدي لم تستطع عبور الفجوة، والمسؤولية تعود للنقاد أنفسهم. فالنقد، والأدب، في خطر لأنه داخل المدارس والجامعات في خطر. و"في خطر" هذه ليس معناها ان النقد سيموت ويخرج من حياتنا، بل سيستمرّ ولكن مختلّا. إن غياب النقد من الصحافة، إلّا فيما ندر، ومن المدارس، ومن الحياة الأدبية عموما، هو مثال لافت على هامشية النقد في المجال الأدبي الواسع. كل شيء يمكن أن يختفي من الأدب: جنس أدبي، نوع، تقليد، تيار، مدرسة، إلا النقد الأدبي لا يمكن تصوّر غيابه. وذلك أمر يستحق حدادا.