والمغرب يعيش تحت سلطة الحماية الفرنسية، نشرت «الدار الفرنسية للفن والنشر» الباريسية كتابا لا يتجاوز عدد صفحاته 104 صفحة، يحمل عنوان «أصناف الحب المغربية». المؤلف صدر بالضبط في سنة 1919، وهو يحمل توقيع أندري رِبِيِيِند، الكاتب الفرنسي الذي سيحصل لا حقا على جائزة الماريشال لويس-هوبير ليوطي في عام 1958 عن كتابه «نصب ليوطي التذكاري». وخلافا للكتابات الاستعمارية المغرقة في التصورات المسبقة عن علاقات الحب والزواج في المغرب، وعن قدرات المغاربة الخارقة جنسيا، وعن طبائع رعايا السلطان مولاي يوسف بن الحسن البدائية، فإن الكاتب حاول، قدر ما يسمح له بذلك وضعه كسليل للدولة الحامية، وصف المجتمع المغربي في تلك الحقبة بدون توابل عجائبية. ولعله فعل هذا نظرا لاعتناقه لتصور ليوطي لنظام الحماية الذي كان يقضي بضرورة محافظة المغرب على تقاليده مع عصرنته وتحديثه. يضم الكتاب، بالإضافة لمقدمة وتمهيد، تسعة فصول تصف الطقوس والممارسات المغربية، حضريا وقرويا، في مجالات الخطوبة وما يليها، وعرس الزواج، وتعدد الزوجات، والحريم، ولثام النساء والدعارة. نقترح على قراء «الاتحاد الأسبوعي» موعدا كل سبت للاطلاع على ترجمة شبه كاملة لمضامين المؤلف. أندري رِبِيِيِند تعددت الكتب حول المغرب وشرعنا في معرفته، خاصة على المستويات الجغرافية، الصناعية والتجارية. كما تكاثرت الوثائق عن الدارالبيضاء والشاوية، عن فاس، مكناس والرباط، وتعودت الأذن الأوربية على عدد من الأسماء والمنتجات المغربية. لكن الوضع هذا لا ينطبق على العادات. إنني مندهش من مدى جهل الفرنسيين، حتى سكان الدارالبيضاء منهم، بشؤون المغرب العربي التي لا علاقة لها بعالم الأعمال. وذلك رغم أنه ليس ثمة أمرا أكثر جاذبية وإيحائية من دراسة عادات بلد ونمط العائلة فيه، وأساطيره وأحكامه المسبقة، بلد جد قريب من بلدنا بفعل وسائل النقل، وجد بعيد عنه بسبب تصوراته للحياة! لو تعلق الأمر بمتعتي الخاصة بمفردها، لقمت هنا بتدوين نتائج ملاحظاتي انطلاقا من زاوية النظر هذه. لكنني أظن أن جدواه لا تنحصر في متعتي الخاصة، إذ لا تخلو معرفة وإدراك هذه الحضارة من فوائد، هذه الحضارة التي أصبحنا نختلط بها أكثر فأكثر، والتي سنغيرها لأننا الفاتحون والأقوى، والتي يمكنها، من جانبها، التأثير على حضارتنا. ألن نندم لاحقا، حين ستحل مرحلة الذكريات، لكن بعد فوات الأوان، على عدم معرفتنا، في اللحظة المواتية، كيفية التغلغل أكثر في ما يتضمنه الإسلام من عناصر غريبة وجميلة؟ حتى لو اقتصرنا على هدف التوثيق والتعلم، فمن المحبذ أن نلم بنمط العيش العربي هذا، الذي تعتبر الحياة في كنفه جد لطيفة وممتعة، والذي يجسد ربما، بفعل المفارقة الكامنة في خصوصيته، جوابا ودرسا حول أفعالنا المحمومة التي تصل أحيانا إلى حد انعدام الجدوى! لقد قمت، هنا، بتدوين سلسلة من الملاحظات بدون أي ادعاء أدبي، علما أن أغلبية مضامينها نشرت سابقا في جرائد صادرة في الوطن-الأم وفي مستعمراته الخلابة. وإذا كانت تلك المقالات ذات مسحة علمية إلى حد ما، فإنني قمت بإعادة صياغتها وإضفاء شكل أكثر إمتاعا عليها، دون إغفال إضافة تأملات ونوادر ومشاهدات وملاحظات جديدة إليها. ومع ذلك، فإنني لم أقدم على تزيين الحقيقة ولا على توجيه كتابتي للمراهقات، كما أعلن على رؤوس الأشهاد أنه لم تخطر ببالي أية فكرة ملتبسة وأنا أتحدث عن قضايا تهم الحب. كل ما سيلي مجرد توثيق بريء، وأتمنى ألا يعاتبني القراء على كوني نقلت الأمور كما هي، وهي الطريقة الأفضل لتجنب خدش الحقيقة والحياء معا. تمهيد يختلف المجتمعان المسلم والأوربي عن بعضهما البعض من حيث أساسهما نفسه. ليست الوحدة المشكلة للمجتمع الإسلامي سوى الأسرة، وخلافا لما يحصل عندنا عقب استقلال الأبناء ماديا أو زواجهم، فإن الأسرة العربية تتوسع بتواصل جراء هذا. إن الروح الفردية الفطرية التي تدفعنا، في حضارتنا الأوربية وخاصة الإنجليزيين منا، إلى ترك البيت الأبوي تزامنا مع السعي إلى إثبات ذاتنا، أو شق طريقنا في الحياة أو إنشاء عش الزوجية، روح لا يخضع لها المسلم. بالطبع، هو سيتزوج، بل سيعقد عدة زيجات، لكن ذلك لن يؤدي به إلى التوقف عن العيش في كنف العائلة التي احتضنته منذ ولادته والتي سيظل منتميا لها طوال حياته. إذا كان الوالد والوالدة، في أوربا، يمكثان بمفردهما في منزلهما إثر رحيل الأبناء وارتمائهم في أحضان من سيقضون حياتهم برفقتهم، فالعكس هو ما يحدث هنا، إذ يظل الابن، ومعه زوجته، تحت رعاية أبيه، وطالما بقي الأخير على قيد الحياة، فإن سلالته تطيعه، كما تحصل منه على المستلزمات المادية للعيش. الزواج مرادف لدينا تقريبا للاستقلالية والتحرر، أما بالنسبة للمغاربة، فهذا غير وارد نظرا لأنهم يتزوجون في سن مبكرة، ما يجعلهم عاجزين عن تحمل مصاريف العيش الجديد. ولذا، فلا شيء سيتغير في بيت الأسرة. أجل، ثمة فرد إضافي يجب إطعامه، لكنه عبارة أيضا عن خادمة غير مدفوعة الأجر. أن تضم الأسرة المغربية خمسة عشر فردا ليس وضعا نادرا، كما أنه لا مثيل لتقديس بيت الأبوين هنا في باقي الحضارات، ففي حضنه يجد رب الأسرة نفسه بمعية والديه وأبنائه وأحفاده، بالإضافة لبناته المطلقات، وأحيانا لأبناء إخوان أو أخوات زوجته أو زوجاته. يتولى الابن البكر تدبير أمور البيت بعد انتقال الوالد إلى جوار ربه، ورغم استمراره في احترام أمه، فإن سلطة هذه الأخيرة تصبح تابعة لسلطته. ويتم نقل السلطة، بعد وفاة صاحبها الأصلي، بطريقة تتسم بالغرابة بقدر ما تحمل من رمزية. أجل، فالأب بمفرده له حق النوم في سرير داخل الأسر المحترمة للتقاليد، ولا حق لزوجته في ذلك بعد موته، وهكذا، فإن الابن الأكبر، وهو يرقد لأول مرة في السرير الأبوي، يعلن نفسه ممتلكا لسلطته الجديدة، تلك السلطة التي لا يمكن أن تتمتع بها امرأة في أي حال من الأحوال. أما في حالة غياب خلف ذكر، فإن تدبير شؤون العائلة يؤول لزوج البنت البكر، ما يؤهله للحصول على جميع الموارد وتسوق كل الحاجيات، حتى المنزلية، وإصدار الأوامر للخدم. ولا يقوم الوالد أو الابن الأكبر، في المنازل التي يقطنها عدة رجال بالغين، بأي عمل عادة، باستثناء بعض المبادلات التجارية. إن المغربي يعتبر كل عمل بدني مذلا، ولذا نجده يتخلص منه كلما استطاع إلى ذلك سبيلا. يدفع المغربي مهر زوجة جديدة بواسطة الأموال التي يوفرها له أبناؤه أو إخوانه، وقد يشتري أمة شابة تخدمه وتلبي شهوته في نفس الآن، كما أنه يستطيع استرجاع ما أنفقه على هذه الأخيرة عن طريق عرضها للبيع يوم ينضب إعجابه بها. وإذا كان عدد الزوجات محددا في أربع بالنص القرآني، فإن التحديد لا ينطبق على عدد الإماء اللواتي هن عبارة عن خليلات شرعيات يفضلهن السيد على زوجته أحيانا. نعم، إن القانون الإسلامي يترك للعربي حق امتلاك العدد الذي يرغب فيه من «الزنجيات»، وأنا أعرف شخصيا مواطنا صالحا من فاس بيته مزين باثنتين وعشرين من هؤلاء النسوة. أما الأطفال الذكور الذين يتم إنجابهم في إطار هذه العلاقة غير الزوجية، فإنهم يتمتعون بكافة حقوق الأبناء الشرعيين أمام القانون. ولذا، تجهد الإماء أنفسهن لإنجاب أطفال لسادتهن. ورغم أن وضعا من هذا القبيل يبدو لنا خليعا، فنحن لا نستطيع تعديله نظرا لكونه مندرجا في سياق الإسلام شيئا ما، ولأنه ليس من اختصاصنا، بصفتنا «روميين» تغيير أي مكون من مكوناته. زد على ذلك أنه ليس ثمة ما يبرهن على أن حضارتنا الغربية ترفع عاليا مشعل الحقيقة، وعلى أن أخلاقنا نحن هي الفضلى بمفردها، هي الصالحة لوحدها، خاصة إذا ما استحضرنا سعة النفاق الذي ولدته. إن الزواج الأحادي (من يجهل الأمر؟) مجرد مظهر خارجي، وقليلون هم الرجال الذين تكفيهم زوجتهم الشرعية خلال سنوات تعايشهم معها الطويلة إلى هذا الحد أو ذاك. أجل، فالكثير من الأزواج الخائنين لا يعيرون اهتماما لكلمة «التعايش» هذه رغم الأهمية القصوى التي تحظى بها من وجهة نظر القانون! ألا تعج بلداننا بالفنادق المتسامحة وبشقق العزب، بل بالسقوف الصديقة الحاضنة للحنان المتبادل خارج مؤسسة الزواج؟ أليست هناك بيوت الدعارة؟ ألا وجود لأزواج (بل وزوجات أحيانا) متعطشين لمداعبات غير مسبوقة يلجأون إليها لطلب ساعة من اللذة، لذة يجعلها طابعها غير الشرعي والمحتجب عن الأنظار أكثر عذوبة بفعل مذاقها الحريف كفاكهة محظورة؟ إن إضفاء الشرعية على تعدد الزوجات، علما أن هذا التعدد متطابق إلى حد كبير مع طبيعتنا الجسدية، موقف يحسب لصالح الإسلام، والمسلمون ليسوا أول من تبناه. لقد كان ساري المفعول في العصور القديمة، الشيء الذي لم يؤثر عليها سلبيا. لنتأمل الوضع الغريب التالي: ما الأثر الفعلي للقوانين الجديدة، ما المنحى العام لتطور عاداتنا، أليس هو العودة البطيئة لهذه الممارسة التي حظرتها المسيحية من أجل هدف نبيل لا يمكن إنكاره، هدف تحرير المرأة؟ لكنه لم ينتج عن هذا الحظر، للأسف، إلا إقحام مفهوم الخطيئة في إطار الحب، الخطيئة التي تتبله في الواقع. ومن جد المحتمل أن يعثر المستقبل مجددا عن السبيل الحقيقي للحب المنسجم... أما بالنسبة للمغاربة، كما سنلاحظ ذلك لاحقا، فتعدد الزوجات كما يمارسونه لا يمثل الحل الأمثل، نظرا لأنه لا يمنعهم من اللجوء إلى الخيانة الزوجية! ومع ذلك، فمن المخالف للواقع، رغم هيمنة هذا الموقف، تمثل المسلمين على أساس كونهم فاجرين نهمين أو شعبا ملتزما بتعاليم القرآن، ولا اعتبار المسلمة حورية سعيدة برغبتها المشبعة تارة، أو دابة منهكة بالأشغال. لذا، وبعيدا عن الوضعين القصويين السالفي الذكر، سأحاول الكشف عن وضع المسلمات الحقيقي. وقبل هذا، سأضيف بعض الملاحظات حول مبدأ تعدد الزوجات. سبق وقلت إنه جد قديم، كما أن العمل به كان جاريا لدى أغلبية الأمم المتحضرة. لقد عرفه اليهود، وجميعنا يذكر، في هذا الإطار، زوجات النبي سليمان الستمائة. ومن جهتهما، فإن القانونين الإغريقي والروماني اعتمداه، مثلما ظل المورمون يعتبرونه تقدما إلى حدود صدور قانون عام 1887 الذي حظره على أتباع هذه الطائفة الدينية الأمريكية. كان تعدد الزوجات في الأزمنة الغابرة غير مقيد، أي لا يحكمه تحديد عددهن. لكن القرآن سيقيده، محددا عدد الزوجات الشرعيات في أربعة، وهو المعطى الذي يستحق التذكير به من طرفي. ومع ذلك، فتقاسم الزوج مع أخريات وضع لا يروق النساء الخاضعات له، بل إنه يولد الغيرة والحسد بين زوجات الرجل الواحد. لكن هذا لا يشكل مبررا لعدم الدفاع عنه. (...) إن المقولة القرآنية «تناكحوا تكاثروا» مشتركة بين جميع الديانات، ولقد طبقت بهمة في كنف الإسلام. تمنع التقاليد، لدى العديد من الشعوب، الرجل من معاشرة المرأة طوال مرحلة الرضاعة وإلى حدود حلول موعد فطام الوليد. فهل من الملائم تركه ضحية لغرائزه خلال هذه المدة؟ ألن يشكل ذلك خطرا على النظام الاجتماعي الذي يفرض على الرجل الالتحاق بمنزله والمكوث به بعد الانتهاء من العمل؟ كلا، سيشكل هذا خطرا بكل تأكيد. وإذا أضفنا إلى الأمر حالات التعب والحيض والمرض، الطبيعي أو الناتج عن حوادث، التي تتعرض لها المرأة، تلك «الجريحة الأبدية» وفق توصيف ميشلي، فسنتوصل إلى نتيجة مفادها أن الزوجة تجد نفسها مجبرة على هجر فراش زوجها خلال مدة طويلة بسبب تلقي العلاجات اللازمة. أضف لذلك، أخيرا، معاناة بعض النساء من العقم، ما يؤدى إلى عدم إنجاب الأسرة! إن أخذ هذه المسوغات، الداعمة لتعدد الزوجات، بعين الاعتبار أمر إلزامي بصورة مطلقة، بالنسبة لكل من يعتنق كمبدأ أعلى للحياة المبدأ الذي مفاده أن الواجب يفرض ضمان تكاثر الحياة نفسها عن طريق إنجاب الأطفال. يبدو أن هذا المبدأ قد استوعب وطبق بطاقة نادرة من قبل السلطان مولاي إسماعيل، سلف جلالة مولاي يوسف، الذي كانت له ربما، حسب المؤرخين، أربعة ألاف خليلة خلفن منه خمسمائة وخمسة وعشرين ابنا ذكرا وثلاثمائة واثنتين وأربعين بنتا! نستطيع ذكر إيجابيات أخرى لتعدد الزوجات تضاف للسالفة، من بينها أنها توفر للسيد اليد العاملة التي يحتاجها بفضل مجموعة نسائه. كما أن التعدد يحول دون بروز طبقة العوانس الممقوتة على وجه العموم. لكن تعدد الزوجات لا يخلو، أيضا وبالمقابل، من سلبيات، سنتطرق لها لاحقا.