في هذا الحوار، يكشف الكاتب والروائي محمد برادة عن بعض «عمله المطبخيّ» في روايته الأخيرة، «بعيدا عن الضوضاء، قريبا من السكات»، من خلال التمييز بين وصف الأحداث المعيشة، وبين خلق المسافة الضرورية والتخييلية لوصْفها. كما يتحدث عن علاقة الرواية بالتاريخ والسياسة والمُحافظة والتحديث. الأستاذ برادة، هل تسمح لي بالبدء معك بعنوان الرّواية، ما مبرر هذا الاختيار «بعيدا عن الضّوْضاء، قريبا منَ السّكات»؟ وما علاقته بمْضمون الرواية؟ n يمكن القول بأنّ العنوان يضع دائما عدة إشكالات ولكن عندما أكتب، عندما كنت أكتب الرواية، كنتُ فعلا أتراوح بين شعوريْن، بين مرحلتين: مرحلة الأحداث المكتظّة، الضاجة، ومرحلة التأمل عن مُسافة لما عشْته ولما اختزنته الذاكرة. إذن في نهاية الأمْر، قلت ربّما تكون مرحلة الضوضاء هي مرْحلة الأحداث المتلاحقة التي لا تتيح التأمّل والتوقف، ومرْحلة السّكات تصبح ضروريّة لأننا بحاجة إلى إعادة تحليل ما عشناه. هذا العنوان بطبيعة الحال لا يُحيل على المضمون، ولكنه يحيل على حالة نفسية رافقت كتابة النصّ. o الشيء نفسه ربما يمكن أن يقال عن الشخصيات الأربع. هل هذا الاختيار انعكاس لنماذج وجدت في الواقع وما تزال، أم أنها بناء تخييلي محض؟ أم أنها مراوحة بين الاثنين؟. n أظنّ أن فيها من التخييل الشيء الكثير، ولكن كما تعلم الشخصية الروائية هي دائما مركّبة، فيها ما اختزنته الذاكرة، فيها ما عايشته عن قرب، وفيها أيضا تأثير الرؤية العامة للرواية، بمعنى لا يكون اختيار الشخصيّة مجانيا على اعتبار أن كل فترة وكلّ مرحلة تشتمل على عدة نماذج وعدة شخصيات. لكنني أثرت أن تكون شخصيات هذه الرواية متوفّرة على قدر من الوعي وعاشت في سيرورة تقتضي تحول الوعي. من هنا يبقى التخييل أساسيا، وتصبح الإحالات السياسية والإيديولوجية جزءا من الإطار التاريخي الذي اصطنعته دون قصد إلى التأريخ، هذا هو المقصود. o أين يتجلى التخييل هنا؟ n يتجلى البعد التخييلي في تفاصيل الحياة، في السلوك، خاصة في القيم عندما تهتزّ عند الشخصية الواحدة، هذا هو الإطار المتحكّم، ومن ثمّ حرصت على أن تكون شخصية الراجي تنتمي إلى الجيل المتأخّر، إلى الجيل الشّابّ لتطرح أسئلة مختلفة عن الأجيال السابقة. o هل يمكن أن نعتبر كلّ شخصية على حدة بمثابة جيل بكامله، بوعيه، بأسئلته، بتناقضاته وأحلامه أيضا؟ n نعم ممكن. وهذا موجود بصورة ضمنيّة.ولكن كما قلت أنا كنتُ أحرص أكثر على تجسيد التحوّلات من خلال الشخصيات، لكن دون أن أزعم أنّ هذا التحوّل، وهذا التوْصيف يشمل جيلا بكامله. أنت تعرف أنّ جيلا يشتمل على سمات مشتركة ويشتمل على تناقضات الخ. ولكنْ فيه هذا الشيء. أنا آملُ أن أكونَ قد قدّمت عناصر للتمييز بيْن هذه الأجيال خاصة في مرْحلة الحماية الفَرَنسيّة. o هل يمكن القول إنّ التعبير الرّوائي يسْمح لك بقوْل أشياء، والتعْبير عن مواقف لا تستطيع التعبير عنْها بنفس الحرية في سياق آخر؟ n الكتابة الروائية التي تتوسل بالتخييل تتيح لك أن توحي بالدلالات، أن تستفيد من الالتباس المتولد عن السرد وعن الفضاء وعناصر إضافيّة، بينما الكتابة المباشرة تقود إلى منطقة المصطلحات والمفاهيم. وهذه المصطلحات والمفاهيم قد لا تكشف عمف الأبعاد الحياتية داخل مرحلة ما. ولذلك أنا أرى أن الحديث عن فترة تاريخية ما في المجتمع تقتضي تحليل جميع الخطابات التي تؤطر ذلك المجتمع: الخطاب الاقتصادي والاجتماعي والسوسيولوجي والإيديولوجي، لكن الخطاب الأدبيّ التخييلي قد يحمل سمات ويحمل إشارات لا نعثر عليها في المصطلحات المباشرة، وهذا ما يبرّر المعرفة الأدبية والروائية إذا جاز التعبير. o شخصية الراجي، وهو طالب متخصًّص في التاريخ اعتمد في سعيه إلى جمع المعطيات من الناس على الرواية الشفهيّة، وفي نهاية الرواية يودّ لو يحوّل هذا المكتوب إلى الشفهيّ. هل هذه رغبة السارد أم رغبة الكاتب؟ n ربّما هي رغبة الحلم، لأننا عندما نمارس الكتابة أو نمارس شكلا تعبيريا ما، دائما نصطدم بالحدود والحواجز. ومهنة الكتابة في مجتمعنا لا تتوفّر على كل الحريات، بمعنى أن عائق الأمية قد يحول دون الوصول إلى جمهور أوسع، ومن ثمّ هذه الفكرة التي كانت عماد التواصل السرديّ والحكائي في فترة ما في المجتمعات الشفهيّة ربما تعود الآن من خلال وسائط تقنيّة مختلفة، وأيضا أنا أرمز أو أقصد إلى أنّ الرواية يمكن أن تتوسل السرد الشفوي المصحوب بالموسيقى، بشيء يذكّر الناس بأنّ هذا الحكْيَ هو متعة وضرورة، ولكنه أيضا يحمل دلالات. إذن فالرّاجي في الرّواية كان في موقف المُحاصَر بالأسئلة. فعندما تتذكّر بأنه كان يعيش لسنوات في المؤقّت، وكيف يخرج. لقدْ راوده هذا الحلم، أنْ يحترف الكتابية الروائية، ولكنْ عوائق الأمّيّة وعوائق أخرى تحول بينه وبيْن التعايش من قلمه. وطبْعا، عندما نحلّل ففيها إشارات إلى ضيْق الحقل الأدبيّ الذي، رغْم سنوات، لا يسمح بعد بأنْ يتعيّش الكاتب من قلمه. o اختيار شخصية تهتمّ بالتاريخ، هل يمكن اعتباره مجرّد تقنيّة، أم أنه كان تعلّة للمتح منه والبقاء ضمن دائرته؟ n ربما كان يشمل الأمريْن معا، بمعنى أن فيه نوعا من المبالغة عندما ينادي الكثيرون بضرورة العودة إلى التاريخ وفهم ما جرى، وكأننا خلال الخمسين سنة الماضية كنا في حالة ذهول، أو حالة غفلة. وكأنما هذه العودة إلى التاريخ ستحل المشكلات. صحيح أنه لا يمكن الفكاك من التاريخ، لكن أيّ تاريخ؟ هل من خلال الإسطوغرافيا، أو التاريخ الرسمي، أم أن هذه العودة إلى التاريخ للبحث عن الثقوب الكثيرة التي يجب أن نملأها بما اختزنته الذاكرة، بما سجلته المذكرات والملاحظات المباشرة. أنا دائما أعاين أنّ بين التاريخ الذي عشتُه قريبًا من الفعل، والتاريخ الذي يقدَّم إلينا كصورة وكخطاب ينقل حقيقة المرحلة هناك دائما بوْن كبير، وهناك أحيانا تناقضات. إذنْ فالذين عاشُوا نفس التاريخ من زَواَيا مُتباينة يستطيعون أن يعدّلوا حقيقة هذا التاريخ وأن يغنوه ويكشفوا أبعادا جديدة منه. بمعنى لا يصبح التاريخ مقدّسا، أو أن القلّة داخل المجتمع هي التي تصوغه. وهذا ما يلتقي كما تعلم مع اتجاه تاريخ الحوليّات، أي الاهتمام بالتفاصيل في كل تجلياتها: في المطبخ، الملابس، الثقافة الشفوية الخ. وهذا ما يجعل قارئ الرواية ينتبه كذلك إلى أن تساؤله عن الماضي، ماضيه أو ماضي مجتمعه يمرّ عبر قنوات معقّدة، ولا يمكن أن يظلّ في مستوى المردّدات التعبيرية التي تفرزها الثقافة الرسمية. o اختيار شخصية المرأة لتمثل المحللة النفسانية في الرواية، ما سببه؟ خاصة وأن نموذج المرأة يكون أمْيل إلى المحافظة؟ n بصفة عامّة، حضور المرأة المغربية في العقود الأخيرة، داخل المجتمع المدنيّ، هو حضور قوي لأنها معنية، لأن المجتمع وضعها دائما في موقع الدّونية. وخصائص كثيرة تجعلها قادرة على التقاط بعض المجتمعات والجهر بالحقيقة. صحيح أن الوضع الذكوري الطاغي لا يسمح للمرأة بأن تقول كل الأشياء التي تريدها وتطالب بها، لكن مع ذلك أردت أن يكون باب الحلم، بالتغيير والحلم بتغيير السلوك، وبترير الكلام والكشف عن المسكوت عنه، أن يتم من خلال مبادرة المرأة. وهذا النموذج، نموذج نبيهة سمعان موجود بشكل أو بآخر في مجتمعنا. نحن عشنا قريبا من أوربا، عشنا المثاقفة بأشكال مختلفة، ولذلك يوجد هذا النموذج. وهي بعد تجربة متباينة في فرنسا تحسّ، عند عودتها إلى المغرب أنه هناك نقطة ما هي التي تلخص فيها مشروع التحليل النفساني، علما أن التحليل النفساني مشروع واسع ومعقّد، ولكن من بين عناصره الأساس التي يؤكّد عليها فرويد، هي مسألة الكلام. كلامُنا ليس بريئا سواء أكان واعيا أو لا واعيا. هي إذن من خلال هذا الكلام، الكلام المكبوت، الكلام المتواري خلف النفاق وخلف المواضعات الاجتماعية تريد أنْ تحرّض الناس على البوح وعلى الحديث. ومن هنا تحوّل صالونها، الصالون التي فتحتْه إلى مجال للفضفضة والجهر بالرأي في قضايا متعددة. المرأة المغربية تثبت أكثر فأكثر جدارتها وقدرتها. ولعلك قرأت عن نتائج الامتحانات في المدارس والكليات حيث البنات يتفوقن على الذكور، دون أن ننسى أن مشروعَ تحرير المرأة والدفاع عنه أسهم فيه الرجال بكيفية واضحة في المغرب. o بعد تجربتك الطويلة في النقد والإبداع، كيف يمكنك تقييم علاقة الخطاب النقدي بالإبداع اليوم؟ n هناك أبحاث ودراسات على مستوى من العمق تنجز في الجامعة وفي المعاهد من خلال الأطروحات، ولكن النقد العام الذي ينشر في الجرائد والمجلات هو الذي يطرح أسئلة التغيير. هل نستمر في التحليل التقني المتخصّص لجمهور لا يدرك كل المصطلحات والمفاهيم، أم أن هذه الكتابة النقدية الموجّهة إلى جمهور أوسع تقتضي تحويلا في الطريقة، أي أن تصبح وسيلة لتقريب النصوص إلى القراء وإثارة الاهتمام، وجعل هذا الخطاب الروائي والشعري والقصصي الخ، يندمج ضمن بقيّة الخطابات ويحمل معرفته الخاصّة. المسألة إذن معقّدة، ولكن أظن أن النقد يقتضي أيضا التحويل المفهوميّ، بمعنى أن يصبح خطابا لا يكتفي بالشرح والتحليل والتوصيف، ولكن يندمج في صوغ الإشكاليات المجتمعية الأساس. وأظن أن هذا الاتجاه بدأ يتبلور، وهذا ما جعلني في المدة الأخيرة أنتبه إلى أن الكثير من الأحكام التي أقمناها على أساس مصطلحات نظرية عن الرواية لا تنطبق على التفاصيل، أي على النصوص المفردة. من هنا بدأت أولي اهتمام للنصوص المفردة التي تتيح استخلاص اتجاهات وتطور معين في الشكل وفي الكتاابة. o أريد أن أعرف رأيك فيما يعرفه المشهد المغربي من دعوات تكفيرية تمس الكتّاب والمبدعين؟ n هناك بالفعل خطابات متعددة من بينها خطابات التكفير. وفعلا هذه المرحلة في المغرب هي مرحلة انتقال، بمعنى أننا خرجنا من منطقة أزمنة الرصاص لنرتاد أفق الديمقراطية، وهنو طريق صعب ويقتضي مواصلة النضال ومواصلة التفكير ومواصلة تطوير نظام الحكم، ولا شك أن أفق الملكية الدستورية القائمة على أسس من الشفافية سيتيح لكل القوى أن تعبّر بوضوح عن نفسها. لكن إلى أن نصل إلى هذه المرحلة، هناك فعليا خطابات تنبع من لا وعي مكبوت، من تأويل خاطئ للدين، من أشياء كثيرة تستغل في مجال السياسة، فعندما نتأمل هذا الحقل الخطابيّ إذا صحّ التعبير، سنجد أن الأدب كخطاب متميّز له مقتضيات جمالية وشكليّة إلخ، يصبح مطالبا بالتغيير والتكيّف. وأنا أظن أن مبرر استمرار الخطاب الأدبيّ الذي لا يتنازل عن القيم الفنية والجمالية، هو فيه أنه يحمل معرفة مختلفة، بمعنى أنه يتصل أكثر بمناطق المسكوت عنه، يتصل بأسئلة تظلّ في منطقة الظلّ، ومن ثمّ فنحن في مرحلة تقتضي أن نطرح جميع الأسئلة بدون تحفّظ بعد مرحة طويلة من الكبت، ومما يجب ولا يجب، وما تقتضيه السياسة وما لا تقتضيه، ولكن كل ما حدث في المجتمع المغربيّ، وخاصة في المجتمعات العربية وفي العالم، يسمح اليوم، بل ويفرض أن نجابه كل الأسئلة مهما كانت حرجة ومهما كانت شائكة ليتمّ التفكير فيها على أمد طويل وبجرأة. ومن هنا فإنّ الخطاب الأدبي الذي لا يلجأ إلى التنازلات، لا يلجأ إلى المداهنة يمكن أن يضع الأصبع على مناطق هامّة، مناطق تخاطب القارئ عندما يكون في وحدته أمام النص الأدبي. ولهذا فإن الكتابة الأدبية، مهما تميّزت، ومهما جنحت إلى الاستقلالية والخصوصية، تظل مربوطة الوشائج بالحقل الإيديولوجيّ والسياسيّ والتاريخي. الخطاب الأدبي له هذه المردودية التي لا تقتصر على مدّة زمنية محدودة، كلما كان الخطاب الأدبي بعيد الغور، بعيد المدى، كلما كانت تأثيراته مندمجة فيما نسميه «المتخيَّل الاجتماعيّ» الذي هو رحم التغيّرات. فعندما نقول: لقد تغيّر المجتمع، فلأن المتخيل الاجتماعيّ، على مستوى القيم تغيّر. تغيّر لأسباب خارجية، وأسباب اجتماعية تاريخية، وأيضا لأسباب ذاتية. قيمة الفرد كفرد عندما يصبح قيمة حقيقيّة تتمتع بالحرية وتتمتّع بالقول الجريء.