في أواسط السبعينيات، حدث أن طُرح للنقاش مع أحد أساتذتنا موضوع «المرأة»، وكنا في أغلبنا كتلاميذ يافعين من المدافعين عن كل أوجه التحرر، و ليس فقط عن حرية المرأة. ومع ذلك كان هناك من بيننا صوت نشاز اتهمّنا بالإلحاد و الخروج عن الدين. بل و لم يتمالك هذا الصوت النشاز نفسه، وصرّح في تحدّ غريب وغبي أنّ من يؤمن بحرية المرأة يؤمن بتبرّجها، وعليه أن يأتي لنا بقريبة من قريباته...وطبعا لم يتوان أستاذنا المحترم في طرد هذا الجهول الذي كان دماغه في مؤخّرته. تذكرت حينها ما وقع للكاتب المصلح «قاسم أمين» مع أحد الجهلة المصريين الذي اعترض يوما ما طريقه و طلب منه أن يأتيه بزوجته إن كان فعلا ضد «الحجاب» ! ولربّما هو أمر ذو دلالة حينما علمت فيما بعد أن التلميذ المذكور التحق بإحدى خلايا تنظيم «إسلامي» متطرف لا زالت الشكوك تحوم حوله في اغتيال الشهيد عمر بن جلون. و في أواخر السبعينيات، وكنت التحقت حينها بإحدى كليات المغرب، حدث مرة أخرى في إحدى حصص «الأشغال التوجيهية» أن طُرح نفس الموضوع للمناقشة. و ما أثار انتباهي فعلا هو تدخل أحد الطلبة «الجامعيين»، ومفاده أنه شخصيا (هكذا ! ليس ضد تحرر المرأة) و لكن علينا، كما يرى صاحبنا، أن نعطيها حريتها تدريجيا وبالتقسيط، على سبيل الاختبار، لأنها قد لا تحسن التصرف بحريتها، ولأنها كائن عاطفي و ناقص عقل و دين وتمييز...تصوّرت آنئذ أنّ حرية المرأة (و ربّما حرية الرجل أيضا) توجد في جيب هذا «الطالب» العجيب، وما على نساء المغرب إلا أن ينتظرن رقّة قلبه ليتصدّق عليهنّ ب»حريتهن» المؤتمن عليها. وفي أواسط الثمانينيات كنت بالصدفة مسؤولا عن توزيع «الفروض» المقدّرة لتصفية إحدى «التركات». والحقيقة أني لم أستوعب كيف أن ما هو مقدّر لأخت شقيقة لا يفرقها عن شقيقها غير سنتين، هو نصف ما هو مقدر لنا نحن الذكور. واقترحت حينها على المعنيين بالأمر، في هزل فيه كثير من الجد، أن نورّث الجميع بحصة للذكر تعادل حصة الأنثى...وكان ما كان. تذكّرت هذه اللحظات حينما أنهيت قراءة رسالة بعثها لي أحد الأصدقاء يدعوني فيها للمشاركة في ندوة تخصّ «مدوّنة الأسرة» و ما إليها من تفريعات تتعلّق بحرية المرأة وحقوقها وواجباتها... هاتفت صديقي، وشكرته على دعوته، وحاولت جاهدا بلغة دبلوماسية أن أبلغه تعذر مشاركتي في اللقاء المذكور لسببين اثنين، أولهما يتعلّق باللغة القانونية التي صيغت بها «الورقة التقديمية» المرفقة بالدعوة، بتركيزها على قضايا «سن الزواج» و «تدبير الأموال المكتسبة» و «النفقة» و»مسطرة التطليق»...وقلت له أني في واد، و القواعد القانونية في واد آخر، وأني في جميع الأحوال لا أستحمل الحديث كثيرا بلغة القانون في فصوله و مواده و بنوده و مساطره...و ثاني الأسباب يخص موضوع المرأة في حد ذاته، وهو موضوع صعب وعسير، يتجاوز بكثير تركيب جمل خطابية يكذب مؤلفها على نفسه قبل الآخرين، بل وحتى تأليف مجلدات ضخمة تحجب بين كلماتها «سكيزوفرينيا» قاتلة. ولا هو بالموضوع الذي يتماشى في الكثير من أوجهه مع طبيعة عقلنا «الإسلامي» الذكوري حتى النخاع...و في جميع الأحوال شرحت لصديقي أني أبيت عن نفسي الحديث عن حرية المرأة ومشتقاتها ريثما أخلّص فعلا، وليس لفظا، ذهني و جسدي من ترسبّات التسلط الذكوري التي كبرت فيها... لم يقتنع مخاطَبي، أو لم يرد ذلك، وأكّد على ضرورة مشاركتي، وأنه بإمكاني أن أجد «تخريجة» للمساهمة بموضوع يعفيني من بنود القانون و كذب الخطابة. وأمام إلحاحه الشديد، و هو صديق عزيز، لم أجد بدا من القبول و العمل على صياغة موضوعي. بدأت أولا بما يجب أن أبدأ به. قرأت «مدونة الأسرة» بموادها الأربع مائة، من أولها إلى آخرها. وما فاجأني حقّا، هو تلك الهالة و الجعجعة التي استُقبلت بها، حيث اعتبرها البعض ثورة قانونية، وإنجازا لا مثيل له ل»العهد الجديد». و الواقع أنّها مجرد تتويج لما يعتمل داخل الساحة الاجتماعية، ونوع من الإقرار والمسايرة لما أصبح سائدا أصلا في حياة الناس، أو ما هو في طريقه لا محالة إلى التعميم، وهذا ينطبق على عدد من بنود المدونة التي رأى فيها البعض طفرة نوعية مثل رفع سن الزواج، أو التشديد في تعدد الزوجات، أو إعطاء المرأة حق اختيار شريك حياتها. ولو تركنا جانبا ما تعلّق بالتشديد في إجراءات الطلاق، (وهي إجراءات تنبئ عمليا عن محدودية الفعل القانوني و العجز عن تفعيله في غياب بنيات استقبال و أدوات التنفيذ ووسائل المراقبة...) لما تبقى لنا في الغالب الأعم غير أمور أصبحت تفرض نفسها بحكم الواقع و صيرورته. وضعت «المدونة» جانبا، والأسئلة تتزاحم في ذهني: أي سبْق يتحدّث عنه البعض لو قارننا مع ما حدث منذ مدة عند جارتنا الشقيقة تونس؟ وأي علاقة يمكن أن تجمع هذا النص القانوني المحتشم إلى أبعد الحدود مع «أدبيات» تحرّر المرأة المستفزّة بجرأتها؟ والمفارقة الكبرى أنّ هناك، على الرغم من الطابع المحتشم الذي صيغت به بعض مواد «المدونة»، من أبدى تحفظاته بشأنها، بل وسار قبل ذلك في تظاهرات مناهضة ل»مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» التي لا تختلف في جوهرها عمّا نصّت عليه «المدونة» التي تمّ قبولها؟ و عبثا تبحثون عن مبرّر عقلي يقضي برفض «مشروع خطة» تمّ التضحية بصاحبها من قبل «رفاقه» أنفسهم، و قبول نفس المشروع معدّلا في صيغة أخرى؟ و بين الرفض السابق و القبول اللاحق، تتعرى لعبة السياسة «الإسلاموية» بالمغرب، و يتّضح الفارق بين مقترح «الوزير» اليتيم في جرأته، و»تحكيم» رئيس الدولة بصفته «أميرا للمؤمنين». بدأت في جمع المعطيات لأصوغ موضوعي. سجّلت بعض الملاحظات، وراجعت بعض المواقف من هذه الإصلاحات، وتأملت النقط موضوع الخلاف...وتبيّن لي أنّ المرء لا يحتاج لكبير عناء ليستنتج أنّ «الدين»، أو ما يُعتقد أنه كذلك، حاضر بقوة في مجمل الأسئلة المطروحة، وأن حساسية الموقف تعود لكون مجال «الأحوال الشخصية» في مغرب اليوم، ورغم ترسانته القانونية «الوضعية»، هو آخر طلقة تبقت لتدخل «الشرع» في القانون. فالذين رفضوا، أو على الأقل تحفظوا في شأن بعض هذه الإصلاحات، هم أساسا فاعلون سياسيون ومدنيون ذوي حساسية «دينية» مفرطة في تديّنها، كما أنّ «الهيئة» التي أشرفت على صياغة هذه الإصلاحات، كانت في أغلبها أشخاصا ذوي تكوين ديني شرعي. وهو أيضا أمر ذو دلالة، أن يتم استبدال عدد من العبارات ذات الحمولة «الدينية» بعبارات «قانونية» عادية، مثل استبدال عبارة «تكثير سواد الأمة»، أو إحلال عبارة «البناء» بدل «الدخول» أو عبارة «الباطل» بدل «المجْمع على فساده»، فيما تم الاحتفاظ بعبارات أخرى من قبيل «الطاعة» و «النكاح» رغم طابعها الدوني تجاه المرأة. ومما يعني الكثير، ونحن نتحدث عن الحضور الصريح والمضمر للحمولة الدينية، اللجوء إلى «تحكيم» رئيس الدولة بصفته «أميرا للمؤمنين» واستعمال نفس الصفة في الديباجة التي تقدم للمدونة والتأكيد المتكرر على الرغبة في الجمع بين «حقوق الإنسان» و «مقاصد الشريعة»، ولو بليّ عنق نصوصهما !! هكذا بدا لي، وبعيدا عن فيض التفاصيل، أن عقدة الموضوع هي العلاقة التي تجمع بين الدين والقانون، فقرّرت أن أصوغ بعض الملاحظات في هذا المنحى، أساهم بها في الملتقى المذكور. وفي الموعد المحدّد، جمعت أوراقي وتوجّهت إلى مكان الندوة. كان الحضور النسوي لافتا للانتباه، و قلت في نفسي هذه منحسة أولى، إذ بدا لي أني فضولي في الدلو بدلوي في قضية تخصهنّ، وهنّ أدرى بشعابها، كما كان عدد «المحتجبات» منهنّ غالبا، فقلت في نفسي هذه منحسة ثانية، إذ بدا لي أنّ حديثي، والله أعلم، لن يروقهن. جاء دوري في الكلام، فافتتحته بما وقع لأحد الباحثين المغاربة حينما سألته إحدى الصحفيات عن رأيه في قضية المرأة، ومبرر غياب موضوعها في كتاباته المختلفة، وهو الذي بحث في كل «المفاهيم» المركزية التي أطّرت التاريخ المغربي وأوضاعه السياسية و المجتمعية. وكان جوابه تلقائيا، يتمثل في كون هذه القضية يمكن اختزالها في أسئلة بسيطة: هل يقبل الإنسان أن تكون زوجته الساهرة على تربية أبنائه إنسانة جاهلة لا تملك أدنى مبادئ القراءة والكتابة و التربية ؟ و هل يرضى الإنسان العاقل أن تكون ابنته أو أخته كائنا سلبيا، وعالة على نفسها وعلى الآخرين؟ القضية إذن ليست أخلاقية أو دينية، ولا حتى «إيديولوجية» بل هي مسألة عملية وبراجماتية، إن لم نتجرأ قليلا، ونقول بلغة «الماركتينغ» أنها في عمقها مسألة «استثمارية». ألقيت نظرة خاطفة على الحضور كما لو أني كنت أريد أن أستشفّ ردود فعله عمّا حكيته. كان الصمت سيّد الموقف، فواصلت كلامي. حاولت بدءا توضيح الفارق بين القانون والدين، بين»حقوق الله» و «حقوق الإنسان»، بين جزاء الله الأخروي وجزاء القانون الدنيوي. وشرحت أنّ تاريخ القانون هو مسار تحولاته اللانهائية بما أنه ينظم حياة مجتمعية تتطور باستمرار، وتتأكد نسبية وقائعها على الدوام. أما الأديان بشعائرها وطقوسها، بأوامرها ونواهيها، فهي بطبيعتها ثابتة، إطلاقية، تطمح لتجاوز عقبة المكان و تغير الزمان . لذا ينبغي التعامل مع القانون في نسبيته و مكانه و زمانه، كما ينبغي التعامل مع الدين في رمزيته وروحانيته دونما تحويل القواعد القانونية إلى خطاب ديني مطلق لا يتسع للنقاش، أو تحويل الأركان الدينية إلى خطاب في القانون أو السياسة أو الاقتصاد. و بما أن تاريخ الأديان هو، لسوء حظنا وحظها، تاريخ تأويلها، أنهيت تدخلي بالتساؤل عن العمل حين يحصل تعارض بين حكم ديني و تقنين وضعي، أو حينما يحول حكم ديني دون وضع هذا التقنين ؟ هل نظل طيلة حياتنا الحاضرة و الآتية معتكفين على التأويل، و لو بلي عنق الأحكام والأحاديث والآيات حتى تتماشى مع المستجدات؟ وما هي حدود التأويل أمام ما وضح أحكام؟ وهل هناك ضرورة منطقية تفرض علينا ملازمة «التأويل» أبد الآبدين؟ وهل نظل على الدوام ملزمين بالرجوع للماضي لتبرير الحاضر والتخطيط للمستقبل ؟ و ألا يمكن التفكير في وضع قوانين مدنية متفق حولها بدل تكتيف أيدينا بأحكام فقهية فات أوانها، واصفرّت أوراقها ؟ لم أكن لأقدّم جوابا عن هذه الأسئلة الشائكة، ولم أكن لأنتظر جوابا من الحضور. فالتاريخ وحده هو القادر على تقديم جواب عن أسئلة تتجاوز بكثير حدود التقنيات مهما كانت دقتها، وحدود الإرادة مهما كانت قوّتها. غير أنّ ما لن يفهمه «التاريخ»، ربّما، هو كيف يحدث، وهذا ما عاينته أثناء المناقشة، أن يدافع العبد عن عبوديته؟ كيف يحدث أن تدافع «امرأة» عن رهن حياتها في يد غيرها، بل وكيف تسير جنبا لجنب في تظاهرات مع من ينادي باستعبادها؟