قد أكون أنا وقد تكون أنت، قد تكونين أنت أيتها الشاعرة والقاصة، الباحثة في علم الاجتماع والمدافعة الشرسة عن حقوق المرأة، قد نكون جميعا وبدون استثناء داخل هذا الفضاء الضاج بالزوار الملئ بالكتب، ورغم أن هذا الكاتب المهووس بذاته حد المرض النفسي، الغزير الإنتاج أكثر من زملائه، مدعو هذا المساء لتوقيع روايته الجديدة بإحدى قاعات المعرض، إلا أن أمله خاب نهائيا، إذا لم يحضر لجلسته الروائية سوى نفر قليل، أما الشاعر الجميل في انسانيته، الخجول والصموت الضاحك باستمرار، فقد أقسم زميله في الحرفة، على أن لا ينال جائزة، الشعر هذه السنة حتى ولو كانت على جثته، هكذا قيل أثناء مناقشات لجنة التحكيم! ياله من حقد دفين. بإمكان هذا الروائي والقاص والباحث والشاعر أيضا أن ينتظر قليلا لعل وعسى أن يأتي إليه جمهور المعرض لسماع صوته الجهوري، ويوقع روايته، بإمكانه أن ... فملاقاة الجمهور ومحاورته هي رغبته الحقيقية والمبتغاة. ثم ما الذي سيخسره إذا لم يحضر له أي أحد؟ لا شيء، سيأتي إليه بعض أصدقائه وسيجد فيهم كامل العزاء، هكذا سيتفقد القاعة المخصصة للقاء داخلا وخارجا، مستعينا تحت الضغط النفسي، بوابل من السجائر الواحدة تلو الأخرى في انتظار امتلاء القاعة، وإلى الآن، فإن الجمهور يمر أمامها دون أن يعير أي اهتمام لهذا الكاتب الروائي القادم من أعماق نفسه المريضة بالتضخم. في المعرض ضجيج وصوت المذيعة في الميكرو يعلن عن جلسة أخرى لكاتب آخر يعرفه شخصيا لكنه يحقد عليه لله فسبيل الله، لماذا؟ ثمة حساسية ثقافية قديمة بين هذا الكاتب النرجسي وبين الكاتب الآخر الذي لا يعيره أي اهتمام. ثم ما معنى أن يصدر كاتب ما أربعة كتب في السنة؟ قال الناقد الحصيف إنه يتلهف على جائزة الكتاب السنوية التي منحت لغيره، بل يقول كان هو الأجدر بها من غيره. إن المسألة كلها غيرة، مجرد غيرة، تماما مثل غيرة النساء، لذلك فهو لا يفتأ يشيع عن زملائه الكتاب الأقاويل والأكاذيب الملفقة والمفتراة، هل رأيتم أيها القراء كاتبا ما مريضا بنفسه إلى درجة العصابية؟ هو ذا هو. يدخل زوار ويخرج زوار، نساء ورجال وأطفال وإسلاميون ملتحون قويو البنية الجسمانية مثل الفولاذ! أنا شخصيا كائن ضعيف الخرقة ومعلول لا أقوى على مجابهتهم، أما صاحبنا فهو قوي البنيان، أنيق إلى درجة الرداءة، معتن بنفسه إلى أقصى درجة، وخارج المعرض، كان الشاعر الجميل في إنسانيته يحتسي فنجان قهوة، صحبة زملائه، ويحلم بقصيدة تفك له المحن، أينك يا زفزاف ويا أيها الجوماري وبركات؟ أينك أيها القاص المؤسس القطيب التناني؟ محمد بيدي؟ بوعلو؟ السحيمي؟ الهرادي والخملشي؟ تعالوا من قبوركم لتؤثثوا جلسة الكاتب الكبير؟ أنا في المعرض، أنتقل من رواق إلى أخر، أشتري الكتب التي تهمني وأتغاضى عن الكتب الأخرى التي لا تهمني، فهل حان وقت الحضور إلى قاعة الروائي لتوقيع روايته؟ مازال... سأعرج عند الناشر الشحيح لأستخلص بعضا من مبيعات مجموعتي القصصية الأخيرة المسماة »»والو»، وجدته يحتسي قهوته الباردة، سلم علي ببرود تجاري وفهم قصدي، قال لي إن مجموعتك لم يبع منها إلا بضع نسخ، وأضاف إنك غير مقروء، أهاه! كيف وأنا لدي أكثر من أربعين كتابا موزعة ما بين الرواية والقصة القصيرة والنقد و البحث الأكاديمي والترجمة وأدب الرحلة والسيرة الذاتية؟ كيف؟ قال إنها أزمة قراءة في المغرب، أجبته: هل لديك على الأقل مائة درهم لأعود أدراجي بالقطار؟ ابتسم ابتسامة خفيفة وسكت، إن هؤلاء، الناشرين ليتذرعون دوما بقلة القراء، فلماذا ينشرون؟ خرجت من رواق الناشر التاجر أجر أذيال الخيبة وقلت في نفسي الحزينة لماذا أكتب إذن؟ لكن روائينا الكبير له رأي آخر: أنا أكتب فقط وليقرأ من يريد أن يقرأ، ثمة و سائل الإعلام تنشرني على نطاق واسع، هكذا نجد نحن القراء صوره وأخباره في هذا المنبر وذاك. نحن الآن في قاعة الكاتب، لا أحد إلا هو وبعض الحضور القليل، كان بجانبه ناقد حصيف يقام له ويقعد، قدم للكاتب روايته الجديدة وتركه يقدم هو نفسه هذه الرواية التي صدرت حديثا تسبقها دعاية صحفية لم تنلها روايات أخرى، وأثناء التقديم بدأ بعض ذلك الحضور القليل بالانصراف نظرا لتلعثم الروائي في كلامه، أما أنا فبقيت أنتظر نهاية اللقاء، أنهى المؤلف كلامه وأعلن عن حفل التوقيع، لم يبق في القاعة إلا أربعة أشخاص، وقع المؤلف نسختين من روايته الحداثية التجريبية (من تجربة الكتابة فقط) وأغلق الجلسة، أخرج علبة سجائره الأمريكية وأشعل سيجارة ونفث في الهواء، قال في نفسه تبا لهذا المعرض، ليس هناك قراء في المغرب، خرج مسرعا إلى سيارته الفاخرة يطوي الطوى توا إلى البار. - آرا واحد هينيكن باردة، من يقرأك؟ أجاب الناقد: وهل تكتب فعلا؟